فاطمة ناعوت
(مصر)

موقف بحرْ

فاطمة ناعوتالكوخُ
مازالَ هناك
يرجِعُ صوتَ فيروزَ
فتموءُ القططُ
ويتساقطُ الطلاءُ عن جدرانٍ
أجهدَها المِلحُ والسكونْ.
المكانُ هنا
على مرمى رغبةٍ
تخايلُ المرأةَ والرجلْ
فيصدِّقُ المحلّفونَ
على قرارِ السيارةِ
برفعِ مؤشرِ الحرارةِ إلى الدرجة القصوى
تمهيدًا لتوقفٍ حتميٍّ
بمحاذاةِ البحر.

لكنَّ المرأةَ
تخافُ تصدِّعَ المرايا
وضياعَ الحُلمِ القديمِ من الأصابعِ
فتكملُ مسيرةَ الملحِ
صوبَ القاهرة.

هناكَ المكانْ
والرجلُ تأخذُه العِزَّةُ
فيمضي
لينموَ فوق السطحِ
خطٌّ متعرِّجٌ جديد
ويزدادَ خوفُ امرأةٍ
تدركُ أن كلَّ تصِّدعٍ في المرآةِ
يتلوهُ انسلالُ خيطٍ
من حريرِ العباءةْ.

الواحدُ
يفضِّلُ أن يكونَ واحدًا
والواحدةُ
تنكمشُ في المدى
ستغدو صِفرًا
حين يمسُّ الماءَ
حبلُ البالونِ الأزرقْ.

المكانُ الطَّيّبُ هناكْ
والسلاحفُ
لا تعبأُ بانكسارِ الظلِّ
لأنها تعودتْ أن تموتَ مبكرًا
قبلَ أن يصحو الصيادون
وتكنسَ الشمسُ السواحلْ.

البحرُ ينتظرُ عند الحافةِ
والمكانُ في مكانِه
يقاومُ الإزاحةَ كعادتِه
بينما الكلابُ والقططُ والصحونُ والنِفَّريُّ
مازالوا صابرين
لكنَّ شيئًا غابَ في الرملِ
فحرَّكتِ المرأةُ الكوخَ بإصبعِها
إلى خانةِ الفكرةْ
كي يظلَّ في مأمنٍ
من عواملِ التراكمْ.

البنتُ التي علقّتْ فستانَ العُرْسِ
على سورِ الحديقةِ
كي تسكنَهُ القططُ ثلاثَ ليالٍ
لم تعدْ تقايضُ على دفاترِها بالفرَحْ
ولم تعدْ تبيعُ للصغارِ أكياسَ الحلوى
في انتظارِ عودةِ الأبِ المغدورْ،
وكفّتْ منذ الأمسِ
عن سؤالِ الحواريين حولَ القيامة،
فقد تعلّمتْ
أن المرايا المشروخةَ
تشتعلُ غضبًا
إذا ما رمقَها المارَّةُ في الضَّوءْ،
لكنّها في الليلْ
تنامُ وادعةً
في حقائبِ النساءْ
مُطْرِقةً
على صُدوعِِها.

القاهرة / 5 مارس 2004

*****

مغنٍّ قديم

أوقفناهُ في الشِّعرْ.
فقالَ:
"تمنيتُ أن أكونَ إلهًا !"
وراحَ في غيِّهِ
يستقْطِّرُ المِدادَ وروحَ الدلالةِ
من عيدانِ خيزُرانٍ،
سكبتْ فناءَها في غاباتٍ
تُطِّلُ بوجهِها الباردِ
على خطِّ الاستواءْ.

المغني القديم
راح يجنحُ نحو مجاهلَ
عميقةِ الإعتامِ
تنتهي عند سبَّابةِ " عبد الصبور"
في مسرحِ الجامعة
وهو يعلنُ انتهاءَ العرضِ بموتِ الراويةِ
إثرَ سكتةٍ دماغيةٍ
باغتتْه قبل إسدالِ الستارِ بدقيقة
نتيجةَ طولِ النصِّ الشعريّ
وغيابِ
مسافريّ الليل.

أوقفناهُ في الشِّعرِ
فظلَّ يقتنصُ من كلِّ ساعةٍ لحظةً
كي يكَّوِنَ في عشرينَ سنةً
مرآةً
مغبَّشةَ الزجاجِ
مقعَّرةً
يرقبُ فيها انعكاسَ جميلتِه القديمة
خلفَ حوانيتِ قاهرةِ المعزّ ،
فيرتدُّ إليه بصرُه
عند بدايةِ القرنِ ،
كأنه هو
كأنها هي
كأن الجامعةَ أفرغتْ حملَها
واستراحتْ.

سيكون بمقدورِنا استكناهُ الأمرِ
على نحوٍ معقولْ
إذا قامرَ على حصانٍ آخرَ
له سابقُ عهدٍ
بالحواجزِ والباحاتْ .
حِصانٌ
لا يخسرُ دائمًا
ولا
يقتلُه مكعَّبُ السُّكرِ
بمجردِ أن يمسَّ لسانَهُ
رحيقُ المرَّةِ الأولى.

سنهيئ له فرصةً أخيرة
نوقفُهُ في التخلّي
ليرصدَ وجهَها في مَحاقِه
شاحِبًا
مصدوعًا
و موغلاً في السقوط.

القاهرة / 20 يناير 2003

*****

المشاءون

المترفون
ذوو الأقدامْ،
لا مِلْحَ في معاطفِهم ،
ولا قذىً
يسحبُ الرؤيةَ إلى الورقْ.

هناك،
حيث الشجرُ يختلطُ بالظلامْ
ينسى الرَّبُ أمتعتَه
داخل الكهفِ ،
فيأتي العابرونَ
يلتقطونَ الحياةَ ويمضونْ
بينما الفقراءُ
ذوو العكازاتِ
و النظاراتِ الطبيَّةِ الموبوءةِ بالقراءةْ
ينتظرون الموتَ الذي
دائمًا يتأخر.

بماذا قايضنا على الفرَحْ ؟
حيثُ الكلُّ يخشى الاقترابْ
لأن الشللَ
مُعْدٍ
و العميانَ
يفكرون كثيرًا.

المترفونَ
ذوو الحُلْمْ
يحيكونَ نهاراتٍ واسعةً
تناسبُ شبكاتِ الطُّرُقِ المعقَّدةَ
وتستوعبُ ضجيجَ الكلاكساتْ
التي لا تُغضِبُ أحدًا،
وفي المساءْ
يحوِّلونَ الحُلمَ أجنحةً
وكؤوسَ نبيذٍ
وحواديتَ.

الطفلُ الصامتُ
يعرفُ الأمرَ كلَّه
لأنه استنقذَ مدينتَه من الأمهاتِ المبتسراتِ
ناقصاتِ النموِ
ذواتِ الذاكرةِ الممسوحةِ
و كراسي المقعَدين،
الأمهاتِ اللواتي يقرأن كثيرًا
ولا يُجِدْنَ الطَّهوَ
ولا الجلوسَ إلى التليفزيون،
الطفلُ ذو الحدسِ
رماهُنَّ في المنفى
لأنهن يسقطنَ المشابكَ دومًا
قبل اكتمالِ السطرْ.

المارّةُ المترفون
الذين يخشَون العدوى
تنمو لهم أحداقٌ كثيرة،
و أقدامُهم
تبتكِرُ معانيَ جديدةً
للتوازي والتقاطعِ والتعامدِ
لأن الأرصفةَ
تألفُ الأحذيةَ
وتطمئنُ أكثرَ لملمسِ أقدامِ الحُفاة
لكنَّها
لا تصفحُ عن ذوي العصا
التي تفقأُ بلاطَها
و تجهضُ جنادبَ نشطةً
تتهيأُ للأمومةْ.

الأرصفةُ تستعدُ للثأرِ
وأنا
أفكِكُ الصواميلَ
عن قدمي.

القاهرة / 1 نوفمبر 2003

****

المُتْعَب

"ريمُ"
لن تعودَ
فالحوذيُّ ماتَ
والحِصانُ
يتأملُ الحالَ الجديدة.

تدبَّرْ أمرَكَ إذن
ثَمَّ سبيلٌ للنجاة
بغير الحاجةِ إلى البرابرةِ
أو البكباشيِّ
طويلِ العنق.

لو أمكنَكَ مثلا
التسللُ من بروازِ الردهةِ
قبل سقوطِه الحتميّ
ربما نجوتَ من تهشِّمِ الدماغْ
والأخطرُ
ستنجو من المساءلةِ القانونيةِ
بسببِ ضياعِ دفترِ أحوالِ العائلة.

الحصانُ يعلمُ
أن استبدالَ مجموعةٍ قصصيةٍ وحيدة
بأربعِ عجلاتٍ خشبيّةٍ متصدِّعة ،
أمرٌ مضحكْ،
فقد أثبتَ المحلّلونَ
أن إزاحةَ الطاولة،
مليمترًا كلَّ يومٍ
عن مكانِها الأصل ،
طبيعيٌّ
مادامَ الكونُ يتقلصْ
والهالاتُ السوداءُ حوْلَ عيونِنا
تزدادُ اتساعًا،
سيّما
وقد أفلتَ المجرِمُ من الدَّرَكْ
بعد أن خبأَ "ريمَ " في جيبِه.

المتعَبون
بوسعِهمْ أن يناموا
في شرفةِ البيتِ الأبيض,
أو ينفجروا.
وبوسعِنا
أن نكفَّ عن القراءةِ
حتى تذوبَ أطباقُ النُّحاسِ
في جفونِنا المشدودةِ
إلى القمرِ.

بوسعِنا
- نحن الذين لا نُجيدُ الحساب -
أن نسلّي انتظارَنا
بالجلوسِ إلى التليفزيون
ومراجعةِ لسانِ العرب :
نعَتَ ... ناعِتٌ ... ناعوت
نَصَرَ ... ناصِرٌ ... ناصريون
ريمُ... ظبيٌّ صغير.

الرجلُ
الذي زحفَ على بطنِه من أعلى الجسرِ
مازال يخشى المصاعدَ،
الجيرانُ
مازالوا في الشرفاتِ
يثرثرونَ عن المرأةِ والرجلْ،
والحاسوبُ المعطَّلُ
مازالَ معطَّلاً،
بينما الخادمةُ
تُطعِمُ الكلبَ أرزًا ولحمًا،
لأن عمرَ
مازال صامتًا،
لو تكلَّمَ
سيأتي البرابرةُ
و تنتهي القصيدة.

نحنُ فرِحونَ
لأننا نمتلكُ عيونًا
تجعلنا لا نعجبُ
"من راغبِ في ازدياد"
ذاكَ أنّ لنا لزومياتٍ أخرى
و رِهاناتْ.

لا تقلْ
"واللهِ العظيم تعبتْ"
يلزمُنا أن نتتبعَ سيرَ النورسِ
وحين يختفي من الأفق
نراقبُ ظلَّه السابحَ
على وجهِ الزرقة،
حيث الزجاجةُ
- التي ورقةٌ في جوفِها -
تنتظرُ قدومَنا
مثلما ننتظرُ القادمين.

أما "ريم"
فلم تعد مريضةً
فقد ذهبَ العراقُ
ونشرَ الرجلُ قميصَه على الحبلِ
بعد عصرِه جيدًّا
من بقاياها.

القاهرة / 25 نوفمبر 2003

********

فصل ألوان

بين الأسودِ والأبيضْ
تتعطلُ الأزرارُ
فيَسْهُلُ أن تباغتَ ذراعاكَ غفوتي.

تلقي على الأرضِ سجادةً فارسيةً
(لفتّني أمي داخلَها
منذ الصرخةِ الأولى)
تتدحرجُ على البلاطِ
وتنبسطُ
فينفلتُ جسدي
من طيّاتِها.

في منتصفِ المسافةِ
بين الليلِ والنهار
يَسْهُلُ أن تلمحَ أصابعي
تمرُّ فوق تضاريسِ المعبد،
هي تحاكي أظافرَكَ التي
رسمتِ الجرنيكا فوق ظهري .

"الكلامُ على الكلامِ صعبٌ"
لكن الرسمَ جائزٌ على الرسمِ
سيّما
وقد أثبتَ الشِّعرُ
أن عينيكَ مدرّبتانِ على فصْلِ الألوانْ
في غبَش الحضاراتْ.

في لحظاتِ الشرودْ
بين العتمةِ والنورْ
يكسبُ الرجلُ الرِهانْ
غير أن المرأةَ
تنجحُ في التعرفِ على ملامحِها
بين " شلالِ الأجسادْ "
التي أراقَها أنجلو فوق حوائطِ الكنيسة.

لا فضلَ لعربيٍّ على عربيّة
إلا بمقدار تكاثفِ خيوطِ الشرانق
حول جيدِها
وحبكةِ السردِ التي نخلعُ على عتبتِها أجسادَنا.

ليس بوسعِكَ الفرحُ
بسقوطِ الملكةِ في النقلةِ الأخيرة،
فتقاطعُ لحظاتِ الوصولْ
- عندَ انعطافاتِ الحُلْمْ
وتعطّلِ الكوابحِ وقتَ الفجر -
يجعلُ الفوزَ زائفًا
خارقًا لقانونِ
"كِشْ.... ماتتْ".

كلُّ خديعةٍ تكسرُ أنثى
" لا يعوّلُ عليها "،
مادام للرجلِ مثلُ بطشِ المرأتين.

الفكرةُ:
أن إغواءَ المسيحِ الأخيرَ
كان أخيرًا
واستجاباتِ الخلايا عند التواءاتِِ الفروع
أمرٌ قابلٌ للجدلِ
مادام اليومُ يتكئُ على عصًا مشطورةٍ
بين الأسودِ
والأبيضْ.

القاهرة / 21 مارس 2004


إقرأ أيضاً: