فاطمة ناعوت
(مصر/زيورخ)

رئيس البلدية يركب الدراجة والشاعر الكبير ينام فوق العشب

فاطمة ناعوترجل في منتصف العمر يركب "موتوسيكل" وفوق رأسه خوذة واقية، وإلى جواره امرأة شابه تقود دراجتها، يتوجهان إلى قاعة المسرح في أحد أحياء مدينة زيوريخ، حيث يلقي الشعراء قصائدهم في "مهرجان المتنبي" الذي يقيمه كل عام المركز العربي - السويسري "غاليري الأرض" في حزيران من كل عام. يترجّل الرجل والمرأة بعد أن يجعلا "الموتوسيكل" والدراجة في الأمكنة المخصصة لذلك، ثم يدخلان القاعة فيما المرأة تتأبط ذراع الرجل. سألت نفسي، بصفتي من الشعراء العرب المشاركين في المهرجان: تُرى ماذا يعمل هذا الرجل الذي يأتي ليستمع إلى الشعر في بنطال من الجينز وفوق رأسه خوذة؟ عامل بناء؟ كهربائي؟ جميلٌ والله أن يمتدّ جمهور الشعر ليشمل فئات البروليتاريا في هذا الزمن الذي عزّ فيه جمهور الشعر! لكن مهلا، أقول لنفسي، لا تنسي أنكِ في سويسرا، والشعر الحبيب لم يفقد جمهوره في أوروبا بعد. اطمأننتُ إلى أفكاري القيّمة ودخلتُ القاعة لأنتظر بدء الأمسية الشعرية. فاجأني علي الشلاّه، الشاعر العراقي ومدير المهرجان، وراح يجذبني من ذراعي قائلا: تعالي لأعرّفك الى شخصية مهمة. وجدتُ نفسي أمام ذلك الرجل ذي الخوذة والجينز، وقرينته الحسناء ذات الدراجة والجينز أيضا. يقول الشلاّه: رئيس مدينة زيوريخ وقرينته، هي صديقته لكنهما يعيشان معا منذ عشرين عاماً!

إلى أي مدى يمكننا، نحن العرب، أن نستوعب أن تخرج شخصية عامة سياسية، الرجل الأول في إحدى أهم مدن أوروبا، فوق دراجة بخارية؟ وحيدا، من دون حراسة وبلا موكب وتشريفات ورجال أمن ورجال صحافة، إلى آخر هذه "الحتميات" التي يحيط بها ساستُنا أنفسهم؟ وإلى أي مدى نفهم أن تحضر السيدة الأولى من دون ماكياج يذكر، في بلوزة بسيطة وحذاء رياضيّ خفيف؟ وإلى أي مدى نستوعب مثلا أن ينام أحد أكبر شعراء أميركا فوق عشب إحدى الحدائق العامة، سام هاميل، الشاعر الذي رفض دعوة البيت الأبيض له تضامنا مع شعب العراق رافضا قرار الغزو الأنغلو – أميركي، صاحب موسوعة "شعراء ضد الحرب" التي ضمت قصائد مئات الشعراء الأميركيين مناهضةً قرار غزو العراق ومستنكرةً سياسة أميركا في الشرق الأوسط؟ هذا الشاعر الكبير لم أره إلا مجرد طفل مرح يلهو معنا ويرقص ويمازح ويطلق النكات. وحين تعبنا من التجوال في جنيف وجلسنا على الأرض لنستريح، جلس معنا بل ونام فوق العشب ملء جفونه عن شواردها. في بنطاله الجينز قرأ قصائده، من دون ربطة عنق ومن دون قميص بياقة عالية. الشيء نفسه رأيته من الشاعرة فاليري جيليس، أهم شاعرات أدنبرة في اسكتلندا. كنا انتهينا للتوّ من ورشة الترجمة في كرير، إحدى القرى الصغيرة على الساحل الغربي لقارة أوروبا. قرية جد صغيرة تطل على المحيط الأطلسي. لا شيء فيها سوى بيت واسع، معظم جدرانه من زجاج ومسقوف بالقرميد الأحمر المائل شأن بيوت أوروبا. قرية جد صغيرة لا شيء فيها سوى مروج خضر ترعى فيها الأغنام، وعدد لا يحصى من الأرانب البرية التي تحفر لها أنفاقا تحت الأرض للاختباء من الإنسان والضواري. في هذا البيت أمضينا نحن ستة من الشعراء من جنسيات مختلفة سبعة أيام نترجم قصائد بعضنا البعض، كلٌّ إلى لغته الأم. وبعد انتهاء ورشة العمل أقمنا حفلا موسيقيا لنكافئ أنفسنا بعد جهد مضن وعمل دؤوب. في هذا الحفل، رقصت الشاعرة البريطانية ذات الخمسة وسبعين عاما، فاليري جيليس، كأنما هي فتاة في العشرين، بينما أنا ارتبكت خطواتي جوارها وبدوت عجوزا يكبّلها الخجل وتعوقها الشيخوخة! هل الشيخوخة قرار؟ نعم، أظنها كذلك. وهذا اكتشافي الخاص. الشيخوخة المبكرة قرار عربي في الغالب. نحن العرب نعتبر أنفسنا مسنّين حين نصل إلى الثلاثين، ونشرع في انتظار النهاية عند الأربعين. دعوت صديقتي يوماً إلى بيتي، وقلت لها بعد الغداء أن نركب الدراجة ونتجول في مدينة الرحاب، ما رأيك؟ نظرت اليَّ باستنكار كأنها أمام معتوهة وقالت: تركبين دراجتك وقد تخطيتِ الأربعين!
كم نحن شكلانيّون جدّاً! نقيم كثيرَ اعتبارٍ لرأي الناس فيما لا ضرر منه على أحد. نحرم أنفسنا من أشياء مبهجة تغسل الروح والنفس خوفا من نظرات الآخر. بينما لم نتعلم بعد أن احترام الآخر يعني المحافظة على حقوقه وأداء عملنا على النحو الأتم، والذي هو طوال الوقت موجّه الى مصلحة الآخر. فالمهندس يبني من أجل آخرين، والطبيب يعالج آخرين، والموظف يرعى شؤون آخرين. والجندي يدافع عن آخرين الخ. واجب كل من سبق أن يتقن عمله احتراما لهؤلاء "الآخرين". هذه، فحسب، هي حقوق الآخرين علينا. المساعدة وعدم الإيذاء. أما بهجاتنا الخاصة البريئة فأيّ ضرر منها على الآخرين حتى نقمعها في دواخلنا؟!

سوف نجد هذا المشهد مألوفا في أوروبا ودول الشرق الأقصى. امرأة مسنّة طاعنة في العمر تمسك بيسراها مظلة تحت المطر، وباليمنى تقبض على مقود دراجتها المثبّتة عليه سلة معدنية من أجل مشترياتها، أو تحمل حقيبتها لو كانت في طريقها إلى العمل.
الاستمتاع بالحياة والتواصل مع الطبيعة في صورها البسيطة منهج غربي بامتياز. المتعة التي أقصد ليست هي المفهوم العربي عن المتع المشهورة: الطعام والجنس والمال والسلطة، بل هي المتع في صورها البسيطة والعميقة في آن واحد. الركض في الشارع، ركوب الدراجة، التجول في الحدائق، تطيير البالونات من فوق البرج، تطيير الطائرات الورقية فوق سطح البناية، كما غنّت فيروز، النوم على العشب والتحاف السماء، كما قال جبران، قراءة كتاب في المترو، التهام هرم من "غزل البنات" في الشارع من دون خجل من "تريقة الناس". في اختصار، أن نعود أطفالا لا يقيمون وزنا لرأي "الآخر". قمة النضج عندي أن نظل أطفالا. ربما لهذا السبب قال بيكاسو يوما: هل كان يجب أن أعيش ستين عاما لكي أرسم مثل طفل؟ فأجمل لوحات بيكاسو وأنضجها هي تلك التي حين نراها نظن أن طفلا رسمها. عندما كنت في الصف الثاني في كلية الهندسة، قال لنا أستاذ نظريات العمارة فاروق الجوهري في معرض شرحه كيف نصمم حضانة أطفال: الطفل لا يقدر أن يفهم الخط المستقيم، فكل عالمه دوائر وأشكال منحنية. لذلك هو أكثر سعادة وفرحا منا نحن الذين نشيخ سريعا. نشيخ بقرار ذهنيّ. مثلما نموت بقرار ذهني.

النهار
اكتوبر 2007