خرجت إلى عملي في السابعة. خرجت مبكرة كي أتجنب "التلطيش". ستكون الشوارع فارغة والشباب، إن وجدوا في الطرقات، سيكونون خاملين عن التشاطر والتنافس فيما بينهم على ملاحقة البنات.
اتجهت إلى حارة ستي حياة لأجعلها بداية طريقي في كل أمر، كذلك تسليتي بالأسف على كل ما راح.
كانت الزبالة في قراني الحارات، وكان الأولاد المسجلون في المدارس الحكومية يمضون بمراييلهم ذات اللون البيج غير ملتفتين لضخامة صدري.
ارتديت قبل خروجي تنورة وجاكيتة فوق قميص مزرر، ورصصت على رأسي إيشارباً مخططاً بألوان الثياب. جربت أن أرتدي البنطال، لكن بسبب قصر ساقيّ، امتنعت، إذ لازلت أذكر أمي وهي تغالب ضحكة كبيرة حين فردت أختي بنطالي أمامها كي تتفحصانه بعد وصوله من عند الخياط.
ثوم يابس على الأرض، دالية تطل من بيت قديم، أب ينصاع لرغبة صغيرته وينزل معها نزلة ترابية تاركاً الطريق المرصوف، "الهيام للأحذية"، لوحة مخططة على عجل فوق واجهة ضيقة لمخزن معتم، كما كتب على طرفه "كنادر الهيام".. بكّر صاحب المحل بالدوام. أخذ يعلق حبال الأحذية ويتمتم: يا فتاح يا عليم، فيما راحت قطة تنبش في كومة أكياس.
بين الدكاكين المغلقة وقمامة اليوم الفائت، أكملت طريقي.
قرأت "دنيا العطور"، تذكرت رائحته عندما كان ينفث دخانه متأملاً في شيء ما، وكنت أظنه متأملاً في حال البلد، قلقاً على مصير الولد.
"حماة تعيش زهو حاضرها وأصالة ماضيها" عبارة كتبت على راية جديدة نصبت لمهرجان الربيع.
برغم أني قرأت أن حماة أصالة الماضي وزهو الحاضر فأنا لم أستطع أن أزهو بماضي ولابحاضري، فأبي مهرب السلاح كان يحب عمر بن الخطاب ويسكت عند علي وأبنائه في حديثه عن الخلافة الراشدية. يتابع فخوراً بالأمويين ومتعقلاً عند مرور سيرته بالعباسيين مفترضاً وجود أسباب واضحة وعلل جلية لتدهور الحضارة الإسلامية. تتضح كلماته وتستفيض عند حديثه عن الأيوبيين، ينخفض صوته تدريجياً في مرحلة المماليك. وما إن يصل إلى زمن العثمانيين حتى يقول بعصبية:
ـ قومي افعلي شيئاً بدل هذه البلادة.
تعثرت بباقة أخرى من الثوم اليابس. يبدو أن أهل الحارة جميعهم استغنوا في الليلة الفائتة عن مؤونة الثوم "الفاضي". ملأت رائحة الثوم رأسي. جلت بعيني مع الرائحة، وقررت أن أعد تقريري، أشرح فيه تصوري المعماري العشرين، فيما لو أعيد ترميم البيوت. من نهاية "بيت الحوراني" بخط الأزرق الناشف حتى بداية "سوق السجرة"، وفكرت سريعاً بما سيكون تعليق المدير أو معاونه صاحب الميزانية العدم، فيما لو قدمت إليه أوراقي تلك، فحضرت إجابتي: الكلفة لن تكون كبيرة فمازالت بعض أجزاء من هذه البيوت صامدة لم تتهدم.
قبل أن أكمل في رأسي تصوري قرأت "أبو الطواقي للرياضة" فأخفيت غرتي تحت غطاء رأسي، وخرجت من "جورة حوا" ملوحة بأصابع باكية على أراجيح العيد التي كانت تنصب في ساحتها، فيتدفق إليها أولاد المدينة من كل الاتجاهات ليقضوا أيام العيد بلهو يعادل عندهم سعادة بحجم السنة كلها.
" نريد خطة للسلام لاخطة للكلام" في الأسفل على اليسار بالخط الناعم "المكتب التنفيذي لاتحاد الفلاحين".
" سمنة شفا فيها الشفا".
" تبرعوا لجامع الزاوية".
كان أبي يحرص بشدة على التبرع بأكبر مبلغ قائلاً:
ـ إنها بيوت الله.
قرأت كل اللافتات. كان صدري يوجعني تحت المشد الذي اشترته أمي لي. وكان العاصي في الحضيض.
وصلت حارة من كان خطيبي فانقطع مابذهني. عربات بائعي الخضرة مربوطة وهي فارغة. قرأت على البيت المتداعي الذي افترضت بالمخططات أنه بيتي "اقرع الجرس قبل الدخول". كتب ذلك رغم كون الباب قد سد بصف من اللبنات.
نظرت حولي. كانت الحارة فارغة تماماً من الناس. أحكمت غطاء رأسي ووقفت أمام الباب المسدود. استغرقت في تأمل لطخات الاسمنت التي تربط اللبنات مع بعضها . كانت تبدو قاسية وجافة وتحرض على الكسر والتحطيم. رفعت رأسي فرأيت تداعي خشب النوافذ العليا وتداعي أرض الشرفة الصغيرة التي رسمت مخطط ترميمها بأصابعي دون استخدام للمسطرة. هكذا كنت أنوي أن أرص العوارض الخشبية قوية وتتحمل، وفي الوقت نفسه بسيطة وظليلة. أما الباب المسدود فقد جعلته كأبواب الحكام في هيبته ومثل باب بيت ستي حياة موارباً ويدفع بأصابع اليد، ومثل الصور على قوسه من الأعلى حوض ترابي زرعت فيه زهور البنفسج. وكنت أوصيت محلاً للعاديات في سوق الدباغة عن سقاطة تمثل كف طفل ابن عام سمينة وصغيرة.
جلست القرفصاء أختلس النظر عبر الشقوق المنسية إلى أرض الدار فسمعت صوت أقدام ورائي في الحارة الضيقة. نهضت وغادرت مسرعة.
في نهاية الحارة لوحة مكتوب فيها "اشتر بتراب المصاري من محلات الحيفاوي"
حلمت ومشيت وافترضت مع حالي وحيدة. كانت التلة تلة وكان الوادي وادياً..إلى أن وصلت مقر عملي.
لم أجد في الدائرة أحداً قبلي إلا الحارس. فتح متأففاً.
تمطى ولملم فرشته التي يفردها عادة عند الباب تماماً. شممت مثل كل يوم رائحة نومه:
ـ لِمَ لا تنام في الداخل؟
أجاب متذمراً وهو يمسح أنفه بظهر كفه:
ـ حتى أحرس الباب.
اتجهت إلى الداخل متجاوزة كأس شايه البائت وبقايا عشائه وطاقية نومه.
ما إن فتحت باب غرفتي حتى هاجمتني شمس قوية. سارعت فأنزلت الستائر. غرفة عملي شرقية جنوبية وغرفة نومي في البيت شرقية وشرفة البيت غربية، وهكذا أقضي اليوم كله أقاوم الشمس.
وضعت الركوة على السخانة ذات السلك المتوهج وجلست أنتظر صوت فوران القهوة ورائحتها كي أبدأ بالعمل. اكتسبت عادة شرب القهوة الصباحية منذ أن عرفت ظافر.
عصفور يشبه غيره يتناول الخبز الذي نثرته على نافذة مكتبي. زفرت من كل ما يحيط بي.. كنت مثقلة بالواجبات:
ـ علي إعطاء أفضل صورة للمدينة.
ليس للآثار فصول أربعة. يعني فصل الخريف للذبول واليباس وفصل الشتاء للمطر والخصب وفصل الربيع للزهور والعطر وفصل الصيف للشمس والبحر. فهي مثل صدري لها فصل واحد صامد على الأقل خلال عمري. أشتهي أن تأتي ريح تستحق أن تتحادث مع الأطلال، تأخذ منها وتعطيها، تترجم الكتابات، تخرب التناظر والتناوب، تصنع تأويلاً آخر للحكايات ومرجعية أخرى وخلاصاً آخر.
يمكن بالطبع أن يقول الشاعر سمير والفنان جميل إنها جمل ساذجة. ويمكن أن يدير أكبر أفندي ظهره لنا وينصرف لصيد السمك في النهر المتراجع، ويمكن لحسام أن يجد تعليلاً منطقياً ليحلل نفسيتي بالعودة إلى فرويد، ويمكن لعماد أن يتهمني بالترف كوني لم أعرف الحاجة والتسييف في السجون.
انغمست في كتابة تقاريري ومقترحاتي، وثّقتها من ديوان الدائرة بالرقم والتاريخ. أديت واجبي في حماية المدينة، واجبي الذي يتضخم مثل صدري فيثقل على قلبي.
تنهدت. وعببت نفساً صباحياً عميقاً.
أمسكت بأول فوج سياحي ومضيت بهم إلى حارة "سوق السجرة". رحت أشرح لهم مخططات الترميم والتجديد التي أحلم بها مدعية أنها مخططات رسمية ستقوم الدولة بإنجازها. رسمت لهم مدينة الخيال مستخدمة فعل المستقبل will بدلاً عن shall حيث أن الأخيرة لاتلزم ولاتؤكد مثل الأولى.
وكنت حين نمر أمام أحد البيوت فلا نرى أثراً لحياة، أبعث الحياة وأقول كاذبة:
ـ صاحبة البيت تجلي صحون الفطور وهي تستمع إلى الراديو.
لكن الصمت جعلهم ينظرون في عيني مباشرة. فقلت وأنا المتأكدة من خلو البيت وغياب أصحابه:
ـ ربما تخطف ساعة نوم صباحية قبل أن تبدأ بإعداد الغداء.
حين تعبت رددت عليهم موالاً من التراث الحموي: "كنت شجرة على المي قصوا غصوني وجابوني لشيل المي". أحسست أن الناعورة تئن من شطحات خيالي.
رغم أني أكذب وأتخيل أنه الحقيقة، أو أنه كذب صادق، فقد رحت أذكر تفاصيل لاتستدعي الشك. قلت: إن الحارة متسخة لأن عامل التنظيفات، وهنا ذكرت أول اسم خطر ببالي، أبو نادر، نعم أبو نادر غاب لأن زوجته تلد وعليه أن يبقى مع بقية أولاده كي يعد لهم الفطور والغداء. واستأنفت بصوت منخفض أقوالاً أخرى كي أكمل اعتذاري الكاذب.
مضيت كي أنجز مالم ينجزه المدير ومعاونه. عمرت البيوت والحارات، فتحت نوافذ، دعّمت الأبواب، ملأت الغرف بناس والباحات بأطفال والأحواض بالأزهار. أكملت البيوت التي هدم نصفها وجدد ربعها، خلعت مشربية من هنا وثبتها في مكانها الأصلي.
كدت أحكي لهم عن أحلام البنات اللواتي سكن يوماً هذه البيوت وأطللن من النوافذ.
قلت لهم كي أخدعهم أكثر:
ـ والآن سأتوقف عن الحديث في التفاصيل وأشرح لكم عن مخططنا المعماري لتحقيق هذه المنطقة كما كانت.
استخدمت كلمة التحقيق التي نستخدمها في إعداد المخطوطات التاريخية، ذلك لأنها تستدعي من معدّها جهداً كبيراً ومخلصاً كي يخرجها كما أرادها مؤلفها.
ثم مضيت أكثر في خيالي، فوسعت غرفة الجلوس، قلصت من حجم الحمام الذي كان بورسلانه الملون مكشوفاً على الحارة، أحضرت حجارة وصففتها: أبيض، أسود. مددت بلاط مدرستي. أعدت البحرة التي لم يتبق منها إلا نافورتها الصدئة، وقلت: يوجد شبيهتها في منطقة الزنبقي.
هنا تذكرت البيوت الخمسة التي ستهدم بعد غد في تلك المنطقة لتشييد مجمع تجاري. لكني تابعت بإنكليزية واثقة. ثبت عيني العسليتين في عيونهم الزرق ومضيت أتخيل وأحكي، وكنت رسمت مخططاتي على الكمبيوتر، وزعت البيوت بمربعات وأرقام، نظمت جداول طول بعرض وبنوداً لا يشك فيها. واصلت الوصف والاسترسال شادة أذهانهم. بدؤوا يهتمون فعلاً بما أتيت به، ولعلهم سيرسلون، لإخلاصهم، رسلاً وموفدين إلي كي يواصلوا الإصغاء احتراماً لأحلامي.
بعد أن تأكدت أني ملأت رؤوسهم بأمجاد الماضي وصرفت عيونهم عن بلادة الحاضر وأخذتهم إلى مستقبل مشرق.. سلّمتهم لمكتب السياحة كي يهتم بطعامهم وتسليتهم. أما الخبراء الذين يعملون عندنا منذ زمن ويعرفون بلاوينا فقد تجنبتهم حتى لايكشفوا أكاذيبي.
قلت مرة للينا:
ـ لا أرتاح للأجانب. إنهم ينكشون تربتنا ويخرجون للهواء ماضينا ويعرفون فضائح حاضرنا ثم يجرون معادلاتهم الرياضية ويدونون نتائج دقيقة ثم يوقعون واثقين من تقاريرهم التي بنيت على وقائع جرت.
وقتها ردت علي ساخرة من موقفي من الخبرات الأجنبية التي تراها مهمة:
ـ أما أنت يا نجلا فتوقعين على أوهام.
لا أدري ما الذي جعل حكاية قابيل وهابيل تداهم رأسي.
من قال إن الخير ينتصر؟
إن الشر هو الذي ينتصر.
من الذي قتل من؟ قابيل قتل هابيل؟ أم هابيل قتل قابيل؟
المهم أن الذي قام بفعل القتل هو الذي استمر . الضحية راحت وبقيت الحكاية.
ولأنني أكتفي بوزن صدري، لا أضع العقود حول عنقي ولا الأساور ولا الخواتم. فرسغي سيفتدي يوماً ما أريد وأصابعي ستشير إلى واقع ما خططت. وقد ترتفع كي تدعو على الظالم، أو تشد برسغ أمي كي تنبهها أنها ليست أرقى من ستي حياة، أو تلوح مودعة أعمدة اليونان والرومان وقبب المساجد، أو تربت على خد ولد يلح بوقاحة على الشحادة. أو تلوح مودعة المدينة.
لم أرغب بالعودة إلى البيت ربما ضايقني أني لم أنجز شيئاً إلا أكاذيب عن مشاريع، وأن سموم العشق مازالت تمرح في جسدي.
اشتريت علبة سردين من البقالية القريبة، وتناولت رغيفاً من كومة خبز كان أحد الموظفين حاملها إلى بيته. عادة يفعل الموظفون هذا مع بعضهم بلا تكلف. وتذرعت لبقائي إلى ما بعد انتهاء الدوام الرسمي، بأن سارعت إلى غرفة معاون المدير وأخذت تقرير البعثة الأثرية الأخير كي أترجمه.
وضعت سمكة واحدة مقطوعة الرأس في ربع رغيف من الخبز وعضضتها حتى آخرها ثم ألحقتها بكأس من الماء. كانت الغصة التي خلفتها السمكة في حلقي تدفع الدموع إلى عيني.
بكيت من الغصة ومن التداعيات، ولم أقم بالترجمة اللازمة.
جلست إلى الكمبيوتر وفتحت ملفاً جديداً:
ـ تتألف حماة من عدة مناطق. المناطق البعيدة عن العاصي قاسية وجافة، والقريبة ـ يعني ضفاف العاصي ـ قبيحة وتصدر روائح كريهة لأن جذور أشجارها تصل حتى قاع العاصي. أما ناس حماة فيتمشون بجلابيات بلهاء وشواريخ بالية، والنسوة يغطين رؤوسهن بأغطية سوداء على طبقات، والأطفال مغرورون ولاأحلام لديهم. أما أنا نجلا بنت حماة فسمينة وقصيرة وقامتي، قالت عنها جارتنا: مكبوسة...
وأوشكت أن أكتب شتيمة للجارة التي وصفت قامتي بأنها مكبوسة. لكني قررت بسرعة أن أغلق البرنامج بعد أن حفظته في أيقونة الملفات المخفية.
علي العودة إلى البيت فالحارس يحرس الباب و لا يحرس أمثالي. أحسست للمرة الأولى أني بدأت أعتاد قوس الناعورة الذي يطل من نافذة غرفتي وأعتاد علب السردين الفارغة التي يتركها الشباب على ضفة العاصي من سهرة ماضية، عشق وسكر ومزمزة، بزر جبسي، عتمة وهمس وآهات. تلك الأشياء التي كان تأملها يسليني.
عدت لغدائي فابتلعت الكثير من الهواء مع لقيمات السردين. وتراكمت الغصات في حلقي وانهالت الدموع من بين أصابعي. فاض عن قلبي وجعي المعتاد وبدأ ظهري يتعب من حمل صدري.
فصل من رواية بعنوان "على صدري" لم تصدر بعد
للكاتبة :
مجموعة قصصية بعنوان "تخطي الجسر" 1997. فازت قصصها بأكثر من جائزة عن اتحاد الكتاب العرب في سوريا وجهات أخرى.
ورواية بعنوان "كما ينبغي لنهر" فازت بالمركز الثالث عن دائرة الثقافة بالشارقة لعام 2002.
رواية بعنوان "جورة حوا" صدرت عن دار المدى عام 2005.
رواية بعنوان " على صدري " تحت الطبع من دار الحوار.
arraj15@hotmail.com