عند مدخل المدينة الأول المحسن و المشجر بغرسات صغيرات موزعات على طرفي الأتوستراد و في منتصفه. جديدة، لكنها جافة و بطيئة النمو و مغبرة مثل كل المحاولات. كانوا يمكثون الليل والنهار. في أيام البرد يشعلون النار و يتحلقون في صمت وانتظار وصبر، و في كل الفصول ينتظرون.
تنتشر الشائعات أن هناك دفعة من الرجال عائدة من مجهولها. يتركون ما بأيديهم، يهرعون إلى مدخل المدينة. ينتظرون بكآبة ويأس عودة الابن أو الأب أو الأخ أو القريب العزيز، وأهل الضفتين و الجسر أقارب، الجميع يقرب الجميع، بقرابة بعيدة أو قريبة. أو.. ينتظرون عودة صديق خطف من صديقه على غفلة وغاب عنه دون خبر. كانوا يتناوبون في مهمة الانتظار، بأمل ضعيف وخوف على أمه المشتاقة لوجه ابنها، أو زوجته المنتظرة عودته كي يخفف عنها وحدتها و تعبها في تربية أولادهما، أو ابنته الصبية التي تتوق لرؤيته كي تكون معجبة بأبيها، فقد قضت الابتدائية والإعدادية والثانوية يسألنها معلماتها عن أبيها فتجيب بصوت خفيض: غائب، مفقود. ولم تكن تحتاج لتوضيح أكثر، فالجميع مصاب بالغياب والفقدان، لذا تقسم العائلة الواحدة بعضها إلى فرق للانتظار، تؤدي مناوبات ليلية ونهارية. تعود الفرقة الأولى للبيت كي لا تقول لصاحبة البيت المنتظرة خبر عودته ، أيّ خبر و تؤجل الأمل لليوم الثاني.
فجأة يشق ضوء الباص الكبير من بعيد برد الليل وسواده، فيتدافعون إلى الحافة الأولى، و يتجمعون قاطعين جزءاً من الشارع، و قبل أن يتوقف الباص تماماً، يهجمون هجمة واحدة على الأبواب والنوافذ وتعلو النداءات، أصوات رجال ورجاء نساء وأطفال. ينادون متوقعين وصول، بابا.
تتردد أسماء كثيرة بكنية واحدة فالجميع أقارب. يردد السائق ومعاونه والركاب المسافرون، بتوسل لله وقدره، الأسماء المناداة بتعاطف دامع. ولكن .. من بين مائة عائلة تنتظر، تحظى عائلتان بغائبيهما، وتغادران معتذرتين متمنيتين بحرارة صادقة عودة بقية الغائبين.
عند عتبة درج بيتها تنتظر فطمة عودة أخيها الذي أخذوه مبللاً ثيابه ببوله، من خوفه. من خلال الرؤوس المزدحمة استطاعت أن تتبين رأساً يبدو كآوونة * صغيرة تتخلل سطحها الناعم خرمشات هي شعيرات نابتة ـ إنه أحمد الغائب. رأت هذه الشعيرات كزغب فراخ طيور حديقتها:
ـ و الله .. و حق الله .. أحمد.
قبّلته من كتفيه، وتمرغت بصدره وهي تردد:
ـ الحمد لله ، الحمد لله.
جاءتها أصواتهم جميعاً مهنئة دفعة واحدة، تمنت أن يغادروا.
ـ هل تريد أن تنام قبلاً أم تغتسل ؟
ـ ألم تجدي غير هذه البيجامة ، لقد أخذوني و كنت مرتدياً مثلها.
ـ و أخذوا الجميع و هم لابسون مثلها.
لم يكن يرفع رأسه مطلقاً و لا يفتح عينيه، يقول كلمته و يسارع إلى خفض وجهه، راصاً يديه الممدودتين إلى جنبه.
نظرت إليه يتناول فطوره ببطء ثم بسرعة. يأكل فتات الخبز التي تسقط منه بأصابع صفراء ناتئة العظام، و يصمت طويلاً، هزيل هو، هزيل، إنه يكاد يتكسر على كرسيه.
هناك في المكان الذي لا يتسع لأكثر من خمسين رأساً مزدحمين، كان يحشى فيه مائتان ينامون على سيوفهم* راس وعقب. كتلاً لحمية، كانت رجالاً، قبل الغياب. سوف يقع برأس أي واحد منهم أو أكثر من واحد لقب المعلّم بفتح العين وشد اللام. المعَلَّم هو صاحب العلامة، و العلامة هي قرار ذلك العسكري الذي تصاعد في رأسه. يطلقه على ضحيته إن تحركت أو تنفست أو حتى إن لم تفعل أي شيء. كم يشتاق العسكري للقاء " المعَلَّم". يبدأ وجبته الشهية في فترة التنفس الصباحية للكتل اللحمية، بسلسلة من الشتائم كمقبلات، ثم يهوي بسوطه الحديدي على جسد صاحب العلامة، ثم بالعصا الحديدية، بعد ذلك يرمي السلاحين، شوكته وسكينه، ليلتهمه بيديه و هو يكزّ على أسنانه من اللذة، وبعد أن يمل من يديه، سوف يسقطه أرضاً و يدعسه بحذائه الحديدي، وعندما يحس بعظام المعَلم تتكسر تحت قدميه، سوف يصل ذروته و يتركه يزحف إلى باب المكان الذي تتزاحم عنده الكتل اللحمية التي تنفست حتى الاختناق، والتي ستسمح للمعلَّم أولاً بالدخول متحملين سوطاً على الظهر أوعلى الرأس أوعلى الأضلاع. سوف يستلقي المعَلَّم منهنهاً في مكانه المعتاد يعاني من الأوجاع الشنيعة حتى يحين الليل، عندها سيجلس العسكري نفسه القرفصاء عند النافذة العلوية، كي يراقب الضحية المقبلة، و يا لسوء حظ من يغفو و يتقلب في نومه أو يتحرك أو يتنفس، فسوف يأخذ لقب المعلَّم كي يجر في الصباح إلى جلاده و يؤكل . سيجر المعلَّمَ إلى العسكري معلَّمٌ آخر كان دوره في الحراسة ـ ماذا يحرس ؟ لا شيء ، إنهم ميتون، لكن في كل ليلة يوجد حارس منهم عليهم ، يقف عند دورة المياه، إذا صحّت تسميتها كذلك، ويحبس نفَسَه مع النائمين الواضعين "الطماشة"* مترقباً بكل شعرة من جسده شهوة الجالس القرفصاء عند النافذة العلوية. لن يتجرأ أن يرفع وجهه و يرى فخذي العسكري ملتصقتين بحذائه الحديدي كمن يود أن يقذف فضلاته في وجوههم، أما الحارس السجين فلن يتجرأ حتى على أن يكرهه.
كان دور أحمد في الحراسة. وقف عند حائط "بيت الأدب"، يستنشق هواء الفضلات حابساً تنفسه، ليس قرفاً، بل خوفاً. كان أحد تلك الكتل النائمة المعصوبة العينين يعاني من ضيق شديد بالتنفس:
ـ لابد أن أزمة القلب داهمته، سيحتاج لكأس البلاستيك كي يضغط بكل ألمه على صدره حتى تنتهي الأزمة.
هكذا اعتاد أن يعالج المريض قلبه. تحرك ، غصباً عنه تحرك ، خانته إرادة الخوف واستطاع العسكري من نافذة المهجع أن يراه، صرخ: يا كلب يا حارس علِّم هذا و أحضره غداً على التنفس. ليس أمام أحمد إلا أن يجر المعلَّم و يريه وجهه ، كيف تجرأ على القول:
ـ سيدي إنه يعاني من أزمة قلبية ..
ـ يا … يا ، يا..
ثم بعد بصقة سخية:
ـ تدافع عنه يا كلب. علِّم نفسك و علِّمه.
في التنفس الصباحي، مات المعَلَّم الأول من الضربة الأولى لأنهم جروه من أزمته القلبية التي لم تكن قد انتهت. أما أخوها أحمد، فرغم الأحزمة التي لف صدره بها من خرق عتيقة جمعوها و ساعدوه في إحكامها، كوقاية تخفف ألم التعذيب عن المعلَّم، و رغم مائة آية قرأها ونفخ بها، فقد أعيد لمكانه ليقضي عامين مشلولاً. ثم بعناية ربه وحنان الضحايا شفي و بات يجر قدماً و يدوس بالأخرى بصعوبة.
الإيقاظ في السادسة، والفطور في الثامنة، بضع حبات من الزيتون يتقاسمونها بالحبة، وإن زاد العدد عن القسمة بالتساوي فسيخبأ لليوم الثاني، ليس لأنهم شبعوا بل لأنهم لم يشبعوا أبداً، و كي تكون القسمة متساوية بين الكتل تلك. يأتي الشاي في جاط من البلاستيك يسكب بالتساوي على القصعة. ما القصعة؟، هي مجموعة من هذه الكتل عددها ثمانية، والقصعة أيضاً وعاء الطعام، يسكب الشاي بالعدل في الكؤوس الممدودة: إنها مرطبانات الطحينة الفارغة مقصوصة الفم، و منها تصنع الملاعق أيضاً. تسوى أطرافها بالنار و تقسّى باليد ….
أما الحلاقة، فغضب لا يغضبه رب اليهود. يُجرّون من مهاجعهم بالرفس والدعس، يصطفون أمام مجموعة من القتلة المحكومين بالمؤبد، لكنهم محسودون بالمقارنة مع هؤلاء الراكعين أمامهم، يُسقَطون على ركبهم و تنكّس رؤوسهم بالعصي. عيونهم مغلقة عند مستوى سيقان هؤلاء الذين أحضروا كي يحلقوا للمساكين، يصرخون بهم، يرفسونهم، يتناولون الطاسات التي بجانبهم والتي تحتوي على رغوة قذرة جداً، حاملين في أيديهم فرشاة و شفرة غير صالحة إلا للجروح و التشطيب. بسرعة، بغضب، بحقد، يضربونهم على وجوههم بالمعدات التي بأيديهم، وكل واحد من هؤلاء الحلاقين يرفس الراكع أمامه إلى الحلاق الذي يجاوره.
استيقظت فطمة من غليانها على صوت أحمد، يسألها عن العملة التي يتداولونها في السوق؟ جلس على الدرجة الأولى من سلم السقيفة كأي طفل ينوي أن لا يترك أمه في مطبخها.
ـ لم تخبرني خيو .. كيف أوصلوك الحارة ؟
أجاب متردداً:
ـ أعطوا كلاً منهم مائة ليرة أجرة طريق، لكن عندما وصل الدور إلي نفذت النقود منهم ، سكتُّ. لم أقل كلمة واحدة لكن أحدهم أنقذنا حين قال: سيجدون كثيرين يتبرعون بتوصيلهم لحاراتهم. أوصلونا إلى كاراج انطلاق الباصات.
صدمني هذا الحضور الهائل للباصات الحديثة، صاج ملون ومصقول وألواح زجاجية شفافة كشاشة تعكس الأخيلة لماعة، نظيفة. مساند المقاعد ملبسة بقطع قماشية بيضاء تبدو من وراء الزجاج كصدور أشخاص ارتدوا صداريهم البيضاء و جلسوا بانتظام مدهش. أما هذه العجلات الضخمة، أحسست أنها ستدوسني، ماسحات الزجاج، والباب الذي يفتح جراً، كل شيء متفوق علي، فيما كنا واقفين كالخراف، متشابهين. كنت مثل دودة تسحقها أرجل دجاجة، لكن ما جعلني أتماسك هو أملي في أن أنام على فراش واسع، يغادرني كابوس السردين، وأغسل وجهي بالصابون وأترك شعري ينبت على هواه ثم أقصه على هواي. تبرع سائق بتوصيلنا أنا ورفيقي في سيارته الصفراء. قضى الطريق كله يثرثر، لم يكفّ عن الاستدارة إلينا في المقعد الخلفي والقهقهة بسبب و بدون سبب. كان ظهري يؤلمني بشدة وزميلي يرتجف من البرد ومن كل شيء. قبل أن نصل بدقائق قال لنا صاحب السيارة بجد: أنا مكلّف بتوصيلكم إلى المكان الذي انطلقتم منه أولاً. طبعاً نحن صدقنا مزاحه وسلمت أمري لربي. فمن يقضي هناك عشرين عاماً لا يفاجئه أن يقضي بقية عمره أيضاً هناك، لكني نظرت إلى زميلي لأرى وقع المفاجأة عليه فوجدته قد أغمي عليه. لم يفق إلا على صوت قهقهة صاحب السيارة مداعباً له: كنت أمزح معكم.
حماه 20\10\2000
- فصل من رواية بعنوان "كما ينبغي لنهر". الرواية منعت من النشر في سوريا عام 2000
فازت بالمركز الثالث عن مسابقة الإبداع لدائرة الثقافة في الشارقة لعام 2002.
إقرأ أيضاً: