يوسف أبولوز

(1)

الاثنين 20/2/،2012 عند الظهيرة تماماً، تنفتح شبكة من الاتصالات بين أصدقاء الشاعر أحمد راشد ثاني . الأصوات تأتي مضطربة وحذرة وتتشابك مع سؤالين فوريين، هل الخبر صحيح؟ وكيف نتأكد؟ صحيح أن أحمد كان مريضاً، ولكنه أطل على مرضه من فوق . استحم في البحر وجلس فيه بعد خروجه من المستشفى ولو بالمجاز الشعري، وانتهى الأمر، انتهى المرض .

“الرقم الذي طلبته مغلق أو خارج الخدمة” . لا صوت يأتي من هذا الجهاز اللعين لينفي رحيل أحمد راشد ثاني . صمت بارد وحسب، شبكة اتصالات بين الشعراء، الشعراء على وجه التحديد . كأن الذعر دبّ في قلوبهم . أصوات مرتبكة ومتحشرجة . أحمد راشد ثاني في ذمة الله، التحق بالرفيق الأعلى، البعض قال في سرّه: سننتظر حتى الصباح، فقد يصحو الشاعر من غيبوبة عابرة، لكن الهاتف مغلق، والكلام أيضاً مغلق، تلك هي حقيقة الموت، الحقيقة التي حاربها أحمد بالحياة . بشعره المتدفق بالحياة .

في اليوم التالي، ليلاً، بعد العشاء يُحْمل الشاعر إلى مثواه الأخير، في مقبرة في خورفكان حولها أشجار نخيل، وفي الأعالي رؤوس جبال، وتحت رؤوس الجبال بحر هادئ كتب على وزنه أحمد شعره الصاخب .
رحل أحمد راشد ثاني من دون أن يتقدم في العمر . خشي على نفسه أن يموت مترهلاً أو في أرذل العمر . رحل وكفى، في خزانة ثيابه قمصان وكندورة لم يرتدها يوم الثلاثاء، اليوم التالي على حياته في الموت، تركت نظارته في مكان ما، أقلامه وأوراقه ودفاتره الصغيرة تركت هي الأخرى في مكان ما، ثيابه متواضعة وهيئته أيضاً متواضعة، لكن شعره ينطوي على الكثير من الغرور، الغرور الذي لا يؤذي أحداً . الغرور الذي هو جزء من كينونة الشعر، منذ هوميروس، وحتى القصيدة الأخيرة التي أكملها أو التي لم يكملها أحمد راشد ثاني .

شاعر يشبه النار .

اللهب الأحمر الذي يخرج من الموقد، موقده، حوّله إلى لهب أخضر، لقد دجّن النار أو دجّن الكتابة، فهو لم يكن يعنيه أي شيء سوى الكتابة، مسراته قليلة وعابرة، ولكنها عميقة .

يرتدي كيفما يتفق .
يأكل لكي يسد رمقه، هذا “الماكل خنيزي والخارف ذهب”، كأن النخلة شقيقة والدته، خالته التي ارضعته، ثم ألهمته حرارة الشعر .
شاعر مصاب بالحمى، حمّى الشعر التي جعلته يتصبب شعراً وفوق طاولة الكتابة كان سرب من عرق الشعر يشير إلى وجهه الأسمر الصغير المغطى بهالة من الطفولة:

“يُمّه جيبك
يمه جيبك ما يغرّك
يمه شو إيسوي اللّي جيبه إنترس
والقلب خالي”

شاعر قلبه مملوء بالشعر، ولذلك كان يشعر بشيء من الثقل في صدره الأيسر، عند القلب تماماً، القلب “المتروس” بالشعر والمرح والضحك والحكايات والسخرية والكتابة، الكتابة حتى لو على عجل، الكتابة حتى بلا بلاغة وبلا سلطة الفاعل وضعف المفعول به، كتابة بلا ناصب ولا نصب ولا منصوب، كتابة بضمير متكلم تماماً، هو الذي قليلاً ما كتب بضمير الغائب .

حاضر في الحياة، كما هو حاضر في الكتابة، يقظ، متحفز، سريع البديهة خصوصاً عندما يسخر، عندما يسخر من الانتهازي والمتسلّق، أشد سخرية كانت تخرج منه، كانت تخرج صوب المثقف الكذاب والمدّعي والطفيلي، كان يعرف الرجال من وجوههم ومن كلامهم ومن ثيابهم أيضاً، من تلك القشرة البيضاء اللامعة والملساء التي ينزلق عليها الكذب كأنه حبة زئبق يركلها بنعاله ويمضي .

(2)

مضى إلى شأنه، سريعاً، بلا ترهل ولا مبالغة في الحياة، تاركاً خلفه حرية الرثاء وحتى حرية الهجاء، كما حرية المديح إلى آخرها، ولكنه لا يسمع كل ذلك، تلك مرة ثانية حقيقة الموت، لذلك بدأ يكتب مبكراً .

أرشيفه الصوتي والصوري والفوتوغرافي “أجمل ما فيه ذلك الذي بقي بالأبيض والأسود” يشير إلى فتى أسمر نحيل يخرج من خورفكان إلى تلك الأماكن التي بعد الشمس، فقد كان يظن في طفولته، كما أتخيل، أن العالم ينتهي بعد غروب الشمس خلف جبال خورفكان، ولكنه قبل ذلك مسكون بالفضول، فضوله الفطري دفعه إلى الفرار من هيمنة الجبل وطبيعته المغلقة .

مبكراً بدأ أحمد راشد الكتابة، مجموعته “سبع قصائد من أحمد راشد ثاني إلى أمه التي لا تعرفه”، ثم مجموعته الحارة والمؤثرة “يا الماكل خنيزي يا الخارف ذهب”، كتبهما وهو لم يتصل بالعشرين من عمره، قصائد من مجموعة “الخنيزي” كتبها وهو في أوروبا الشرقية كما هو مثبت آخر إحدى القصائد، كيف لشاب مراهق يمتلئ بكل هذا الحنين إلى اللهجة الشعبية الإماراتية وهو في بلاد الرفاهية و”شم الهواء”، هواؤه كله في خورفكان، هواء بأجنحة واسعة في مجموعة “الخنيزي”، إن شروحاتها هي معجم غني باللهجة الشعبية الإماراتية، ومن يريد أن يعرف روح اللهجة الإماراتية المحلية، ويريد أن يعرف ايقاع هذه اللهجة ومذاقها وحتى رائحتها فليعد إلى قراءة “الخنيزي”، النص الشاب، النص المملوء بالدم الشاب، والقوة القلبية الشابة .

الجبال لا تراهق، ولا مراهقة للبحر، والأشجار أكثر ذكاءً من أن تخرج على طورها، لكن أحمد راشد ثاني هذ المحرض والنبيل في تحريضه الفطري هيّج كلام الجبل، وشد البحر في خورفكان من شعره الأزرق، وقال للشجرة كوني أمي، من أجل أن يكتب، وكان له ذلك .

كتب مبكراً بوعي عميق مرة أخرى، لذلك ليس من المستغرب أن يلتقطه محمد الماغوط على الصفحات الرئيسة للكتابة الإبداعية في الملحق الثقافي لجريدة “الخليج” في العام 1982 أي قبل نحو ثلاثين عاماً هو الذي كان آنذاك في العشرين من عمره بنحوله وبتلك الكندورة البيضاء والعقال المائل على الرأس والوجه “الصبوحي”، كان يحب أغنية سمعها منه كاتب هذه السطور: “يا حيّا الله يابو الوجه الصبوحي . .”، صبوحي في شعره، صبوحي في نثره، طوّع مراهقته إلى عقل شعري مبكر، عقل أشبه بالماكنة، التي ظلت تشتغل أربعين عاماً من أصل خمسين عاماً، ويبدو أنه اكتفى، ولكن، من أين لروح وثابة قافزة إلى الضوء مثل روح أحمد راشد ثاني أن تكتفي؟

التقطه أنسي الحاج، الملاك الصامت دائماً في كهف قصيدة النثر . حيّاه أنسي الحاج، وقال له: صباح الخير بهدوء، بخفة القط، وجه شاعر يشبه وجه القط الذي يعرف ماذا يدور في رأس الشجرة أو في رأس المرأة .

كتب مبكراً، لينتهي من مهمة “الخارف ذهب”، هو الذي لم يتعب أبداً من جمع عسل النخلة وذهبها البرونزي الحلو، كتب مبكراً، لأنه نام تحت نخلة، واستغرق في النوم، وعندما صحا تحت تاج النوم شعر بحرارة في أصابعه لكثرة ما كتب .

(3)

خورفكان وشم على الكتابة .

تلفت أحمد راشد ثاني حواليه، أهله وربعه وناسه بحارة ومزارعون وعمال، مجموع بشر يصلحون للشعر أيضاً، ليس بالضرورة أن يكتب هؤلاء الشعر، ولكن من المهم أن يستمعوا إلى ذلك الماء المتساقط من اللغة، خاصة تلك اللغة التي اكتسبها الشاعر من رائحة العطر الغامض الذي ينبعث من الأشجار والحياة والحجارة .

أحمد راشد ثاني ابن بيئة بامتياز، ابن الصوت الأمومي الذي غمره بالحنان، هذا الحنان القاسي الذي حوّله إلى شاعر يقسو، أيضاً، على نفسه:

“قوم يَحْمَدْ
قوم باكحل عيونك
باللي ما كحلت به حدّ
قوم
باغني لك للماقَطْ غنيته
غناتي انت
كبدي
يوم تتلف
منّي الكبد”

هذا الصوت الإماراتي المحلي بامتياز، الحنوني بامتياز، الأمومي بامتياز، لم يدفع أحمد راشد إلى الانغلاق على نفسه و”التلف” في اللغة إن جازت العبارة، فهو ضد التلف والفقد والخسران، ضد القبح والحزن، أحمد راشد ثاني لا يعرف الحزن ولا يعرف طبيعة الحلزون الملموم على نفسه بقفل من الصدف الأبيض، بل إن لغته الشعبية المحلية التي بدأ بها وهو في الصف الثاني الإعدادي، هي ذاتها اللغة التي حملته بهدوء وبساطة إلى قصيدة النثر .

له قصيدة يقول فيها “صارت تطاردك الكلاب”، وهي قد تكون القصيدة الوحيدة له على البحر الكامل “متفاعلن متفاعلن”، لكن أحمد فرّ بسرعة من قصيدة التفعيلة وذهب إلى قصيدة النثر، وكأن اللهجة الشعبية الإماراتية الحرة والحيوية في مجموعته “الخنيزي” هي التي فتحت له باب كتابة قصيدة النثر، وهي مفارقة لا يستوعبها النقاد على وجه التحديد بسهولة، إذ كيف لشاعر شاب تكوينه الأولي شعبي تماماً وتفعيلي تماماً، أن يقفز بسرعة إلى قصيدة النثر الحرة والمتمردة والتي لا تطيق أية قواعد كلاسيكية أو أي ثقافة شعبية .

ولكن من قال إن الثقافة الشعبية في كل مكان في العالم لا تنطوي على نثر الحداثة وحداثة النثر بحيث تتفوق هذه الثقافة على كل قواعد كلاسيكية صارمة؟

في قلب القصيدة الشعبية، وفي قلب القصيدة النبطية، وفي قلب الكلام “العاري” الذي تنطق به الجدات القديمات، هناك قصيدة نثر، وقصيدة حداثة .

لذلك لا يبدو انتقال أحمد راشد ثاني من الشعر الشعبي إلى قصيدة النثر انتقالاً بهلوانياً أو استعلائياً على محليته وعلى ذاكرته، وإنما التربية الثقافية التي صهرت هذا الشاعر هي التي جعلته عميق الصدق مع ذاته أولاً، قبل أن يعلن هذا الصدق في شعره وفي كتاباته التي تجري في مسار واحد، هو مسار كينونة أحمد الثابتة في المكان مكانه وفي البيئة، بيئته، ثم الكينونة الثقافية ذاتها المتصلة بالعالم وبالحياة وبالوجود بكل مفرداته التي تحيل إلى الهوية وإلى الثقافة والفكر .

(4)

من النقطة السابقة يمكننا فهم أحمد راشد ثاني باحثاً في الثقافة الشعبية الإماراتية، ليس باحثاً بالمعنى التقليدي الجاف، وإنما كان يذهب إلى المكان الإماراتي، مكانه وشخصيته وهويته وكينونته بعشق مذهل حقاً، إنه يكتشف ذاته في هذه الثقافة، ويكتشف أنه مطالب بالحفاظ عليها، ولكنه في النهاية فرد، مجرد شاعر مكنته الظروف من أن يسافر في تراث بلاده، وهنا، لم ينس أحمد راشد في حياته ولا أي مثقف إماراتي وعربي كان له أن ينسى تلك الظروف التي وفرها الشاعر محمد أحمد السويدي عندما كان يدير المجمع الثقافي في أبوظبي، فقد وفر بيئة بحثية للشاعر الراحل هي في مستوى التفرغ الكامل للعمل، وإن هذه المبادرة من الشاعر محمد أحمد السويدي تعني تقديراً للطاقة البحثية عند أحمد، هذه الطاقة التي انتجت العديد من الكتب المهمة جداً في حقل ثقافة المكان الإماراتي واشاراته ومفرداته الاجتماعية والجمالية والتاريخية .

إن جهد أحمد راشد ثاني في حقل ملاحقة تدوين الشفاهي الإماراتي وكنزه وبلورته في كتب، وهو المشغول بالحداثة الشعرية وقصيدة النثر على وجه التحديد، يشير إلى طاقة غير عادية عند هذا الشاعر الذي كان يتصرف مع ذاته ومع قناعاته من قاعدة الثقة بالنفس والصدق والمحبة للحياة أولاً وأخيراً، لأن من ينشغل بثقافة المكان لابد أن يكون ابن المكان، وقبل ذلك ابن الحياة .

(5)

لا ينسى الوسط الثقافي الإماراتي والعربي الوجه الثالث لأحمد راشد ثاني بعد وجه الشعر ووجه البحث الثقافي الشعبي، فهو، مبكراً، أيضاً كتب عدداً من الأعمال المسرحية باللهجة المحلية، لكن، مرة ثانية بروح شعرية، روح النثر الذي تفوق به في خريطة كتابته كلها، تلك الخريطة التي وضع لها منذ البداية طريقاً واحدة تؤدي إلى قناعاته وإلى صدقه .

لقد استخدمت كلمة الصدق في أكثر من مكان في هذه المادة “الاعتذارية” إلى أحمد، ذلك أنه لم يكن يصدر في أي كتابة أو في أي موقف ثقافي إلا عن صدق ذاته، صدقه الداخلي، صدقه الذي يشبه صدق الجبال في صمتها الأبدي على أسرارها الدفينة، تلك الأسرار الغامضة التي ألمح إليها أحمد راشد ثاني في مقالته الأخيرة في الملحق الثقافي للزميلة الاتحاد تحت عنوان يحمل الكثير من المفارقة “قفص الأمواج”، أما الاعتذارية فمبعثها أن الكتابة عن أحمد أو في أحمد بهذا الاسترسال كان يجب أن تكون في مرمى عينيه وهو يقرأ ما يكتب عنه، فيحمل الهاتف الجوّال ويتصل بمن يكتب مبدياً نوعاً من الحياء من المديح هو الذي كان يحب الهجاء، هجاء الآسن، وهجاء الراكد والمتكلّس .

أحمد راشد ثاني مسرحي فطري، بحار متقاعد أمضى حياته في قارب خشبي صغير، قصاص أثر وهو يركض من رواية شفوية إلى أخرى لكي يقبض على ذاكرة أهله وذاكرة أهل ديرته، ناثر من طراز رفيع، ينثر الماء على الماء، ينثر الماء على الرمل، أحمد ورشة كتابة متحركة، سبيله إلى ذلك ورق وأقلام، يكتب بغزارة، يشطب ويؤكد الشطب كي لا تظهر الكلمة التي لا يحبها قلبه، ثم يسترسل بخط واضح أميل إلى الرسم على الورقة البيضاء .

الكتابة تشكل له نوعاً من اشباع، هو أيضاً، ورشة قراءة، لا يشبع من القراءة، يتذوق ما يقرؤه ويقيم علاقة وجدانية حسية مع النص الذي يقرؤه، ثم ينصح من يحب بقراءته، دائماً معه كتاب وقلم وورقة والقليل من الكلام إلا إذا تقدم به الليل .

أحمد يحب النهار .
يحب الجلوس في حرم البحر . ليله ونهاره قراءة وكتابة، وإذا تعذرتا فشيء من الضحك من أجل النسيان، من أجل الجسد الذي كان يخونه بصمت، جسده الذي حمله على الكتابة وحمله إلى الغياب .
زرع شجرة من الأصدقاء .
في الإمارات، في الأردن، لبنان، العراق، سوريا، مصر، تونس، المغرب، عُمان، السعودية له قربى وأقارب .
سريره في حضوره مملوء بشاعر
سريره في غيابه مملوء بشاعر .

ترك وصية بسيطة مثل بساطة حياته التي مرت بسرعة، قال:

“أنا قلبي قلب كّله
والأهلّة
أنا قلبي قلب وحده
وعيدي
إن عيدت
وحده”

أحمد راشد ثاني ليس وحده، ها هو يكتب وصايا أخرى ويعلّقها على لوح من ذهب .

الأثنين ,05/03/2012

***

دراساته تنفتح على زوايا نظر مختلفة
أحمد راشد ثاني باحثاً في الثقافة الشعبية

أحمد محمد عبيد

أحمد راشد ثانيربما كان الشاعر والباحث الراحل أحمد راشد ثاني، أحد أكثر باحثي الدولة نشاطاً وجهدا وغزارة ودقة في الثقافة الشعبية الخاصة في الإمارات، خاصة الثقافة الأدبية منها، وقد ترك رحمه الله نتاجاً متميزاً في كتب مطبوعة ومخطوطة عدة، والمطبوعة هي: “ابن ظاهر . . بحث توثيقي في سيرته الشعبية”، حكايات من الإمارات . . في أجزاء ثلاثة هي: “حصاة الصبر”، “دردميس”، و”إلا جمل حمدان في الظل بارك”، “رحلة إلى الصير” . أما المخطوطة فهي: “بين المشافهة والكتابة . . حالة الإمارات”، “تحقيق وتعليق على كتاب “الشعر الشعبي في دولة الإمارات” لأحمد أمين المدني”، “ديوان محمد بن صالح المنتفقي(تحقيق)” . وقد وافاه الأجل وهو في بداية مشروع كتاب أشترك معه في تأليفه هو “ثقافة الطعام في دولة الإمارات” وسوف أكمله بإذن الله عز وجل، وهذه الكتب تدل على تنوعه في اهتماماته بما يخص الثقافة الشعبية، من خلال محاور ثلاثة أساسية هي: توثيق الثقافة الشعبية، وتوثيق الشعر الشعبي وتحقيقه، وتوثيق الحكاية الشعبية .

كان توثيق الثقافة الشعبية مطلباً ملحاً عند أحمد راشد ثاني، كون هذا التوثيق تمهيداً لدراسات أخرى تتعلق بالشعر الشعبي، ويعد كتابه المخطوط “بين المشافهة والكتابة . . حالة الإمارات” أكثر هذه الكتب التي عنيت بالثقافة الشعبية المباشرة وارتباطها بجوانب أخرى كالشعر الشعبي، وهذا الكتاب في الأصل دراسات عدة نشر أكثرها في الصحف المحلية، وقد شغلته فيه قضية ثقافية مهمة حاول أن يسلط كثيراً من الضوء عليها باعتبارها طريقاً ممهداً لفهم مراحل كتابة مخطوطات تراث الإمارات وشخصيات أعلام الكتابة فيه، كان انتقال الحالة الثقافية للمجتمع من مرحلة الشفاهية والحفظ والرواية إلى مرحلة التدوين، خاصة مخطوطات الشعر الشعبي، باعثاً على أن يتناولها في فصول خمسة شملها هذا الكتاب المهم، فيذكر أنه “إذا كان المرء لا يعرف إلا ما يمكنه تذكّره فإن المتعلم في المجتمعات المعاصرة يدرس معرفةً قد تم جمعها وتدوينها له بصورة مكتوبة، وهو لكي يتذكر أو يعرف أكثر، ما عليه إلا العودة إلى تلك النصوص، وإذا ما كان هذا الحال في المجتمعات الكتابية، فكيف كانت المجتمعات الشفاهية التي لا تعرف الكتابة إطلاقاً أو تلك التي لم يترسخ فيها الوعي الكتابي؟” (بين المشافهة والكتابة . . حالة الإمارات ص5) .

كان هذا مدخلا لأن يتناول أحمد راشد ثاني مصطلح “الرمسة” بين الشاعر والراوي والمنشد، باعتبار هذا المصطلح هو الأساس الذي تقوم عليه حركة المشافهة المتنقلة بالرواية من فم إلى فم، سواء أكان هذا الشخص راوياً عادياً أم شاعراً أم شخصاً مهتماً بالشعر، فالرمسة في اللهجة الشعبية هي “جلسة التحدث والكلام” ومن معانيها بالفصحى: الصوت المخفي، “إن الرامس أو الرماس أو الراوي أو المؤدي يشكل مع الشاعر حلقة متصلة، فالشاعر يتعلم إن صح القول فنون الشعر ويتلقى قصائد من سبقوه من الرامسين الرواة الذي ينضم إلى حلقاتهم منذ الصغر، كما هو الحال مع المطوع والشاعر أحمد بن هاشل، من رأس الخيمة الذي كان والده صاحب مجلس كبير يجتمع فيه الشعراء ويتنافسون في سرد القصيد” (بين المشافهة والكتابة ص8) .

يعدد أحمد راشد بعضاً من نماذج هذه “الرمسة” التي تتنوع شعراً ونثراً، فمنها ما يذكر أنه “لم تخل الأعراس أو حفلات الزفاف من شاعر أو راوٍ يمتعون الناس بقصائد المديح والغزل والهزل اللطيف”، وفي أماكن أخرى مثل المجالس الشعبية المسائية وسفن الغوص والمحاورات الشعرية بين الشعراء قديماً، هذا بالنسبة إلى “الرمسة” الملقاة شعراً أو نثراً، أما “الرمسة” المغناة فهي إلقاء الشعر على آلة الربابة في أكثر حالاته، كالونة والردح والتغرودة، وكذلك “الرمسة” في الغناء والرقص الشعبي الإيقاعي وغير الإيقاعي كالعيالة والرزفة والدان والميدان .

كما عني أحمد راشد ثاني بمصطلح “السالفة” وهي “القصة تسرد على المستمعين”، وتعني الحكاية، وتعني أيضاً الفعل الذميم أو الحسن، وتعني أيضاً “القاضي أو الحكَم أو العارف بالعادات والأعراف، الذي يُحتكم إليه بالسالفة”، والسالفة أيضاً “قاضي أعراف” في البحر، وكذلك من لهم المرجعية في الرأي مثل “عقيد القافلة” في الأسفار، و”السردال” قائد رحلات سفن الغوص، ويتوسع أحمد راشد حول الأفلاج ومن يقوم بدور “قاضي الأعراف” فيها، ممن ينظمون أمور الفلج وتوزيع مياهه .

وتطرق أحمد راشد ثاني إلى المهن الكتابية التي تعد نقلة من عالم الشفاهية إلى عالم الكتابة في مراحله الأولى القليلة، فقد كان هذا المجتمع شفاهيا بامتداد العزلة القديمة فيه عن مراكز التدوين في العالم الإسلامي، وحين بدأ هذا المجتمع بالتعرف إلى الكتابة كان صنعةً يمارسها أصحاب المهن الذين يستأجرهم آخرون لكتابة خطاب أو وثيقة، ولقد مورست مهن عدة في بداية تعرف مجتمع الإمارات إلى القراءة والكتابة، ولعل من أول هذه المهن مهنة “المطوع”، فقد كان أساس العملية التعليمية بما يمثله كاتباً وخطيباً وقاضياً ومعلماً تلقى العلم عمن قبله من المطاوعة، وبدأ يعلمه لمن هم أصغر سنا إلى أن يصبحوا ذوي قدرة على تسيير الأمور العلمية والكتابية الخاصة بحياتهم، وتطرق أيضاً للحديث عن أجور المطاوعة وتفاوتها حسب الزمن والأوضاع والحالة والاقتصادية للعصر والمدينة والحالة المعيشية للناس، كما تحدث عن مهنة أخرى ارتبطت بالكتابة وهي مهنة “الكرّاني”، وكان أكثر هؤلاء كُتاباً عند كبار التجار، وكذلك محترفو كتابة العرائض والشكاوى، ومن ينقلون الرسائل بين الأهل والمغتربين وقتذاك .

مثّلت بدايات الشعر الشعبي/النبطي في الإمارات هاجساً ملحاً لأحمد راشد ثاني للحديث عنه ومحاولة الوصول إلى بداية حقيقة، وكان كتابه المهم “ابن ظاهر . . بحث في توثيقه وسيرته الشعبية”، مدخلاً للحديث المستفيض عنها، لأن هذه البداية تعني صحة ما وردنا من قصائد نبطية تمثل رافداً لحركة الشعر الشعبي القديم في الإمارات .

انقسمت جهود أحمد راشد ثاني في حقل الشعر الشعبي إلى جوانب ثلاثة، الأول هو توثيق حياة الشعراء، ولعل أولهم هو الماجدي بن ظاهر، ثم الشاعر علي بن محين الشامسي، وشعراء آخرون مرتبطون بهذين الشاعرين الكبيرين تتناثر الآخبار عنهم في ثنايا بحوثه ومؤلفاته، الجانب الثاني تمثل في توثيق القصيدة النبطية ومحاولة إيجاد تاريخ مقارب لنشأتها، وتطورها إلى أن وصلت إلى هذا الوقت مكتملة الأداة والأسلوب واللغة والموسيقا، والجانب الثالث هو تحقيق الشعر الشعبي، تجلى ذلك في تحقيق نصوص شعر الماجدي بن ظاهر، التي قابل بين رواياتها المختلفة، المروية والمخطوطة والمطبوعة، مثمناً جهود من حفظوا هذه القصائد، ومن دونوها ونشروها، مع محاولة تحقيقها تحقيقاً علمياً حديثاً أشبه بتحقيق نصوص الشعر العربي القديم .

تطرق أحمد راشد ثاني إلى القصيدة “الشفهية” النبطية في الجزيرة العربية، ومنها قصيدة “أبي حمزة العامري”، كما ذكر أحد الأمراء الشعراء، قطن بن قطن الهلالي، مشيراً إلى قصيدة لابن ظاهر يذكر فيها اختفاء بني هلال وغروب شمسهم، بعد ذلك يظهر الماجدي بن ظاهر شاعراً كبيراً صاحب رؤية شعرية واسعة وأداة شعرية عالية الجودة، غطى على ما قبله من شعراء النبط الذين ربما لم يملكوا ما امتلكه ابن ظاهر من حكمة في القول وجمالية في النص، عدد أحمد راشد الروايات عن حياة ابن ظاهر، محاولاً الوصول إلى وقت حضوره على مسرح الأحداث، رابطاً ذلك بأحداث عاصرها وبشخصيات ذكرها في شعره، وأشار أحمد إلى أمر مهم ربما لم يلتفت إليه بعض من درسوا ابن ظاهر قبله وهو اللبس الذي وقعوا فيه من حيث “التفريق بين ابن ظاهر كبطل لسيرة شعبية وبينه كشخصية تاريخية، وفي الحقيقة لم تُكتشف إلى الآن مصادر مكتوبة تحدد بشكل قاطع المرحلةَ التاريخية التي عاشها هذا الشاعر التأسيسي الكبير، إلا أن ثمة معطيات متناثرة هنا وهناك في قصائده أو في المرويات التأريخية عنه تجعلنا نحدد الفترة ما بين منتصف القرن السابع عشر والثامن عشر كفترة تاريخية عاش ابن ظاهر أغلب سنواتها” (بين المشافهة والكتابة ص45) . كما تحدث أيضاً عن ابنة ابن ظاهر، رغم قلة المصادر عنها .

ثاني الشعراء المهمين الذين تحدث عنهم أحمد راشد ثاني هو الشاعر علي بن محين الشامسي، الذي لا نعرف عنه شيئاً إلا من مصادر ثلاثة مخطوطة، والمعلومات عن حياته ضئيلة جداً ومصدرها حمد أبو شهاب، في كتابه “تراثنا من الشعر الشعبي، وقصائد الشامسي نفسها” . وطرح أحمد أسئلة تتعلق بهذا الشاعر تحتاج إلى إجابات، اعتماداً على بعض قصائد الشامسي الذي كان مناصراً للدعوة الوهابية، ففيه إشارات إلى أمراء مثل تركي وفيصل، وأشخاص آخرين مثل “أبو ثامر”، لتبقى هذه الأسئلة بلا أجوبة، إلى حين ظهور معلومات جديدة، كذلك ارتباط الشاعر بجابر بن رحمة الجلاهمة، وبابن شرارة، وخلص أحمد راشد إلى أن “هذه الأسئلة قد تمكننا مبدئياً من القول إن ابن محين الشامسي قد شهد أغلب النصف الأخير من القرن الثامن عشر وبعض العقود الأولى للقرن التاسع عشر الميلادي” (بين المشافهة والكتابية ص89) .

بعد ذلك يأتي توثيق الشعر الشعبي عند أحمد راشد ثاني مكملاً لدراساته عن الشاعرين السابقين، ويعد كتابه “ابن ظاهر . . بحث في توثيقه وسيرته الشعبية”، في رأيي، نموذجاً رائداً للدراسة التوثيقية عن حياة الشاعر الشعبي وعن قصائده ومصادرها، وهو أيضاً النموذج الأمثل لتحقيق نصوص الشعر الشعبي القديم الذي وصل إلينا عن طريق الرواة أو المخطوطات .

يتسم منهج البحث العلمي التوثيقي عند أحمد راشد ثاني بسمات عدة، أولها غزارة المادة التي يجدها تخدم المادة المدونة محط الدراسة والتحقيق والتوثيق، من مطبوعة ومخطوطة، محاولاً الوصول إلى أكثر هذه المصادر في ما يخص الشعر المراد توثيقه، ومن مظاهر هذه الإحاطة استعراض الجهود السابقة في توثيق شعر ابن ظاهر، ومناقشة أوجه التقليد والتجديد والإضافة في هذه الدراسات، كذلك العناية بتوثيق الرواة الذين اعتمدت عليهم الدراسات السابقة، خاصة جهود حمد أبو شهاب الذي كان كتابه “تراثنا من الشعر الشعبي” مصدراً أولياً ومرجعاً أساسياً في نصوص الشعر الشعبي، وثانية هذه السمات تتمثل في الاستفادة من المعطيات التاريخية والنصية التي تلقي الضوء على تاريخ كتابة بعض القصائد ومصادرها وارتباطها بأعلام وأحداث واردة في النصوص، كذلك البحث في لغة النص والصورة والسمات الشعرية الواردة بشكل عام في القرون السابقة ما يعطي فكرة مقاربة عن النص ضمن معطيات عصره ووقت كتابته وطريقة الكتابة حسب الزمان والمكان اللذين وُجد فيهما كاتب النص، وقد رأى أحمد راشد ثاني “أن الأمل في وجود مخطوطات أقدم أو أو مخطوطات أخرى تلي عقد الثلاثينات بقليل -زمن أقدم مخطوطات شعر ابن ظاهر- مازال موجوداً، وثمة من يتحدث عن وجود مخطوطات كهذه تخص أو تحتوي على أشعار لابن ظاهر” (ابن ظاهر ص62) .

أما منهج أحمد راشد ثاني في تحقيق نصوص ابن ظاهر- باعتبارها دالة على منهجه العام في تحقيق نصوص القصيدة النبطية- فيمكن إجماله في ما يلي: يتخذ أحمد راشد من المنهج التكاملي منهجاً شاملاً للتحقيق، وهو منهج لا ينظر إلى القصيدة من منظور واحد بل من زوايا عديدة متصلة بالنص تاريخية ونصية ولغوية وغيرها، معتمداً على الروايات الشفاهية والمخطوطة والمطبوعة وما يحيط بالنص من أعلام وأحداث وأسماء أماكن وإشارات أخرى تخدم النص، يستعين أحمد راشد بأقربها للدقة ملائماً بينه وبين ما يراه مناسباً لأن يكون المعتمد في النص، فيختار الرواية الأقرب مع ذكر الروايات الأخرى الموجودة في حاشية النص، من دون أن يكون اعتماده على الرواية الأقدم فقط، بل بالأحدث أحياناً إن كانت أصوب تاريخاً وأضبط نصاً، مع ضبط النص وشرح غامض مفرداته وذكر أوجه الشرح الأخرى مع غيره ممن درسوا شعر ابن ظاهر أو حفظوه .

الجانب التوثيقي الثالث الذي عني به أحمد راشد ثاني هو الحكاية الشعبية، التي دونها في كتابه المهم “حكايات من الإمارات” في أجزائه الثلاثة، كان أساسها مجموعة من الحكايات التي جمعتها بعض طالبات الجامعة من بعض الجدات في خورفكان، وحكايات أخرى جمعتها طالبات جامعيات أيضاً من مختلف أرجاء الدولة، اهتم أحمد بهذه الحكايات ضبطاً وشرحاً وتوثيقاً، بلغت في الجزء الأول “حصاة الصبر” خمس عشرة حكاية، وفي الجزء الثاني “دردميس” ثماني حكايات، وفي الجزء الثالث “إلا جمل حمدان في الظل بارك” أربعاً وعشرين حكاية .

أضاف المحقق أيضاً بعض الملاحق على أجزاء الكتاب الثلاثة، وهي تضم أيضاً حكايات مشابهة من مناطق أخرى في دولة الإمارات، كذلك بعض الحكايات المقاربة لها من أماكن مختلفة من الجزيرة العربية، وقد ارتبطت هذه الحكايات الواردة في الملاحق أيضاً بقصص ومرويات شعبية متوارثة منذ فترة بعيدة، خاصة ما سرده الراوي خلفان بن مفتاح، عمن تلقف منهم هذه الإشارات ممن سبقوه في خورفكان . يحوي هذا الكتاب كما كبيراً من المفردات اللغوية التي أتاحت شرحاً وافراً تفضل به جمعة القبيسي، مرجعاً كثير من الألفاظ إلى أصولها الفصيحة، وهو أمهر من يجيد ذلك بين باحثي دولة الإمارات لمعرفتي به عن قرب .

هذا الكتاب على أهميته أبقاه أحمد راشد نصاً محققاً، وقد وعد، رحمه الله، في المقدمة أن يصدر جزءاً رابعاً يضم دراسة نقدية توثيقية حول هذه الحكايات، إلا أن ذلك لم يتم .

الأثنين ,05/03/2012

***

الشاعر الحاضر بيننا أبداً

علي كنعان

شاعر هادئ النبرة جميل المعشر عميق العبارة، يمزجها أحيانا بلمسات ودية حميمة من الدعابة اللطيفة، هذا هو أحمد راشد ثاني، الإنسان المبدع والصديق الحميم، ابن خورفكان والإماراتي الذي يحتضن في قلبه الكبير أمته بأسرها من طنجة إلى أقصى موجة في بحر العرب، ويتسع قوس القلب والفكر والوجدان ليضم معالم أخرى من أرض البشر تمتد من أقصى الشمال الاسكندفاني، والسويد تحديداً حيث يعيش اثنان من فلذات كبده، إلى تلك البلاد التي زارها وحنت عليه كأم كونية لتعالج قلبه المتعب في أقصى جنوب آسيا .

الحياة والموت سؤال كبير ذو وجهين، كثيراً ما يصعب التمييز بين سماتهما في حياة المبدع . إنه يعيش موته اليومي، مستلهما مفردات واقعه الموجع، لكي يبدع نصه الشعري أو السردي العجيب الذي يشكل سبيكة كيميائية تمتزج فيها ألوف العناصر والخيوط من الرؤى والهواجس والمشاعر والأفكار والأحلام، وكاتب هذه السطور لا يقوى على تصور غياب (أبو شهاب) أحمد راشد . . فلعله مسافر، وإن كانت سفرة طويلة فاجعة . إنه حاضر بيننا في كل كلمة خطها بأنامله، في كل كلمة قالها مشحونة بالظرف الذي تحدث عنه أستاذنا الكبير/ الجاحظ .

مكتبه في المجمع الثقافي سابقاً، وفي المكتبة الوطنية لاحقا، لحظات الراحة والتدخين، بيوته التي تنقل بينها، بعضها مطل من علٍ على البحر . . وبعضها تحتضن شرفته فسحة من السماء الصافية الموشاة بالنجوم، طرائف متناثرة في أسفاره، جلسات الخميس بين المقاهي والمطاعم، وحتى فقرات الرقص الهندي التي يختلط فيها الفن بالصوفية، والتي كان يحلو لنا أن نشهدها ولو من زاوية ظليلة أحياناً، وغالباً ما كان يضيئها طاغور بطيفه الآسر . . هذه الأشياء وغيرها كثير . . تستدعي أحمد ليظل حاضراً بيننا يقرأ الشعر أو يستعيد مقاطع من شعر ابن ظاهر، مروراً بالمتنبي وطرفة وابن زيدون وسواهم، وصولاً إلى بورخيس والسياب والحكاية الشعبية التي أخذت كثيرا من جهده وأعوام حياته .

المدهش أن هذا الشاعر الباحث والمثقف الموسوعي لم يعرف لحظة من راحة أو استجمام، حتى في لحظات الإمتاع والمؤانسة -إذا استعرنا عبارة التوحيدي- كانت مكرسة للتفكير في البحث والمتابعة والتقصي والإبداع . وهذا هو الذي جعل سنوات العطاء لديه تزيد عن نصف سنوات العمر التي ضن القلب بها فلم تكمل الخمسين .

إنسان متواضع صادق الكلمة، لم يخلف وعده إلا مرة واحدة . . فقد كنا على موعد أن نزور دمشق بعد زوال الغمة . . لنرتشف القهوة في “النوفرة” بجوار الجامع الأموي، لكن قلبه الرقيق لم يحتمل الانتظار حتى ينجز الوعد . . كما أن دمشق لم تنجز وعدها .

ماذا يمكن لشاعر مخضرم، يقف على الطرف الأخير من الجسر، أن يقول في وداع شاعر صديق مسكون بالحداثة، يفصل بينهما ما يزيد على ربع قرن؟ لا شيء أكثر من وعد بالكتابة عن تلك الساعات المفعمة بالمودة العميقة والمؤانسة الرائعة والعطاء الجميل، وهي ساعات استثنائية غالية جمعتني بالشاعر المرهف أحمد راشد ثاني . . ولا يمكن أن يطولها النسيان .

الأثنين ,05/03/2012

***

سيرة ذاتية

  • ولد أحمد راشد ثاني عام 1963 في حي المديفي في خورفكان ودرس فيها، ثم انتقل إلى جامعة الإمارات، وهناك شارك في معظم الأنشطة الأدبية والثقافية الجامعية، وربط صداقات مع الكثير من الشبان الذين سيكونون أساس الحركة الأدبية والثقافية في الدولة .
  • كان والد أحمد راشد يتحفه في صغره بالكتب التراثية التي يأتي بها معه من رحلاته البحرية، مثل “سيرة عنترة” و”فتوح الشام” و”رياض الصالحين” و”تنبيه الغافلين والرحمة في الطب والحكمة” فينهمك في قراءتها، مما كون لديه علاقة بالكتاب وشغفا به بلغت قوته أنه كان في بداية العطلة الصيفية ينقب في القمامات بحثاً عن الكتب والمجلات والصحف التي يتخفف منها المدرسون عند عودتهم إلى أوطانهم فيرمونها، فكان الحصول على أحد تلك الكتب أو المجلات غنيمة كبرى يمتع نفسه بقراءتها أياماً ريثما تقع في يده غنيمة أخرى، ومع القراءة يتفتق ذهن الفتى وينشرح فكره للتفكير، وتتسرب موسيقا الكلمات إلى الوجدان، فيتردد على النوادي الثقافية والأنشطة التي تقام في خورفكان والفجيرة والمدن القريبة منه، ويكتب المسرح بداية، ثم يكتب الشعر الشعبي، ثم ينطلق في سماء الكتابة الأدبية، غزير الإنتاج سيال القلم .
  • علاقته بالكتاب دفعته إلى أن يؤسس هو ومجموعة من أصدقائه أول مكتبة في خورفكان ثم كلباء، ثم ينتقل للعمل في مكتبة الشارقة المركزية، ثم في المجمع الثقافي في أبوظبي ثم دار الكتب الوطنية، وقد عرفت أهم الصحف المحلية قلم أحمد راشد فكتب مقالاته ونصوصه الأدبية في جريدة الخليج، ثم في جريدة الاتحاد، وقد كرمه مركز تريم عمران بجائزة تقديرية على أعماله الأدبية، وهي أهم جائزة وطنية حصل عليها .
  • ترك 16 كتاباً مطبوعاً ما بين نصوص شعرية وبحوث ودراسات، من أهمها:
    • “سبع قصائد من أحمد راشد ثاني إلى أمه التي لا تعرفه” عام 1981 .
      - “دم الشمعة” شعر 1991 .
    • “يالماكل خنيزي ويا الخارف ذهب” شعر عامي 1996 .
    • “قفص مدغشقر” نص مسرحي 1996 .
    • “ابن ظاهر” بحث توثيقي 1999 .
    • “حافة الغرف” شعر 1999 .
    • “العب وقول الستر” نص مسرحي 2002 .
    • “جلوس الصباح على البحر” شعر 2003 .
    • “إلا جمل حمدان في الظل بارك” إعداد 2005 .
    • “يأتي الليل ويأخذني”، شعر، 2007 .
    • “رحلة إلى الصير”، بحث، 2007 .
    • “أرض الفجر الحائرة”، مقالات، 2009 .
    • “على البحر موجة”، نصوص، 2009 .

الأثنين ,05/03/2012

***

يتألق في لعبة الظاهر والباطن الشعريين

براءة ذمة أحمد راشد ثاني

إبراهيم محمود

أحمد راشد ثانيللناظر في ما ألفه وأثاره في مؤلفاته، أن يتلمس هذه المعاناة الملهمة والاستثنائية، والإرادة المتبصرة والقائمة بين جنبيه، وهو يتنقل، كما هو دأب النحلة في حقل فاره ورحب من الزهور، بحثاً عما يمنح الكلمة جلاء المعنى ومبرر الاستمرار .

لقارئ عناوينه أن يعايش صنعة “الراشد” فيه، والفعل “المحمود” في الكتابة، ليكون في عداد “الأول” من جهة هذا النشاط الحميم واللماح، فيما كان ينشغل به، من دون أن يصرفه عن متابعة ما يجري في محيطه الواسع، لا بل، كان ذلك يمثل الحد الطبيعي والمثمر، لعلاقة دقيقة، تكون في موقع شاهد عيان على أن رجل الحياة، كما هو رجل الكلمة، كان مقتدراً في الجمع المضيء والنافذ بين موهبة وأخرى، بين صنعة الأدب فطرية الطابع، وصنعة الكتابة ثقافية العلامة .

يمكن تلمس البعد الارتحالي والمتيقظ في قول الشعر في ما آتاه من إلهام شعري، ونشوة القصيدة وجمالية لقيا الكلمة الشعرية في (دم الشعر1991،)، و(حافة الغرف، 1999)، و(جلوس الصباح على البحر، 2003)، و(يأتي الليل ويأخذني2007،)..الخ، وهو جمع في الذهاب والإياب بين حالات وحالات أو حالات تستولد سواها وتُغني حياة شاعرها، بقدر ما تحفّز المعني بها على متابعة هذا المعنى الدفين وما يتألق على السطح في لعبة الظاهر والباطن الشعريين .

أن يستشعر إيقاع حياة من نوع آخر، هو أن يسهم في تجديده، ويثري ضروبه، عندما يلفت نظره المنحى الآخر في الشعر، وهو المعروف بعراقة تاريخه، أعني الشعر العامي، النبطي أو غيره، مما يشاع عن الشعر المختلف إيقاعاً وإبداعاً، كما في (يا الماكل خبيزي ويا الخارف ذهب، ص 1996)، وما في هذا التنويع من رغبة نفاثة في معايشة وجوه الكلمة الشعرية وجماليات رؤاها .

لكن الناظر في صنعة الإماراتي الخورفكاني(نسبة إلى “خورفكان” مسقط رأسه) على صعيد الكتابة الأخرى، لا بد أن يستوقفه هذا الهم المدروس، والمجاهدة في تبصرة الكلمة التي تمثل نوعاً من التوثيق لحياة شعب، لحياة مجتمع، في مجالات شتى، تعني فولكلوره، حيواته التي كانت، وتلك التي وهِبت بقاءً وجمال موقع، والصبر اللازم لمهنة شاقة وشائقة من هذا النوع، لحظة التوقف عند المعتبر “تراثياته” وتحديداً(حصاة البحر، الجزء الأول من السرد الشفاهي2002،)، و(دردميس، الجزء الثاني منه2003،)، و(إلا جمل حمدان في الظل بارك، 2005)، وهي أعمال معَدة، من دون نسيان أن فكرة الإعداد لا تتوقف عند حدود مجرد نقل هذه المعلومة أو سواها، إنما توثيق وشائج القربى في ما بينهما وتأصيلهما، من دون نسيان المثار في مقامات تراثية أخرى له، كما في (أغاني البحر والعشق والنخيل، 1981-1982) .

هذا يستوقفنا عند إبداع آخر، وصنعة أخرى، في السجل الذهبي للراحل أحمد راشد ثاني، أي المسرح، إذ إنه ليس حصيلة موهبة فقط، إنما مكاشفة أدبية وفكرية لهذا الهم الثقافي المركب، ومصادقة أدواره في تعددية الأصوات والمهام المثلى، كما هو حاله في (قفص مدغشقر، 1996)، وغيرها، تعزيزاً لإرادة البحث عن المختلف في الأدب والحياة . ثمة إمكانية الحديث عن وجود ممرات تتفاوت طولاً أو عرضاً، اتساعاً أو ضيقاً، أو لا تكون ثابتة، بين الأنواع الأدبية والفكرية والفنية، تكون ممرات آمنة ضامنة لسلوك الإبداعي، أو تفشل في تحقيق الهدف، تبعاً لإرادة السالك، كون هذه الممرات المسماة تتطلب مقدرة استبصار الفرز والتمايز، بقدر ما تترجم الشخصية الثقافية سلوكاً وجمالية تذوق للكلمة المتداولة في نصه، وما في ذلك من دراية بحقيقة العمل الخاص هنا، واستحقاقه التقدير اللازم، في عمق اثر المشترك، لما ينتسب إليه اسماً ومسمىً، في منهله الحياتي، كما هو حال الراحل الباقي بأثره الطيب: أحمد راشد ثاني .

نعم، يشعر المتابع للمسيرة الحياتية والشعرية لهذا الذي وهِب حياة بين طفلين أخوين له ماتا(قبله طفل، وبعده طفل)، بوجود مفارقة حياتية، كما أنها لعبة أقدار لا يمكن اكتناه لغزها أو سرها قطعياً، لكن، ربما، يمكن مقاربة هذا المسعى الحثيث والظافر في الكتابة متعددة الاتجاهات والموضوعات، كما لو أن الراحل في قرارة لاشعوره، كان على بيّنة تامة، أن العمر الممنوح له، يستغفل فيه وفاة في أفق انتظار، وأن شعوراً ما، بوجود ما يحثه على الكتابة ومعايشتها طويلاً، تأكيداً على المهلة المحدودة المعطاة له(وهي خمسون عاماً)، من دون حساب الزمن الذي استثمره في بناء جسده ليكون أهلاً للكتابة، وهو شعور يستحق المتابعة النفسية والتاريخية من ذوي الاختصاص، لمقاربة طبيعة هذا الحراك الأدبي والثقافي لديه، ولو بنوع من التشخيص، وإمعان النظر في القدرات الذاتية الخاصة التي تحيل أشخاصاً معينين إلى منذورين للكتابة، وإلى مسكونين بحُمى البحث عن المختلف، كما لو أن الذي يقيم فيهم مجتمع كامل، وليس من تم فقدهم من الأهل والأصحاب، وأن المزيد من العطاء كان يتفعل باطراد في المزيد من توسيع دائرة العطاء من دون توقف أو التقاط الأنفاس، تعزيزاً لفكرة تستحق الدرس، بصدد ذوي الأعمار القصيرة، لكنها المستنيرة، وكأن العمق الشاقولي عوض المدد المحدود في الامتداد الأفقي الحياة القصيرة التي عاشها نسبياً)، وذلك التفاعل بين الحياة الشخصية والحياة الأدبية والفكرية .

ذلك ما يمكن الشعور به لدى القائل:

يسألني عن دوافِعِ الموجِ
/ وأخبرُهُ عن حذاءِ البحرِ
/ يسألني عن أسباب السماءِ/
وأخبرُه عن قبعةِ القَمرِ . . .
ذلك ما يمكن معاينته بألم متبصر في :
يصفونَ لي الصحراءَ /
وينسونَ حبةَ رمل/
في موجةٍ مازالت تركضُ /
على البحرِ /
يصفونَ خطواتي الكثيرة /

على شاطئ البحر . .

إنه الشعور الإضافي بقلق شاعر عاش تحولات الحرف ومهام المعنى في كل موقف حياتي، أو موضوع كان يسهل عليه التعامل معه، باعتباره صالحاً للمعالجة في نص مسرحي، أو لتقصي حقيقة حياة فولكلورية، لأشخاص أو فئات، أو ليكون في ذلك طابع المؤثّر في القول الشعري، كما هو المدرَك في أعماله الشعرية، أو في الصيرورة المشتركة بين نوع وآخر، مجالاً آخر يستوقف المرء للنظر في هذا الجمع المتواصل والفاصل بين كائناته وموضوعاته، والمنحى التمثيلي في ذات تناور على موتها كما تجعل ألأمها في حالة الغفل من الاسم، كرمى هذا المنبثَق الكتابي من بين أنامله أو من روحه، إنه الانبثاق الذي ينظَر فيه مرفَقاً بقيمة اعتبارية تاريخية واجتماعية وثقافية، كما هي شهادة الذين تحدثوا عنه كذلك . إن الشعور بنوع من عبثية الحياة، قد يعيننا في مقاربة سيرة هذا الراحل الكبير، العبثية التي تأتلق كما أنها تصفى من كل عدمية طارئة، تعزيزاً لفكرة الحياة التي تعاش، خلاف الذين يستحضرون “اللامنتمي الاجتماعي”، إذ إن العبثية التي تثار هنا، تصلنا بينبوع الحياة، والرحلة القصيرة في الحياة، ونفاد فعل الرغبة في البقاء لزمن أطول، لأن الأمل محيطي بما لا يقاس، وكأن الذين لا يكفون عن العمل ليل نهار، ويكون عطاؤهم مجتمعياً بامتياز، يواجهوننا بهذه الحقيقة الصادمة، ووفق ما تقدم، أعتقد أن الراحل يستحق براءة ذمة بامتياز، جراء المنجَز أو المحقق باسمه أدبياً وثقافياً وفنياً .

الأثنين ,05/03/2012

***

قراءة في مجموعة "الفراشة ماءٌ مجفّف" لأحمد راشد ثاني

سامح كعوش

اجتمعت في أحمد راشد ثاني في شكله البشري ثلاثةُ مترادفات توزعت على مراحل وجوده الأرضي العابر، ولكن المستقر طويلاً والمنحفر عميقاً في ذاكرة النص، هذه المترادفات: الكائن الشعري مشوّهاً وقلقاً، والحياة تجريباً كتابياً يحتمل التمزق والتشظي، والإنسان شكلاً مسرحياً قابلاً للتهميش كجزء من خلفية على خشبة، وتتنازعه في ذلك ثلاث شخصيات تتشابه حيناً وتتضاد أحياناً، في لعبة تمثيلٍ تتقن الأداء كأن حيواتها عملٌ مسرحي ممتدٌ، بلا بدايةٍ وإن كان لهذا الشكل بدءٌ وإعلان، وبلا نهاية، وإن كان الموت ما يشبه نوم الشاعر في أرجوحة المسافة .

أحمد راشد ثاني الشاعر يتقن لعبة الاختباء من ظله، بل هو شاعر خيال الظلّ بامتياز، حتى في موته يتسع ليصبح غمامةً أو شكلاً راقصاً، أو دميةً تستعرض مهاراتها في الرقص والتأرجح في يد شخصه المختفي، وهو يمسرح الشعر، ويجلب الخشبة إلى القصيدة، أو يأخذنا إلى مسافاتٍ أبعد من الخشبة نفسها، حين نعتقد ارتياحاً إلى الأشياء بأشكالها، فإذا به يرمينا بعناصر مستجدةٍ في الخلق، وأضدادٍ لا تجتمع إلا له ولا تنجبل إلا بين يديه، كأن يبدأ سيرة الحضور بفعل غياب: نام الشاعر - - دفنوا الشاعر، ولكن بعلامات حضور تؤكد ما لا ننكره من حفرٍ في الذاكرة، ذاك الحفر الذي أتقنه أحمد راشد ثاني، وهو المتخصص فيه، وهو ينام ليبدأ فعل التخيّل والهذيان، وإعادة صياغة أشكال المنظور بالعين والمرئي بالقلب والمحكيّ بالأمل، المخطوط بحرف الماء، كأن يشير إلى أرجوحة مسافة/ شجرة على الجبل/ ظلّ الشجرة على طاولة/ الشاعر في الماء، يقول في مقطع من مطولته الشعرية “الفراشة ماءٌ مجفّفٌ”:

“نام الشاعر في أرجوحة المسافة
والشجرة على الجبل
وظل الشجرة عن الطاولة يسقط
دفنوا الشاعر في الماء” .

أحمد شاعرٌ يمسرح الشعر، لأن المسرح “فن ناري كالجوع”، ولأنه في مفاهيم الحياة حياةٌ، وشكلُ الانعتاق من شكليات الحياة وإشكالاتها، ولأن الكائنات التي تحاول التمثيل ضمن العمل المسرحيّ ما هي إلا فراشات تحلّق حول الضوء، وحين تنطق بأفكارها تموت، لأنها كائن الصورة الانتحارية، كما النحلة التي ترمي بعسلها في خابية النعاس، وتؤجل موتها إلى حين غرزة أخيرة، طعنةٍ واحدةٍ في الفراغ، كما “دون كيشوت” هو أحمد راشد ثاني، صارع طواحين الهواء طويلاً، ولكنه ليس كسرفانتس في نهايته واعياً لما يحدث حقيقةً، وسيداً في قومه، بل هو المتيم والميتّم والفراشة في فضاء مشبوب تحت ظلّ شجرة، والشاهد الفراشة على تحوّلات المشهد على خشبة مسرح الحياة، يقول:

“تلك الفراشات يطيب لجفافها أحياناً التمسرح
كلّ مرةٍ على طاولةٍ
في فضاء مشبوبٍ
تحت ظلّ شجرة” .

ولأنه يعمد إلى الرقص هارباً من ظلّه الأرضي، جسده الذي أعتقه مراراً في لحظات الهذيان، لكنه كان ينتظره عند زاوية الطريق أو عتبة الباب ليعود إليه قبيل كلّ نوم، مؤجلاً الموت قليلاً، ويسمّيه مزرعة الشاعر الخاصة، وأشياؤه اليومية كما كل عامد إلى الرقص، هارباً من حاجته إلى الهواء كبشري تعيس، وإنسانٍ لا يستطيع خلاصاً من دنيويته الملقاة على الطاولة ككأس ماء فارغٍ أو يكاد، أشياؤه “بعضٌ من الهواء المهمل على طاولةٍ اعتاد شاعرٌ وراقصٌ التقابل عليها”، في موعدٍ يتكرر “كل مرةٍ من الهامش/ قبل أن يكون ظل الشجرة مسرحاً/ والبراري التي تحيط به أحداق”، وهو في ما يشي به من خلقٍ شعري يلمّح إلى شكل عمودي واقف كالشاعر نفسه، كأحمد راشد ثاني، كالهامش الواقف على طرف الصفحة/ حافة الحياة، ثم إنه يكسر هذا التعالي العمودي بانكسار شامخٍ بالاتساع كما البراري والنظرة في الأحداق .

نراه جامعاً في مطوّلته عن الفراشة الماء الذي جفّفه التعب، أو هي حياة الفجأة، تجربة الترحال اليومي بين خورفكان وأماكن شتّى ظلّ هارباً منها وهو في جنباتها، يحاول أن يمحوها بالماء، فتصيبه بالعطش، وهو الروح الهائمة منذ الأزل بالغزل، والحكمة الرائية في الموت كأنه يغازله ويمتدحه، يقول في المجموعة الشعرية نفسها:

“فجأةً، يكون الراقصُ
والموتُ
مزرعةَ الشاعر الخاصة” .

يبحث أحمد راشد ثاني في قصيدته عن ملامح اللامبالاة بما هو كائن، والاعتقاد بما سيكون، ولو جاز إلى ذلك مجازاً وعراً يبدأ باصطياد غيمة، ولا ينتهي إلا بالجنون، وبينهما ما يحتشد من مفردات تشير إلى فعل شعري متفرد، كأنه الرسم بالكلمات حقاً، بل كأنه إشارة الواقع تواً في حتفه ويغني له، كأن يصير الموت علاقة الشاعر بالهباء، بصيد الغيمة كهواية، ولا يتقنها، كأن يصيد الشاعر الغيمة بهبائها، أو أن يعتاد الشاعر الظل مسرحاً والبراري التي تحيط بها أبواباً إلى ما لم تقله الحياة بعد على لسان الشاعر، أو ما لم يكتبه هو من قصيدةٍ يأخذها معه في رحلته الأخيرة، زاداً لما يأتي، ولو في ماء الفراشة، وهي روح الشاعر التي تحلّق قريباً كما حول الضوء، حول الزهر، في البراري، ولا تقف عند الأبواب، لأنها كائنات الشفافية، يقول:

“حيث اعتاد شاعرٌ وراقصٌ أن يتقابلا عليها
قبل أن يكون الظل مسرحاً
والبراري التي تحيط بها أبواب” .

أو حين يصبح للشاعر علاقة الملكية التامة لأشياء المشهدية الشعرية التي أبدعها أحمد راشد ثاني في علاقة الشجرة بصيرورتها مسرحاً أو علاقة البراري بصيرورتها كأحداق، وارتباط الأحداق بفعلها عبر شاعرٍ يدرك أبعاد ما يمكن أن يكون من بيان ساحر لمفردة يتيمة، شبيهته في الاغتراب، والعذاب، والغياب، كإنسان شاعر، أو شاعرٍ فراشة، وكيف لا يلتقي الشاعر بشكله النوراني في كينونة الفراشة إذا اجتمعت للشاعر أحجار الخليقة الأولى .

الأثنين ,05/03/2012

***

"قفص مدغشقر" ترسخ للحداثة في أبي الفنون
أحمد راشد ثاني مسرحياً

د . هيثم يحيى الخواجة

لم يكن أحمد راشد ثاني مسرحياً تقليدياً، فقد سعى في مسرحياته التي ألفها لأن يكون مغايراً، لا من أجل التمايز وحسب بل من أجل أن يواكب الحداثة التي بدأت تفرض نفسها على الأدب الخليجي في السبعينات .

ثمة تساؤل مشروع هل أحمد راشد ثاني مسرحي أو شاعر؟ وسرعان ما تجد الإجابة من خلال إنتاجه فهو مسرحي وشاعر وباحث تراثي، كتب المسرح لأنه آمن بهذا الفن ووجد فيه ضالته عندما أراد أن يربط بين الماضي والحاضر من أجل رؤيته المستقبلية، ومن أجل أن يسهم هذا الفن في حضارة وطنه التي انطلقت قوية وواعية مع انطلاقة الاتحاد أوائل السبعينات .

كان يفتش عن الصباح، ومن يفتش عن الصباح يغدو لصيقاً بالفنون والأجناس الأدبية، وهذا ما دفعه لأن يعبر عن خلجات نفسه من خلال الشعر طالما أصر على ولوج الوعد والحلم وطالما أصر وبقوة تجاوز العقبات والآلام .

ومادام حديثي سيقتصر على المسرح، فإنه يمكنني القول إن أحمد راشد كان انتماؤه لهذا الفن قوياً، فقد كتب مجموعة مسرحيات أهمها: “الصراخ”، “الأرض بتتكلم أوردو”، “الأرض سؤال”، “قفص مدغشقر” وغير ذلك .

وهو في جميع مسرحياته حداثي باقتدار، وعلى الرغم من قلة إنتاجه المسرحي فلا يمكن أن نتحدث عن التأليف المسرحي في دولة الإمارات العربية المتحدة من دون أن نتوقف عند هذا المسرحي، الذي عشق الشعر والمسرح والتراث .

وما أعرفه أن لدى أحمد راشد ثاني بعض المسرحيات المخطوطة التي لم تطبع وأنه متابع جاد للحركة المسرحية ومواكب فعال للثقافة بشكل عام في الإمارات .

تعكس مسرحية “قفص مدغشقر” حياة الآباء في الإمارات قبل الاتحاد وتتوقف عند معاناتهم وغربتهم وعذاباتهم، ففي المقهى يجتمع أربعة أشخاص ليزيلوا عن أنفسهم قسوة الحياة ويعمقوا تجربتهم بالحكايات التي يسردونها لبعضهم بعضاً وخاصة حكاية أبي جاسم الغريبة العجيبة:

“الممثل الأول: وقبل المغرب بشوي
الممثل الثالث: والشلة مجتمعه
الممثل الرابع: الشلة إياها
الممثل الثاني: اللي تجلس من أكثر من سنتين على هالقهوة
الممثل الأول: وهم أربعة
الممثل الثالث: يزيدون واحد
الممثل الرابع: ينقصون واحد

الممثل الأول: بس هاذول هم ما يتغيرون” (1)

فمنذ البداية يدخلنا المؤلف في إشكالية عدد الجالسين في المقهى ومن هو أبو جاسم الحاضر الغائب، وهو لا يكتفي بذلك، بل يغيب أسماء الممثلين ولا يفصح عنهم في البداية، لكأنه يريد أن يقول: إن هؤلاء يحملون آمالاً وآلاماً واحدة .

ومهما اختلفت أفكارهم وحكاياتهم وتجاربهم فهم من شعب واحد يعيشون على أرض واحدة ولهم معاناتهم وآمالهم .

وتبدأ الشخصيات بالإفصاح عن سماتها وعملها فالممثل الثالث يعمل فراشاً في البلدية والممثل الرابع (حمدان) سواق باص البنات، لكن حكاية أبي جاسم بقيت مجهولة وكأنها حكاية الكثيرين، ولذلك يجعله المؤلف متنقلاً بين الشخصيات، فأحياناً يكون الممثل الأول وأحياناً أخرى الثاني وهكذا .

إن أبا جاسم شخصية استثنائية وإشكالية في آن فحكايته غامضة وأسلوبه الصامت مع الشلة وفي الجلسات مريب:

“الممثل الأول: وهو حتى لو محد يسأل . يوم يومين وبعدين بيجي القهوة كالعادة
الممثل الثاني: وبيجلس مع الشلّة كالعادة
الممثل الأول: وكالعادة بيقولون نفس الكلام
الممثل الثالث: عمرنا ما قلنا نفس الكلام
الممثل الرابع: لان بو جاسم ما يجي يوم إلا ومعاه كلام جديد
الممثل الثاني: حتى إنه اللي ما يعرف بو جاسم يقول هذا اللي يعيش اليوم بسنه
الممثل الرابع: في يومه ايروح عشر بلدان
الممثل الثالث: ويشتغل سبعين شغلة
الممثل الثاني: وكل بلد
الممثل الأول: وكل حرمه
الممثل الثالث: وكل شغلة
الممثل الرابع: وراها سالفه

الممثل الثالث: وكل سالفه تجيب سالفه” (2)

وإذا كان هذا هو المهاد الرئيس لمعمارية نص مسرحية “قفص مدغشقر” فإن المؤلف أحمد راشد ثاني لم يتوقف عند ذلك بل جعل هذا المهاد منطلقاً ليوضح كيف تفكر هذه المجموعة وماذا تنتظر، جاء ذلك عبر الرموز والدلالات والطروحات المباشرة وغير المباشرة

“الممثل الرابع: بوجاسم سمعت أنك تعرف نلسون مانديلا (واحد)
الممثل الأول: مانديلا!

(أبو جاسم)

الممثل الثاني: رد عليه وهو يطلع الجقاره من جيبه وعينه غايصه اتشوفها غايصه حتى من ورا النظارة السودا

الممثل الرابع: امنوه أمي

(واحد)

الممثل الأول: لا إنت

(أبو جاسم)

الممثل الثالث: وقبل محد يضحك ايقوم
الممثل الثاني: جنه يبغي ايخلي اللي جدامه امعلق
الممثل الأول: بين لأنه انضحك عليه وما انضحك عليه” (3)
وهو لا يغفل عن تمرير بعض العادات والإشارة إلى أفعال تتعلق بالبيئة آنذاك والتراث أيضاً
وتتصدر حكاية الحب الأحداث لما لها من أثر في الخصوبة واستمرارية الحياة والأمل وغير ذلك .
“الممثل الرابع: “لما أنا شفتها ما نزلت . خفت لا يشوفني حد ويفنشوني . يقولون تام ويا بنت بروحه في الباص ويفنشوني:
يا بنت الناس إنت وين رايحة . تعرف شو ردت علي يا علي”
ويغلف المؤلف الحدث برؤية فلسفية وحكماً تخدم نمو العقدة وتغنيها والغاية من وراء ذلك الاقتراب من الواقع وتندية الحكاية ودفع التشويق نحو العمق:
“الممثل الرابع: أوقات الناس يدورون على بنات يصبون عليهن حب وويودرونهن متى ما يبون . وساعات الواحد منهم يالبنت يالولد . مثل الحفرة كلما انصب فيها حب . يضيع فيها . يصير ماي يابس” (5)
وتتفرع علاقة الجماعة في المقهى وتتشابك ثم تتوفز المشاعر تارة وتخفت تارة أخرى حتى إن أبا جاسم يعبر عن عطشه، وهذا العطش مفتوح على حياته كلها وخاصة عندما يتركز الحديث حول الأنا (الذاتي: الحب، الشقاء، الأمل، الوعد) والنحن (الموضوعي: البحارة، العمل، النوخذا، علاقة المؤسسات بالفرد، المركب، البحر، السلطانة)
والغاية من وراء كل ذلك تعميق البعد الإنساني حتى لو طال ما يتعلق بالتصرف الشخصي:
“الممثل الأول: وكنت لما أول مرة جيت اهنيه، أمشي أربع ساعات علشان احصّل مقص . اشوي أخفف من شواربي اللي صار الشعر يتنطط منها . كل واحد صوب . مثل حشيش ناقص في بيت قديم وما حصلت” . (6)
وقد سار الحوار باتجاهين الأول مكثف قصير محكم عندما يرغب المؤلف في تحقيق نقله أو قفزة في الحدث ويسعى إلى تطويره، والثاني فضفاض مفعم بالتوضيح والتلميح يأتي ذلك من خلال زركشة جسد النص المسرحي وتعزيز بعض الدلالات والمرموزات التي يريد المؤلف أن يرسخها .

“الممثل الثاني: الدنيا براد

(راشد)

الممثل الثالث: والحياة ملل

(علي)

الممثل الثاني: واللسان ما يبغليه ديزل علشان يشتغل

(راشد)

الممثل الرابع: ديزل منه وفيه

(حمدان)

الممثل الثاني: وكبرت السالفه” (7)

(راشد)

“الممثل الثاني: صدقك . ايسمونها مدغشقر . ولما شاف أبو جاسم المركب طبعان شال خمسه من البحاره على كتفه اليمين وخمسة على كتفه اليسار، وتم يسبح فيهم يمكن منيه من خور فكان . لين وين . لين مثل دبي” (8)
وقد تخلل السرد الحواري الفعل المسرحي بحيث استطاع المؤلف وبدراية واضحة أن يبتعد عن المشاهد الذهنية لتظل الدراما سيدة الموقف في غالب المشاهد وهذه إيجابية تحسب لصالح الكاتب .

من الواضح أن الكاتب يعي ما يكتب، ولهذا تنامى الهدف الأعلى حتى نهاية المسرحية بأسلوب سلس، فقد جعل الخيوط الفرعية تتعقد وتتوحد لكي تصب في البؤرة المركزية الكبرى التي تجدل الهدف وتوصله إلى المتلقي من خلال رؤية المؤلف، وقد حمّل المكان أبعاداً ذات ألوان متعددة فالمكان رهين أمل مفتوح ورهين علاقات مسكونة بالحلم: الإمارات، سواحل مدغشقر، المقهى، الميناء، والزمان يرتبط بالمنجز الشخصي والجماعي، وهذا المنجز يطال الفرد وبما يرغب، ويشمل المجتمع ومايرسخه ويعززه من أجل حياة مستقرة مطمئنة .

“الممثل الثاني: حتى إحنا ماها مبينه ربعه . اللي صارلنا سنتين نجلس وياه على هالقهوة . عشاه على احسابنا (راشد)

الممثل الثالث: والشاي
(علي)
الممثل الثاني: وكل يوم ثلاث باكيتات روثمان
(راشد)
الممثل الرابع: غير إنه يجلس بالساعات يكذب علينا”) (9)
(حمدان)

إذا كانت الحداثة لا تنطلق من النص وحده ولا من أية جزئية من العمل المسرحي، ولا من الممثل، ولا من المخرج، بل تنطلق من ذلك كله، ومن تعانق وتماهي هذه العناصر داخل النسيج الكلي للنص فإن ما يسوغ وجودها الجدة والابتكار والفهم العميق لمعنى الحداثة، وعلى الرغم من ذلك فإن النص يبقى المدماك الرئيس للإنجاز ولمنطلقات الحداثة، وبناء على ذلك فإن أحمد راشد ثاني في مسرحية (قفص مدغشقر) جهد لأن يخرج عن النص التقليدي في الصياغة الدرامية ليس بغاية الخروج عن التقليد وإنما بهدف تقديم نص حداثي يواكب العصر .

ودلينا على ذلك أنه جعل الممثلين يتبادلون الأدوار ولم يهتم بفتح الستارة وغلقها وترتيب الزمان قدر اهتمامه بتطور الحدث إضافة إلى اهتمامه بالبعد النفسي أكثر بكثير من السمات الخارجية للشخصيات .

ويمكن أن نضيف إلى ذلك اتباع المؤلف منهجية تخصه في التعامل مع الموروث الشعبي حيث جعله ينسرب داخل الفعل المسرحي ومن خلال حوار الشخصيات مع بعضها بعضاً لكأنه بذلك يقلد في سرده الحواري بعضاً من أسلوب بريخت أو شيئاً من طريقة بيتر فايس، حيث عمل هذان المسرحيان على إظهار صوت الطبقات الاجتماعية التحتية التي ترتبط بالوعي الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وهو فوق كل ذلك يسهم مع من سبقوه في تحويل التراث الشعبي إلى نصوص درامية من عبر أمرين: الانفتاح على التجريب لتكريس مسرح شعبي يقوم على التحديث وجعل المسرح أداة توعية عبر استخدام الانثربولوجيا واقتناص النبض الحقيقي للأحداث من خلال الحكاية اللافته وتجاوز الحوار الناظم والمنظم إلى حوار الناس اليومي والواقعي المتغلغل في المعاصرة . وأعتقد أن أحمد راشد ثاني وجد أن الحياة لعبة ما تكاد تنتهي حتى تبدأ ومسرحية) قفص مدغشقر (لعبة حياتية انتهت عند أبي جاسم ولكنها بدأت عند غيره سواء أكان ذلك بشكل مشابه أم بشكل مغاير، ولأنه آمن بأن تاريخ المسرح هوتاريخ المجتمعات، فقد هرع إلى ربط تاريخ الشخصيات وعمقها المجتمعي بالواقع، لهذا نجده يقول في نهاية المسرحية تحت عنوان (هامش) “في عام 1992 وبعد 8 سنوات من كتابة هذا النص عاد البحار فيروز بن سالم الغبر إلى أسرته في خورفكان .

لقد غرق بفيروز المركب وهم في طريقهم إلى الهند فلجأ سابحاً إلى جزيرة مدغشقر حيث عاش هناك أكثر من ثلاثين عاماً الآن يعمل السيد فيروز حارساً في إحدى مدارس خورفكان” . (10)

هل قصد الكاتب إيهام القارئ بأن أبا جاسم هو من واقع الحياة في الإمارات أم أراد أن يقول إن أبا جاسم ابن بيئتنا وهو ضميرنا في حياتنا ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، وسواء قصد الفكرة الأولى أم الثانية فإن دلالة الشخصية أكدتها الحكاية وعملت على ترسيخ وجودها .

أختم فأقول: إن في مفاصل هذا النص طروحات مركزية تتوارى خلف الأحداث ومثل الشخصيات تبرز دلالات مفادها الوقوف إلى جانب إنسانية الإنسان وحقه في الحياة .

هوامش

(1) أحمد راشد ثاني، قفص مدغشقر، مسرحية، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة، 1996م
(2) المصدر نفسه، ص 13+14
(3) المصدر نفسه، ص 17
(4) المصدر نفسه، ص 26
(5) المصدر نفسه، ص 27
(6) المصدر نفسه، ص38
(7) المصدر نفسه، ص50+51
(8) المصدر نفسه، ص45
(9) المصدر نفسه، ص 68+69
(10) المصدر نفسه، ص 911

الأثنين ,05/03/2012

***

مختارات من قصائده

معجم أحمد راشد ثاني الشعري

أهون عليج

أهون عليج يا ديرتي
أمسح دموعي إبفرجتي
وأكتب بحزني قصتي
وأقتل ركودي إبصرختي
ونتي إلي ما تسمعين
أهون عليج
أنا بشوقج أحترق
أنا بظلج اختفي
أنا بعزج أختنق
ونتي عليْ ما ترفقين
ما تستحين
آنا اللي حبيتج عريش
في السيح عسفوح الجبل
آنا اللي حبيتج رطب
محلاه ععذوق النخل

آنا اللي حبيتج بحر
موجه إلى يوفي وصل
آنا اللي حبيتج
بدون النفط واللولو والثمين
أنا اللي حبيتج كحبْ العاشقين
بالرخص بعتيني
عجب

منّج عجب ما تستحين
ما تستحين
اللي يحبج تخنقيه
واللي يبيعج تشتريه
خيرج بجيبه تامنيه
نفطج بخونه يحترق
وانتي ما تسوي رمل
عنده ولا حتى ورق
أغرق وبرج يبتعد
عني وآنا الولد
ولد البلد
اللي أبوه
قاسى اليهد *

قاسى الشقا

قاسى العنا
عاص البحر لجلج وكد
وآنا اللي أمي ادفنت
بوها تحت ذاك النخل
وأنا اللي إخواني اقتلوهم
غربي هذاك الجبل
بيدافعوا عن هالبلد
اتشرد ابليا بلد
وسط البلد
وآنا الولد
ولد البلد
ما تستحين
صح هالزمان ابليّا قيمة ولا أمان

ماله ثمن

ما يسوى شيْ
ما يسوى دمعة طفل ولا حتى شجن
ما يسوى حتى إلعيش في هذا الزِمن
إبلا وطن
هذا اللي قلته من زمان ومن سنين
هذا اللي قاله بوي وكل الأولين
لكن ربيعي * ايقول غير كلمتك

لكن ربيعي ايقول غير مبدأك
من قبل ما يوم تدوسه ابخطوتك
من قبل ما يوم تبيعه أبلقمتك
واقول لا ما صدّقك
ذي ديرتي ما صدقك
ذي ديرتي بصبر عليها
رغم كل اللي حدث
بصبر عليها
لي متى بصبر عليج
لي متى بصبر عليج
أصبر عليج
واهون عليج
ما تستحين
أهون عليج يا ديرتي
أمسح دموعي ابفرحتي
وكتب بحزني قصتي
وقتل ركودي ابصرختي
ونتي إلي ما تسمعين
ما تستحين

* عريش: غرفة من جريد النخل .
* اليهد: المرض . * الربيع: المرافق .

بيادير

بيادير العيون شهلة يموتوا ابرحي * مل البصره وما برحي ولا انغاله * إذا ما سقيت من إتراب الأرض نظره أو كسرت النظره في الوادي أو كسرت الوادي في بحره وكسرت البحر في غبه وشلت الغبة من دولاب شلته اسحاب وحطيته على راس الجبل عمره * وأنا أقصد من العمره وتعمير القدو جمره وهالجمره إذا ما جات من صدر اللي متعني * اجت أنفاس ما قط قام في الجمره مثلها ضو أو قابس، من الجمره يصيح يا قوم أنا ما ملتهب م الرأس أنا ريجي على كل ضو . أنا أنفاس تغني ياه، ياه ملي بني هذى السما وما حط لابن الناس بس أكياس * يعدل الراس لمّا الراس قفص هو جاس * وياه ملي يسافر يبغي أرزاقه ابحر ذاقه وذاق ملحه وما ياله البحر برزاق رزق اللي يبيع البحر وعلاقه وباع النخل وعذاقه وباع البر ونياقه أنا ما باك يعمر لاق للاش * وباش . أنا من نش * من اترابك ومن حيبك ومن حفلة قمر فوق التفر * جالس يدا مديت بغوص إو غيص . غرق غيصي وغوصي فات . أنا مافت . أنا تميت علي الفنه اصيح الليل يا أم الليل تعالي حيل * وشليني شليلة ميل ووصليني إلى إنغالة هلي اللي ينامون أو يحلموني تلاقي عندهم حلوه مثل بلوى انشبت كالشوك في البلعوم من يوم في القوم أنا ياهل صغيروني انشبت حلوى عيون إلحلوه شلتني ريولي حافيه وجفونها اتبرد علي حر البلد وزيد أنا ما اسكن الديره أنا أسكن نظر بنت من الجيره بيوم إمن العمر فتحت علي الباب وأنا ما شي إلى خياط أخيط للعيد كندوره أو فتحت باب ومن يوم ما الحلو شق الجدار إباب أنا ما قط قدرت أرد إلى روحي بليا جواب من الخلاب اللي لما يوم إمن العمر لما ونا ماشي إلى خياط اخيط للعيد كندوره فتح عالروح فلقه باب أو دش الروح دش أو ذاب .

* البرحي نوع من أنواع النخيل البصراويه * انغاله: من أنواع النخيل
* عمره: من التعمير * القدو “النرجيله” بالتبغ والجمر * متعني: قاصد
* أكياس: من الموازين * هوجاس: هواجس * اللاش: الاشيء * نش: قام
* التفر: مؤخرة القارب * يدا: حبل الغوص * حيل: بسرعه .

غنى الخضر لما طرب

يا من يصحي الليل لما الغفوه غفوة شمس في غرشه * مطر ما من يصحي الغيم لما الغيم عبرة ليل ع سقوف السفر ويا من يصيح ابراس جبل ع طيور في سدره تنام أو تحلم ابماي زلال يمحي الصاري ويسحر اعروق المدر ولما انسحر لخيال في راس الرمال أو لال يات من الحيور على الحميريات البيادير ابحيول اويو الشحوح انزوح من روس اليبال ابساق عسل . يصيحوا هود وهدى * ترد كل الندود لما الندود اصعود ونزول تشيل اليود والمايود * حتى نوصلك يالروله * يا اللي امواصلك والواصلك واصل لماي أنا ما بشق صدري ولا شيبي يغطي الراس ولا قلبي مراويس * ولا عيني دبابيس ولا قولي مناي أنا هاي وهاي * وأنا الرغيد على هواي وأنا هايتين وشايتين وهايتين * ونا صوغه * لما الشرهه * متلاقي الطلب ونا صوغه الحلوى إذا إنشالت برمش الئيد شيلة من يحب ونا جيتك اقماري أو متعايي وجيت ونا جيت رش وجيت طيش طش ارتبش ربشة غوش ونا جيت عيد وجيت وكيد وجيت قند * ونا هايتين إو نظرتين عنك تشيل الرمل وتهد السماونا نظرتين وهاتيين اجموع سكان أو قوافل لا لهم أو لا عليهم جويجون بشر مدر وبشر وبر وبشر جبل وبشر بحريو من ظنون العطشى ورادة سفر صابوا العيون في بسرة عذرى أو عشب يالماكل اخنيزي على صدر الخشب * يالرايح الغرفه وشفت السبله مطلع من خصب غنى الخضر لما طرب وصف وقال لما لقى عقدة لغز بين العقال: يا لماكل اخنيزي ويا الخارف ذهب .

الشارقة 1983

* غرشه: قنينه * هود: ينادي زائر البيت فيرد عليه من الداخل: اهدا: أي تفضل وادخل * اليود: الجود والمايود: الموجود * الروله: موقع معروف في الشارقة كانت فيه شجرة معبودة * مراويس: جمع مرواس: طبل صغير * هاي وهاي: هذه وهذه * هايتين: شيئين “مؤنثين” * شايتين: أمرين “مؤنثين” * هايتين: جمع هايت أي ضائع * صوغه: هديه * الشرهه: الزعله وهي هديه أيضاً * متعايي: عاجز تقريباً * قند: مربعات سكر * اخنيزي: نوع من أنواع النخيل * الخشب: السفن .

قالت أمي

قالت أمي:
قوم يحمد
قوم باكحل عيونك
باللي ما كحلت به حد
قوم

باغني لك للماقط غنيته
غناتي إنت
كبدي
يوم تتلف
مني الكبد
قوم بشكي لك
ترا الشكوى لغيرك
ما تفيد اللي جروحه
بالكتم تركع وتسجد
قوم بروي لك
حكايات القهر
اللي بقت اسنين
في هالروح
ياروحي تعربد
قوم يحمد
قوم يحمد
قوم اطيور تغرد

فوق أشجار
وطيري ما يغرد
في القفص محبوس
يا ولدي
امقبل ما آنا أولد
كل ضيق ايشده الضيق
وكل ظلمه لظلمه
وعيني من زود البجي
اجفون مشبوكه إو نظر
يا ولدي أرمد
انولدت يا ولدي والخلخال
في رجلي

يصيح:

أنتي مذله
وكل دزه
في منزى *
اتصيحبي:

يا عار ما قادر أشله
وفطوموني ما بعد باب الأهل
باب أدلّه
وما عرفت اسكيك
في عمري يولدي
غير من إغبار رجلك
ولا تظن باب إنفتح
في وجهي
إلا ضحكتك يحمد
وجيتك
انته دنيايه
وحلمي اللي بنيت اقصوري فيه
ونت عندي
الدوا

اللحصليته الجرحى
إو أحيا عليه
يمه يحمد
يا غناتي
يا حياتي
يا نشيدي في الليالي
يا سهادي
يا بعد كبدي وروحي
يا جروحي
يا غصن مني انقطع
يا عين عيني
قوم يمه
من زمان
آنا كتمت ابقلبي شي
ودي أقوله
يمه قم بعطيك سري
يمه قم بخبرك بمري
يمه قم باقول لك ما حير اسنيني
وفكري

يمه تكفى قوم وسمع
يمه
يكفي نوم
واللنشات تطبع *
يمه يكفي اسنين في هالليل
تاكلنا ذياب الحكم
والمحكوم يخضع
يمه بلدان تباع
ولا تفق يا ولدي
ينقع!
يمه كل ليل
الثعالب تنزل اسيوح الوطن
تسرق
وما م السرقة تشبع
يمه ما خير ابلدنا
غيرها الإنسان
والإنسان مقتول
ويركع
من كتابه “يا الماكل خنيزي ويا الخارق ذهب”
صدر في الشارقة أوائل ثمانينات القرن الماضي

الأثنين ,05/03/2012

***

أشعار أحمد راشد ثاني

أي موجة

يصفونَ لي الصحراء
وينسونَ حبةَ رمل
في موجةٍ مازالت تركضُ
على البحرِ
يصفونَ خطواتي الكثيرة
على شاطئ البحر
بينما لا يعرف البحر
في أي موجة غَرِقْت

الطائر الذي أكل

أنهضُ وأرحلُ
عن البيتِ
في البيتْ
أكتبُ موجةً
وعليها ظل غيمةٍ
كان يَظُنها سمكةً
الطائرُ الذي أكلْ

ما جرى للحديقة

عندما عَرِفتْ بما جرى للحديقة
لم تخرج الموجةُ إلى الشاطئ،
ولم يعد البحرُ يكلمُ نفسَهُ
الطيورُ وَضَعَتْ المرايا
في الأعشاشِ،
وكان ثملاً
الضوءُ وهو يمشي
كان في المدينة خللٌ
في الإبرةِ
كان في المدينة خيطٌ
من دخان

أخيراً

يسألني عن دوافِعِ الموجِ
وأخبرُهُ عن حذاءِ البحرِ
يسألني عن أسباب السماءِ
وأخبرُه عن قبعةِ القَمرِ
أخيراً صَمَتَ،
فأخذتُ أجمعُ الحصَى
من على شطآنِ الكلامِ
وأضعُهُ في كأس القصيدةِ
أخيراً توقفَ عن رثاء المرآةِ
ونامَ على الماء
كظل وردةٍ
أخيراً شُفيَ من الدّم

لسانُ البئر المقطوعُ

أنتَ أنا الذي لم يعبرْ
الذي ظل غريقاً في الطوفان
الذي ظل أنينا، وظلاً
على شفةِ البحر
أنت الذي لم يتكور كصخرةٍ
لم يُنلْ كقِطاف السرقةِ
لم يقفْ كحائطِ المنتهى
لم يحتطْ كبئرٍ في جحرٍ
لم يُحول النجمةَ إلى مخدّةٍ
ولا النبعَ إلى صنبورٍ
لم يرحلْ
لم يعدْ بالرحلةِ
لم يعدْ والرحلة
على ركبتَيهِ
تنثرُ رُمانَ المجهولِ،
وتقرأُ الرملَ بالأجفان
لم يعدْ بالثلج ويضعه
كالقميصِ على الصحراءِ،
وبالصحراءِ التي جَالَسَها
على مائدةِ المنفى
وشربَ معها اليأسَ
لم يعدْ
كذلك،
لم يعدْ يشربُ
من فمِ الغابةِ،
ولا يأكلُ من وليمة العصفور
الأنثى كَسَرتْ سُرّتَهُ،
وأَرَاقتْ فَمَهُ
قام عليه الماءُ، والرملُ
الذي يشربُ الماءَ
قام عليه المشهدُ،
وإبرةُ العين
باعدتِ السماءُ بين نجومِهَا
على رأسِهِ،
وتحطمَ البحرُ
الأمواجُ التي على الشاطئ
من شظايا حطامِهِ،
الرمُل الذي بنتْ الحسناءُ
خيولَ أحلامِها، منهُ
من بقايا دَمِهِ،
وأقواسِ غيابِه
أغاني القواقعَ،
وطيورُ الجزيرةِ،
ولسانُ البئرِ المقطوع

كان يكفي الباب

أدلهم على طريق لم أَدخُلْهُ . كان يكفي البابُ
ولم أطرقْ أبداً إلا كَيْ أهربَ
وكأن هذا البيتَ قبرِي
السعادةُ في الفنجان، وهذا الصباحُ سنمنحُ الأطفال حريتَهم، ونعذبَ الصحونَ
المائدةُ ممتدةٌ حتَى السماءِ، ومن السقف تتدلى الرئةُ
- خذ المرأةَ إلى الماء ونظفها من الجنس
- خذْ الرجلَ إلى الحائط واطلق عليه اللعنة
خذ الجدرانَ إلى النزهةِ، والمرايا إلى العائلةِ
خذني إلى حيثُ دَخَلْتَ
لأطرقَ البابَ وأدخلَ القبرَ وأنسَى

كتاب الليل

“إلى جمال مطر”

أغلقَ الليلُ كتابَهُ
وَضَعهُ في النافذةِ،
ونامْ .
كان شعرُها الأسودُ يجري
على قرصِ الشمسِ المغمسِ بالغيومِ
الأمواجُ تصفقُ، والأشرعةُ تُغني،
والجزرُ الصغيرةُ المتناثرةُ في خليج الروحِ
تلعبُ مع الدلافينِ
على صخرة الحلم
تسيلُ دمعةُ البحرِ
الشطآنُ تباعدت في عينِ القرصان الوحيدةِ،
وعندما اعتلتْ العاصفةُ إحدى السفنِ
نزل البحارةُ إلى المحيط
يحصدون حشائِشَ الغَرَقْ
السماءُ أعدت المائدةَ:
بيانو الرعدِ،
وكؤوساً من برق
الخَدَمُ الغيوم، وثَم نجوم
مشويةٌ على فحمِ الأرواحِ .
ملائكةٌ من سولفان،
والشياطينُ يسكنون العيونَ

الغراب الأبيض

قُرْبَ قبركَ ابتهلتْ الحمامةُ
الموجةُ المدفونةُ
أخرجتْ رأَسَها
قُرْبَ قبركَ تفرّقت خلجانُ المرآة
الصورُ المتدفقةُ
رَاوَدَتِ المارةَ
الدروبُ التي حول المقبرة تعثّرتْ
بدورانِ الأرضِ .
الخيولُ انتحرتْ .
في الظل قطرةُ دمٍ، ويزحفُ الجبلُ
نحو حفلة الرمال هذه
الآبارُ التي تحلّقتْ حولَهُ انفضتْ
إلى غيوم
الأشجارُ التي هي رموش عيونِهِ تفتّحتْ عن طبول
قُرب قبركَ استَقرّتْ الغيمةُ
البئرُ يَشربُ الظلَ الوادي كف عن الفرارِ
الصحراءُ تهشمت إلى صحونٍ .
قُرْبَ قبركَ
القبرُ الذي احتفظ بحلمك
يظنّه البحرُ يسمعُ
الشجرةُ النائمة وتحتها قبُركَ
الموجة المنصرفة

الأثنين ,05/03/2012

***

الشعرية باعتبارها مسرح الخيال

عادل خزام

لم يتردد أحمد راشد ثاني لحظة في الانحياز إلى التجديد في الكتابة الشعرية بداية من قصائده في العامية التي حاول أن يخرجها من نسقها التقليدي المحض وإضفاء نوع من التحريضات الجمالية تغذي النص وتجعله يتخذ أبعاداً أكثر انفتاحاً وبالتالي أكثر قبولاً في اللعب على المضامين .

والمساسب ببنية القصيدة الشعبية شكل دخولاً في المحظور منذ خطوته الأولى، وهذا النهج تكرر أيضاً في تجربته مع النص المفتوح القائم على تفكيك الأطر التقليدية والأشكال الجاهزة، ومحاولة ابتداع نص “مختلف”، وظهر ذلك في نصوصه الأولى مثل “دم الشمعة” حيث نلاحظ مدى الإغواء الذي استهواه ليخوض في المعاني المغايرة اعتماداً على التجديد في الشكل، ومن هذه اللعبة شكّل أحمد راشد صوته الخاص في القول والتناول والمعالجة والانهمام، كذلك فإن أحمد راشد من القلائل الذين طعموا القصيدة النثرية بغنائية خاصة به، واحتل المكان ساحات شاسعة من نصوصه، خصوصاً تربيته الأولى بخورفكان التي اعتبرها مكانه الأول ثم تحولت إلى رمز بعد تكرارها في عشرات القصائد، أيضاً طغت الغنائية الذاتية على نصوصه اللاحقة التي صاحبتها حالة نضج بعد اتساع تجربته وتشظيها في اتجاهات كثر، حيث نلاحظ الأنا موزعة ومشتتة ما بين أماكن عدة في الطفولة حيث البحر والنخلة والجبل، وأيضاً في الشباب حيث المدينة الكبيرة بتعقيداتها تثير أسئلة الوجود، ولكنها لا تقدم جواباً واحداً .

أحب أن أكشف عن جرأة استثنائية تمتع بها أحمد راشد ربما لا يعرفها كثيرون، وذلك عندما ذهب لجمع الكثير من نصوصه التي صدرت من قبل وأعاد كتابتها من جديد وتنقيحها وتشذيبها وحذف المعتل منها لتكون أكثر تألقاً وجمالاً، ومن يقرأ الاصدار الأول لكتاب “دم الشمعة” سيلاحظ اختلافات كثيرة بينه وبين الإصدار الثاني وهكذا، وهي عملية لا يقدم عليها إلا من يجدد في حسه الشعري ويحرص على تجميل الأثر رغم بعد الخطوات .

هذا الخلط ما بين الغنائية الذاتية التي يصف فيها أحمد أحواله واسئلته وانتقالاته الوجودية هو ما منح قصائده طعماً متفرداً، بل إنه يجعلها ابنة المكان، ومن الصعب أن نقرأ أحمد راشد اليوم من دون أن يكون للأرض حضور، وللبحر بطولة، وللجبل سر، وللسماء طائر لكن بالتوازي مع هذا الطائر هناك حضور مربك لفكرة “القفص” حيث تتكرر هذه المفردة في أكثر من نص، وقد استخدمها أحمد عنواناً لإحدى مسرحياته “قفص مدغشقر” وكانت صفحته الأسبوعية في جريدة “الاتحاد” باسم “قفص الأمواج” .

هذا التشعب في الشعرية باعتبارها مسرح الخيال والأفكار امتد بمشروع تجربة أحمد راشد بكاملها في المسرح والبحث التراثي والكتابة التراثية، سنجد أن السمات نفسها تتكرر بأشكال كتابية مختلفة، ذلك أن الروح أصبحت تتجاوز حواجز الأشكال وتذهب مباشرة إلى اصطياد المضى والتعبير عنه بالكتابة ثم بالكتابة ولا شيء غيرها، سيظل أحمد راشد رمزاً لمن يخلص في حبه لهذه الأرض، وستظل شمعته موقدة في القلب .

الأثنين ,05/03/2012

***

رحل أحمد راشد ثاني

الهنوف محمد

رحل أحمد راشد ثاني والعقل لا يستوعب عدم وجوده ولا يستوعب غيابه، رحل والأوراق والكتب شهدت لحظة انسلاخ روحه من جسده، شهدت لحظاته الأخيرة مع الحياة . الأجواء بدت هادئة جداً في غيابه لكن الحزن هو ما يسيطر على الطقس الثقافي في الإمارات لقد، كان مبدعاً ومهيمناً وصديقاً شرساً ومتمرداً وأباً حنوناً .

بدأت علاقتي بأحمد راشد ثاني بطريقة مغايرة جداً . انتبه لتجربتي الشعرية منذ بداياتي وبدأ يتحدث عنها في كل اجتماع ومحفل في حين أننا لم نلتق إطلاقاً .

أحمد راشد ثاني مزيج من الإبداع والحب والدمار والحكاية والتدوين والتأريخ والبحث، لكن في الأصل هو الحكاية، هو من كان يروي ويروى عنه، هو من يكتب ويكتب عنه . لقد ترك لنا إرثاً ثقافياً لا يستهان به، أضاف للأدب والشعر والرواية والمقالة والبحث في الإمارات بل للوطن العربي بأكمله . لقد غيّر صياغة كتابة البحوث بلغته ورؤيته الشعرية والتأملية الخاصة به، وكان له صوت مميز وعميق، وكأنه يرى الكون بعينه المجردة الخاصة به .

يستحق أحمد راشد ثاني الكثير، يستحق كل التوصيات التي أقرها مركز سلطان بن زايد وبحضور حبيب الصايغ مدير عام المركز،لقد أثلجت التوصيات قلوب الحضور . وأعادت لأحمد راشد ثاني ما يستحقه، لكن الشاعر يكرم دائماً بعد وفاته وتبرز قيمته أو مقامه الأدبي بعد وفاته . يستحق أحمد أن يرشح لجائزة أدبية رفيعة وأن تسمى قاعة اتحاد الكتاب والأدباء في الشارقة باسمه وأن تجمع مخطوطاته التي لم تنشر وتجهز للنشر وأن يكون للمرحوم حضور ثقافي رغم غيابه المؤلم في معرض أبوظبي للكتاب في دورته المقبلة وإنشاء موقع خاص به على الإنترنت .لقد تهرب أحمد من التقنيات الحديثة لكنها ستلاحقه حتى بعد مماته .

“وهج” لقد بات الحمل ثقيلاً عليها، لقد حدثني أحمد عنها كثيراً من دون أن أراها، عايشتنا وعايشناها منذ طفولتها حتى في آخر لقاء لي مع أحمد قال لي إنها دخلت الجامعة وحدثني عن لغتها وعن أفكارها . لقد كان فخوراً جداً بها لأنها هي خلاصة تمرده وإبداعه وللأسف لم أتمكن أن اعرف عن الورود الباقية التي تركها لنا، أطفاله الذين لابد للزمن أن يبرز ما ورثوه منه، فالإبداع لابد أن يظهر في الجينات بشكل أو بآخر، فكثير من النجوم نكتشف إبداعات أبنائهم بعد حين ولا نعرف ما تركته جينات أحمد راشد ثاني لعياله كافة .

ومن أكثر المرات التي رأيت فيها أحمد راشد ثاني متفائلاً عندما اجتمع عبدالرحمن العويس وزير الثقافة مع الكتاب والأدباء في بداية توليه الوزارة وكان تعامل الوزير معنا في قمة الرقي والبساطة وكأنه صديق حميم، حدثنا بكل أريحية وحميمية، لقد سمع آراء الكتاب والأدباء . جلسنا أنا وأحمد بعد هذا الاجتماع التاريخي وأعرب عن تفاؤله بقدوم الوزير الجديد وتنبأ بتغييره الكثير من النقاط والعراقيل التي تبطئ من مسيرة الثقافة في دولتنا الحبيبة .

لقد تعلمنا الكثير من سيرة أحمد راشد ثاني، لقد علمنا أن الكتابة والقراءة هما جنة المبدع وأن الإبداع هو أن تستمر في الكتابة بلا هوادة حتى الرمق الأخير في الحياة . وأن الأوراق والكتب قد تشهد دفن المبدع وقد تتألم لموته وقد تواري ثراه بصمت المتألمين الصامدين على الأرفف وبعد الحياة فإن الخلود للإبداع والانحناءة ورفع القبعة للمبدعين الذين يدركون كيف يخلدون إبداعاتهم وإنسانيتهم وحضارتهم ليس على صعيد أوطانهم فحسب، بل على صعيد الأدب العالمي والإنساني والحضاري .

أرفع ألف قبعة لأحمد راشد ثاني، هذا الغائب الحاضر الذي ترك لنا الإبداع بكل ما أوتي من قوة ورحل تاركاً فراغاً عميقاً لا يستهان به . وداعاً أحمد راشد ثاني نودعك وتودعك الأوراق والكتب والأرفف، وحتى بحر خورفكان، وكل الأصدقاء والبسطاء في الأرض .

الأثنين ,05/03/2012

***

هكذا الدنيا . . ميلاد ورحيل

إبراهيم سعيد الظاهري

غفر الله لك يا أحمد وأسكنك فسيح جناته، لقد عشت حياة بسيطة من دون تعقيد ولا مبالغة، وأنت وقد وهبك الله نعمة تطويع الكلمة والحرف وفن استخدامهما بالشكل والطريقة اللذين يجعلانهما جميلين وقريبين من قلوب وآذان الناس، لن أكون مبالغاً إذا قلت إنني حين أستمع اليك أتمنى مواصلتك الحديث لما فيه من حسن وجمال ومن دون الشعور بملل .

تفردت بالبساطة والصراحة، وبقول الكلمة الصادقة شعراً ونثراً . . تحليلاً ونقداً، تعمقت وغصت تبحث في الموروث الشعبي الشفاهي منه والمكتوب، وهو ما كان يحتاج الى فرق ومؤسسات، ولكنك حاولت وحاولت، لعلك تجد ما يمليه عليك ضميرك، وتخدم فيه وطنك في وقت تصفق فيه أيدي بعض الناس للهو الحديث، وربما استنكرت عليك محاولاتك تلك بعلم أو بجهل، لأننا في زمن تنفق فيه الملايين من الدراهم على أعمال البهرجة بل والفهلوة، في الوقت الذي تنشغل فيه انت ومجموعة محدودة من زملائك بالبحث عن موروثنا الشعبي، وتسليط الضوء عليه لما له من أهمية في ربط ماضينا بحاضرنا ومستقبلنا، فجزاك الله كل خير عن كل ما كتبته وحررته .

رحمك الله يا أحمد امتلكت فن الخطابة، بل فنون الخطابة والكتابة والشياكة اللفظية، وقبل ذلك قلت الشعر والنثر وتنوعت مواهبك لتشمل المسرح والتراث وكنت إعلامياً بارزاً انخرطت في مجال الكتابة الصحافية، وقدمت للمكتبة الإماراتية والعربية العديد من الكتب والأبحاث التي يعد بعضها مرجعاً مهماً في مجالاتها المختلفة .

كنت قريباً من متلقيك بحضورك الإعلامي المقروء والمسموع، وبخصوصيتك في ما تكتبه صحافياً على نحو متميز، لقد سلكت طريقاً خاصاً إلى روح قارئك أومستمعك، وستبقى أعمالك كشاعر وكاتب وباحث وأديب أعمالاً ابداعية مميزة

رغم ما تمتلكه من تعدد المواهب والابداعات لم تكن يوماً مغروراً ولا انتهازياً كحال عدد كبير ممن يعدون من المثقفين وممن امتهنوا حرفة حمل المباخر وتجميل كل قبيح، فدانت لهم الدنيا، وتصدروا المشهد وسكنوا الفيلات، في وقت لم تحصل فيه أنت على مسكن شعبي، ولا أقول “فيلا” سكنية، تستطيع أن تضع فيها كنوز ما جمعته من التراث الشفاهي وأبحاثك المتنوعة الأخرى، فالتهمتها النيران عندما احترقت شقتك .

لقد كنت مبدعاً بمعنى الكلمة وجريئاً إلى أبعد حد في زمن اختفت فيه الجرأة، وانعدمت فيه المروءة وأصبح فيه التسكع على الأبواب للحصول على أبسط الحقوق فضيلة، بل وثقافة يروج لها من قبل بعض الكتّاب والمثقفين، فسبحان الله صاحب الملك والسلطان الذي نسأله أن يشملك بكريم عفوه وأن ينزلك منزلاً كريماً، فهو صاحب العطايا الحق، كيف لا وهو القائل سبحانه “ورحمتي وسعت كل شيء”، فيارحمن ياكريم ارحم صديقنا وعزيزنا أحمد راشد ثاني الذي انتقل إلى جوارك، وأسكنه فسيح جناتك آمين آمين .

الأثنين ,05/03/2012

***

مازلت تنقص أضلعي

أحمد العسم

لم أكن أتصور أن فقد الأصدقاء يفتت روحي وينقص من أضلعي . . لقد فقدت الكثير من أضلاعي، وها هي روحي تتوشح بأردية الحزن وتتألم . لِم أسرعت الرحيل يا أحمد فقد كنت أؤمل أن أجلس معك، لكنك ترجلت من دون أن تخبر أحداً، ولذلك تقصدنا الحزن ولم يغادرنا .
رأيت المسافة في الخسارات أطول
ورأيتك أكثر
لأنك امتداد للوفاء والحرف
وحدها تحكي الحروف، وتغني الأصوات
فليلك هارب من حنجرتي، وصباحك يسكن قلبي
وحيداً أرتفع على شجرة واعدة وبهائي مطفأ
أنوارك تمضي إلى سبيل وليد وهكذا
هكذا يا أحمد أمضي أقرؤك وأتهجأ حروفك
ضاق بي الألم، وغفا الليل وتضاءلت المسافات
ضعف في الجدال النص، وهبطت الحكايات متفردة
لم يعد أحد إلى حلمه، ولم يعد أحد ينبئني
أيتها المرأة بطنك وشاية والأسئلة تترى
قبل الحديث وقبل الكلام وقبل الدخول والخروج أجدني أناديك
ترتاح الأزمنة على صدري وتصفها منافذ الليل
ففي قلبك المؤجل حسرات منزوية تلوث الشقاء
وفي حياتك الواسعة فلوات حب تلاطف خلوتك
وفي الأسفل من قفصك الصدري أنفاس تتجمع
هنا وهناك أرواحنا المتناثرة تبحث لها عن كوكب
كي نغادر منها بسلام أو نروي مكاناً نجمع فيه فضتها
أرواحنا تمشي إلى البعيد، ونحن نلوح للقريب والبعيد .

الأثنين ,05/03/2012

***

أحب السفر إلى أماكن لا أعرف فيها أحدا

أجرت الحوار: سميرة عوض
(الأردن)

احمد راشد ثانييعد الشاعر والباحث الإماراتي احمد راشد ثاني الذي غيبه الموت ظهر الإثنين الموافق 20 شباط/فبراير ،2012، أحد أهم رموز الكتابة الشعرية في الإمارات والخليج العربي.
ولد في مدينة خورفكان عام 1962 بإمارة الشارقة. بدأ صوته الشعري يزهو على الساحة الإماراتية وهو لم يتجاوز العشرين من عمره بعد، كتب قصيدة التفعيلة ثم انتقل لقصيدة النثر، كما كتب الشعر الشعبي والنصوص المسرحية ثم تفرغ للبحث الميداني والمسح الشعبي الثقافي.
صدر له: سبع قصائد عام 1981، هذا كل ما لدي عام 1988، حيث الكل عام 1995، القصص الشعبية، حصاة الصبر 15 حكاية من الإمارات عام 2002، إلعب.. وقول الستر عام 2002، يأتي الليل وياخذني عام 2007، كما صدر له 'عن ابن ظاهر' الذي فاز بجائزة العويس، وكان من خلال انضمامه إلى مسرح خورفكان الشعبي في عام 1979 كتب 'الأرض بتتكلم الاردو' والتي شاركت في مهرجانات عدة، وكذلك كتب مسرحية 'العب وقول الستر'، ومسرحية 'قفص مدغشقر' كلاهما في عام 1987 ليغلق بعدها باب المسرح بكتابته مسرحية 'راشد الخضر' وهي مسك ختام نصوصه المسرحية رحمه الله، كتب الشعر والرواية والقصة القصيرة، ونشرت أعماله في الصحف والمجلات المحلية والعربية وترجمت كذلك إلى اللغات الفرنسية والألمانية.

تاليا حوار حول أجري مع الشاعر عبر 'البريد الالكتروني':

مكانك على الورق

*شهدت مدينة خورفكان أول صرخاتك.. ماذا عنها وعن طفولتك فيها؟

- في السنين الاخيرة نشرت مقالات في الصحف تتعلق بطفولتي في خورفكان، كما كتبت قصائد بنيت علاقتها بالمكان كما في مجموعة 'يأتي الليل ويأخذني' (والصادرة عن دار النهضة العربية في بيروت). مكانك على الورق، مكانك المتخيل، يختلف عن المكان الواقعي، ثمة انزياح ضروري هنا يقتضيه الحلم أولاً، ثم أن العلاقة بالمكان، مكانك الأول، خاضع لكثير من التحولات، انك كل مرة تقيم علاقة مع مكانك الأول مختلفة. هذا التحول مدهش، لكن رغم ذلك تلفت ذاكرتي دائما جملة كأنها لابن خلدون تقول بأن التاريخ جغرافيا متحركة، والجغرافيا تاريخ ساكن. المكان، مكاني ساكنا ومتحركاً يشغل روحي دائماً. وكما قال لي احد الأصدقاء منذ وقت قريب، فأنا محلي بشكل ما.

في طفولتي عدة آبار

*بئر طفولتك الأولى كيف وظفته في إبداعك؟

- لا أعرف كيف أرد على سؤالك الملتبس هذا. لكنني كثيراً ما أفكر بتلك الآبار المفتوحة في البحر، أو تلك الطويلة على قمم الجبال، أو تلك التائهة في الصحراء. حقاً أنا من أسرة بحرية ومزارعة، ولكن بدويتها لا تحتاج إلى شرح. إن البداوة في البدء هي البحث عن بئر. هل فهمت سؤالك حقا؟ لا أظن. بل في طفولتي عدة آبار. أو بإمكاننا أن نفكر بأن تحت خطوة كل طفل، في طفولتي، (او ربما في طفولة الجميع) بئرا.

علاقة شائكة ومعقدة

تتقصد اعتماد المكان في عناوين اعمالك كما 'في الأرض تتكلم'، و'قفص مدغشقر'، هل يعكس هذا حميمية علاقتك بالمكان؟
لا أعتقد بأن علاقتي بالمكان حميمة، أعتقد أنها شائكة ومعقدة.

إبن لمصادفة بحرية

*كيف هو البحر كمكان بالنسبة لك، وأنت ابنه؟

- البحر!!! ماذا بإمكاني أن أقول لك عن البحر... باختصار.... جاء أبي البحار من دبي وتزوج أمي الفلاحة... وجدي جاء من البحر. أنا فضيحة تلتبس بتلك الفضيحة التي عالجها جورج شحادة في مهاجر برسبان (الفضيحة هنا بالمعنى الوجودي كما أرجو أن يفهم القارئ).
من جانب آخر، وأنا كإبن لمصادفة بحرية كهذه، لا أدري هل كنت حقاً مخنوقاً برحابة بين تلك الجبال التي تحيط بساحل خورفكان المدهش، كما لو أنها سرطعون بحري عملاق يمسك برقبة الساحل الفاتنة. لكن الأهم من كل هذا أنني قضيت طفولتي، أغلب طفولتي، وأنا منكب على ذلك الساحل، أقيم من طين أمواجه تماثيل أحلامي. والآن، حتى الآن، وأنا أكتب هذه السطور أسمع رقصات الأمواج في قفص جسدي الصدري.

لا أعذب من قطرة سراب

*وكيف هي الصحراء وأنت ابنها أيضا؟

- الأسئلة العمومية مثل هذا السؤال، والذي قبله، عادة ما يحتار المرء في الرد عليها، لكن.. وأنا انوي الرد خطر في بالي الضب هذا الحيوان الصحراوي الأسطوري. تعرفين أن الناس في الجزيرة العربية والخليج- وأغلبهم بدو سابقون- عاشوا مجاعة كبرى وطواعين قبل الهطول العجيب للنفط. وهم مرتحلون طبعاً وثقافة، (لأنه قليل من يفهم بأن الطبع ليس إلا الثقافة المستقرة والكامنة)، وكان لهم الضب من أندر وألذ اللحوم التي يجدونها خلال المجاعة. فكيف كان يصيد البدو الضب؟. بالماء، بسكب الماء في جحره، الضب الحيوان الصحراوي الصريح يكره الماء. لا يطيق الماء، وأظنه وهو يحفر جحره في التلال المستعرة والمكفهرة للربع الخالي، وبأبواب ذلك الجحر المتعددة ،أظنه يفكر، عكس ما يبدو على الصحراء، يفكر بأن الماء يحاصره من كل جهة.
تفكير هذه الجنية يشد انتباهي. فعلاً كل حبة رمل مستعرة في الصحراء تنطوي على قطرة ماء. خذي السراب على سبيل المثال، الآن كثير من السيارات في مدننا الحديثة، كثير من الأبراج العملاقة تغرق في مجرد سراب. بل أكثر من هذا، ألم تتساءلي يوماً من يروي العطش أكثر: قطرة الماء أم قطرة من السراب؟ قد يهتف القطيع الماء، لكننا حقاً، وكبشر، نجد، في اللحظات المحلومة والحية لا أحلى ولا أعذب من قطرة سراب.

تفتح الحياة عيونها عليّ...

* عندما تسمع بعبارة أماكن لها في القلب أماكن ما هو المكان الذي يخطر ببالك؟

- يخطر بيتي، البيت الذي اسكن فيه، البيت الذي أغلق بابه عليّ وأمشي عارياً في رأسي. في الخارج، لطالما شعرت بأنني مهدد، عندما أجلس في البيت تجلس معي نفسي. كثيراً ما كنت في الخارج. لقد تعبت من الخارج.
أضع كأسي في البيت، على الطاولة، فتفتح الحياة عيونها عليّ.

بين قمربانت وأديس أبابا

*هل من ارتباط بين الأماكن والأشخاص..في الذاكرة؟

- هذا السؤال شائك أيضا، سأهرب عنه ومنه، وأوري لك هذه الحكاية: في سنة ما من الثمانينات كنت أعمل صحفياً في جريدة 'الخليج' بالشارقة، وحدث أن قررت مع صديق سوداني الذهاب إلى الخرطوم عبر الخطوط الجوية الاثيوبية، وقتها كانت الخرطوم مليئة بعاصفة من الأتربة و ديمقراطية على الطريقة الافريقية. اسكنني ذلك الصديق في بيت أهله الكبير. في الليل يحتشد على الأسرة كثير من الأشخاص ومن مختلف الأحزاب: يحضرون الى تلك الاسرّة، ويتحدثون ويختفون كما يحضرون بينما قمر بانت، وهو حي معروف في أم درمان، واقف على رأس الجميع، وعلى رأس الديمقراطية كذلك.
لاحقاً احترق صديقي، الذي أسكنني في بيت أهله في بانت مع شقته في دبي. أما أنا وبعدما ملأت عواصف الخرطوم عيني بالرمال قررت العروج على أديس أبابا قبل تسليم روحي للعمل في الشارقة، وتعرفت هناك على بحار يمني يمضغ القات، وكاد أن يجبرني على تدوين سيرته البحرية المملة. وتعرفت على انثى كنا نلتقي في النهار ومرة كنا في بيت شعبي فرأيت طفلا ممتلئا وقصيراً يشبه بوذا (كنت توي قد قرأت رواية سدهارتا لهرمان هيسه). من هنا، وإذا ما فهمت سؤالك حقاً فإنني كلما تذكرت الخرطوم وأديس أبابا، كلما سمعت باسمها، أتذكر صديقي المحترق، والبحار اليمني وصديقة المسبح، وبوذا وهرمان هيسه، والعكس.

شممتها بعمق..حتى جعت

*هنالك أماكن تمر بها، فتشم بها رائحة ماضيك.. كيف تربطك الروائح بالأمكنة ؟

- سأقول لك مثلا: فلقد كنت قبل شهور في العاصمة الجزائر، وكنت أمشي في شارع رئيسي قرب البحر، أظنه شارع ابن مهيدي، قرب ميدان الأستاذ عبدالقادر الجزائري. أتذكر بأنني كنت أمشي في الصباح، وكانت تفوح من محلات عدة رائحة الخبز والكعك الطازج. ولقد شممت هذه الرائحة بعمق، أتذكر أنني شممتها بعمق، حتى جعت.

أهيم بمدينة أسمها بابل

*بعض الأماكن نسمع بها أو نقرأ عنها فنهيم بها، هل حدث هذا معك؟

- بابل. انا أهيم بمدينة متخيلة وغير متخيلة في نفس الآن أسمها بابل.
أهيم باسمها، وأهيم باللامتخيل منها، قصدي بالأثري والتاريخي، وأهيم بالمتخيل، فمن على برجها الذي أوصل الشياطين إلى مرتبة في الهواء بإمكانهم فيها الإطلاع على أسرار الآلهة، تفرقت اللغات، وصار لا يمكنني الحديث مع شقيقي الروسي مثلا، كما أهيم بآبارها التي دفن فيها السحرة، والخيميائون، سطورهم الأولى.

*متى أعود إلى البيت؟

* ثمة أماكن تنادينا، فما هي الأماكن التي تعتبرها الأكثر قربا ولماذا؟

- المكان الأكثر قربا هو البيت. سؤالي الدائم: متى أعود إلى البيت؟...

رحم أمهاتنا جنة كل شخص

* ثمة أماكن نهواها بالفطرة ما هو مكانك الفطري؟

- الفطرة: هذه المفردة لا أفهمها على الإطلاق بالفطرة الطبيعة؟ لا أدري. لكن إذا ما كان يقصد بالفطري الطبيعي فإن المكان الذي نهوى العودة إليه دائما، و بالفطرة، هو رحم أمهاتنا، جنة كل شخص، حيث أول كأس نشربها وكانت من الدم، وحيث أكلنا عبر الشرايين، خاصة، ومما يلهب هوانا إلى العودة إلى ذلك المكان، هو أن بابه قد أوصد دوننا أو بعدنا، وكليا... هل هذا هو الفطري ؟ ما رأيك؟ لا أدري.

وسط مدينة عمان

* ما المكان الذي تحبه في هذا العالم وله في قلبك مساحة أكبر؟.

- وسط مدينة عمان.

*سبق وأن زرت الأردن فما المكان الذي أحببته فيها، ترك أثرا في قلبك/ روحك/ إبداعك؟ ولماذا؟

- أماكن ذهبت إليها عدة مرات مع أصدقاء تقع في طوابق علوية وأمامها ما يشبه المشربيات، وتطل على وسط مدينة عمان، ومطعم نذهب إليه، كنا في أواخر الليل، ويقع أيضا في سوق المدينة القديم، حيث تأكل مع الفجر ما لذ وطاب من المأكولات الشعبية... وحالات كثيرة.

أحب السفر وأخاف منه

* المكان الذي تحلم بزيارته ولم تزره بعد؟

- دائما كنت أحب السفر وأخاف من السفر. لا أخاف من السفر عموما، وإنما من ركوب الطائرة. لديَّ فوبيا قوية من ركوب الطائرات فداخلي الآن ليس بإمكانه أن يستوعب إمكانية أن يطير كائن من حديد ويمشي في السماء ،هذا الرعب يحدث لي في كل مرة استقل فيها طائرة، بالرغم من أنني وفي حياتي القصيرة هذه طرت عشرات المرات، لهذا فأنا أحاول دائما الاستعداد الجيد لمقاومة هذا الفوبيا أن حان وقت السفر... ولكنه نظرا لكل هذا صرت أتردد كثيرا في السفر إلى أي مكان، كما كان أمري في السابق، الآن صرت أميل للسفر إلى أماكن لم اذهب إليها من قبل، لا أعرف فيها أحدا ولا يعرفني احد، أماكن غريبة عني كليا، خصوصا في الشرق الأقصى بآسيا، أو أمريكا اللاتينية (كم أود الذهاب إلى البرازيل مثلا)، أو إفريقيا، سواحل إفريقيا من جهة زنجبار وما حولها، على الأقل.

القدس العربي
2012-03-02

* * *

صوت شعري متميز وكاتب صاحب رؤية مختلفة

مثقفون يؤبنون أحمد راشد ثاني في اتحاد الكتاب

مثقفون يؤبنون أحمد راشد ثاني في اتحاد الكتابالشارقة - إبراهيم اليوسف:

احتضنت قاعة "أحمد راشد ثاني" في اتحاد كتاب وأدباء الإمارات في الشارقة التي أطلق عليها الاتحاد هذا الاسم، تخليداً لذكرى الشاعر الذي رحل مؤخراً، مساء أمس الأول، حفلاً تأبينياً بمناسبة رحيله حضره عدد لافت من الكتاب والشعراء والمسرحيين والإعلاميين بالإضافة إلى أسرة الشاعر الراحل .

في بداية الحفل تم عرض فيلم قصير عن محطات مختلفة في حياة الشاعرالراحل، ورحب خالد البدور مقدم الحفل بالحضور، وتحدث عن ذكرياته مع الشاعر الكبير عندما تعرف إليه في العام ،1980 في أمسية شعرية، واصفاً إياه برفيق الكتابة، وأن طموحه كان غير عادي، وكان متعدد المواهب، إلى أن استقر على كتابة الشعر والبحث والمقال .

وقرأ الشاعر إبراهيم محمد إبراهيم نصاً نثرياً وجدانياً، ومما جاء فيه: قبيلة الشعر في الإمارات نقصت شاعراً، وسيمفونية "البحار الحزين" فقدت عازفاً مهماً، لذا، فالقبيلة ترفع لواءها الأسود، وتحفر مرثيتها على صخرة البوح، أما السمفونية، فبفقدها أحمد راشد ثاني هي عرجاء، وتكاد ألا تطرب، هكذا يبدو المشهد الشعري والثقافي اليوم في الإمارات، وهكذا نبدو نحن أبناء قبيلة الشعر، كما سمانا الشاعرالصديق سالم بو جمهور "في الإمارات مكسوري الخاطر والوزن" كما جاء عنوان إحدى مجموعات صديقنا الشاعر حبيب الصايغ . وأضاف: وكيف له أن يموت من نثر قصائده في صحراء الناس، وتركها لعناية الغيم والعشق والثورة، كيف له أن يموت من ترك هالته تتلو تراتيل قلبه على كل كرسي جلس عليه يوماً، في مقهى من مقاهي العالم، كيف له أن يموت من ترك خلفه كتاباً أو قصيدة أو فكرة تحيي بعده ما شاء الله أن تحيي من الحس والفكر والإنسانية أو تذكر بها؟

وألقى الزميل مرعي الحليان كلمة تطرق فيها إلى ثلاث محطات في حياة الشاعر إحداها شخصي، والثانية إماراتي يتعلق بحمل وجع الأرض كما قال، والثالثة تتعلق بمنجزه الشخصي، وبين أن المسرحيين يكنون لثاني الاحترام، إذ إنه أسس معهم انطلاقة المسرح، لاسيما في "خورفكان"، حيث له بصماته على مسرح هذا المكان، وتحدث عن مسرحيته "قفص مدغشقر" واصفاً إياها باستثنائية التكنيك .

وقرأ جمال مطر مقاطع من قصائد الشاعر، بصوته، وبطريقة مائزة، شدت الحضور إليها، والقى د . صالح هويدي كلمة شفاهية، بين خلالها أن الحديث عن "أحمد" هو الحديث عن المبدع الحقيقي، والمثقف الحقيقي، مركزاً على مصطلح المثقف الذي يجب ألا يطلق جزافاً، إلا على من هم في مستوى قامة أحمد، ورأى أنه لم يكن مبدعاً يكتب، فحسب، بل مبدعاً يعي رسالته، مدركاً لحدودها، لأنه مثقف عرف الشرط التاريخي الذي يحيط به، ومن هنا فقد كان يذهب إلى كل فن ويعده قضيته الأولى، ورأى أن شعره سيظل صوتاً متفرداً له رائحة خاصة، وأضاف: لاشك في أن أحمد كان ممن أسسوا للحداثة الشعرية مع قلائل من أمثاله، وأخذ على عاتقه قضية الحداثة، وقصيدة النثر، ليفرح بانتصاراتها .

وتحدث عمرأبو سالم كيف التقاه قبل ثلاثين عاماً، في أمسية شعرية في خورفكان، شاركت معهما فيها حمدة خميس، وراح يصف المكان، والبحارة، وجمهورالأمسية المتميزة .

وقرأت حمدة خميس قصيدة بعنوان "ألق الحضور وفداحة الغياب" ومما جاء فيها:

مررت بك
أو مررت بنا
شهاباً عابراً
وأضأتنا
كنا التقينا
عند مفترق الصعب
وعند منعطف النهر
توق أرواحنا
لم تكن نسمة
رقة
زهرة
طائراً
أو مطر
كنت العناصر
في أوج فتنتها . .

وتحدث سالم بوجمهور قائلاً: لا أحب الكتابة في هذه المناسبات، إلا أنني الآن فرح، إلى جانب حزني الشديد، ومن دواعي الفرح أن الشاعر ثاني من هؤلاء الذين ظلوا محافظين على الإمساك بالجمر، إلى آخر لحظة في حيواتهم .

وقال د . إبراهيم الوحش في شهادة له إنه التقاه أكثر من مرة، وكان صوت الموال والحكاية يظهران في قصيدته، لقد عرفته عن قرب مع من عايشتهم وعايشوه من أمثال الهنوف محمد وعادل خزام ويوسف أبو لوز وآخرين .

وقدم زكريا أحمد شهادة لافتة، حول إبداعات وكتابات ثاني، من خلال مقاله الأخير الذي نشره قبل رحيله، الذي تناول فيه "صورة شخصية" لسارتر، إلى جانب تناوله لسنمار وقصائد ريتسوس، وغيرذلك مما يبدو على أنه خليط من التناقضات، برع ثاني عادة في تقديم رؤيته من خلالها .

الخليج
1/03/2012

* * *

* * *

أحمد محمد عبيد يطلق جائزة باسم أحمد راشد ثاني

أحمد محمد عبيد أطلق الباحث والشاعر الإماراتي أحمد محمد عبيد جائزة تحمل اسم أحمد راشد ثاني للتاريخ الشفاهي وتبلغ قيمتها سبعة آلاف درهم، مع شهادة تقديرية، وقال عبيد: “ايماناً مني بأهمية ما قدمه الشاعر والباحث الراحل أحمد راشد ثاني للحركة الثقافية بدولة الإمارات شاعراً وباحثاً، ووفاء لذكراه الطيبة في قلوب محبيه، أعلن إطلاق جائزة سنوية باسمه تمنح لأفضل كتاب عن دولة الإمارات في حقل التاريخ الشفاهي، الذي يسمى أيضاً التراث الشعبي، المادي والمعنوي، ويشمل حقول الأدب الشعبي من أشعار وأمثال وألغاز وحقول العادات والتقاليد والمهن والأحداث والشخصيات وغيرها” .

ووضع عبيد شروطاً للجائزة بكونها مفتوحة للباحثين المهتمين بتراث دولة الإمارات سواء أكانوا مواطنين أم مقيمين داخل الدولة أو خارجها، ويتقدم الباحث بكتاب واحد فقط ولا يقبل أكثر من كتاب للباحث الواحد في المسابقة سواء أكان تأليف الكتاب مفرداً أم بالاشتراك، كما يتقدم الباحث بثلاث نسخ من الكتاب المراد تقديمه، ولا تعاد الأعمال المقدمة للباحثين .

ترسل الأعمال بالبريد المسجل إلى العنوان التالي:

الشارقة ص . ب: 12140 .

وأوضح عبيد أن الأعمال المقدمة للجائزة تحال إلى محكمين مختصين في حقل التاريخ الشفاهي، ويبدأ التقديم من تاريخ إعلان الجائزة لغاية 1 نوفمبر/ تشرين الثاني من كل عام، وتُعلَن النتائج في أول شهر إبريل/نيسان من العام التالي .

28/02/2012

* * *

عاشق خورفكان.. وحامل شعلة الحداثة في الإمارات
الشاعر الإماراتي أحمد راشد ثاني الذي رحل أخيرا

دبي: شاكر نوري

ودّع خورفكان، وهو يستمع إلى هدير البحر، الذي ضبط على إيقاعات موجاته، في هيجانها وسكونها، كتابة قصائده الواحدة تلو الأخرى. وحين ودعها، لم يجد مأوى لها سوى جبالها، فكانت بعض أحلامه أن يُدفن على أحد قممها، وبالأحرى على رأس شجرة نابتة في الأعالي.. خورفكان هي الرحم الذي ولد منه الشاعر الإماراتي الراحل، أحمد راشد ثاني، قبل أيام، عن عمر يناهز الخمسين، وهو في قمة عطائه.

بقلب منهك، تنخفض نبضاته تارة، وترتفع تارة أخرى، كان يمسك بيد قلمه، وبيد أخرى يقيس نبضات قلبه حتى اعتاد اضطراباته وتقلباته، وتصالح معه، فوجد مرضه تتحول بين يديه إلى مادة أدبية في أحد نصوصه: «انتفاخ في القدم، ضيق في التنفس، انقباض في عضلة الكتف، كل هذه الأعراض أو بعضها، إضافة إلى أعراض أخرى، أو من دون إضافة، تجعلني أقرر في لحظة من الليل أو النهار الذهاب إلى المستشفى، أقصد قسم الطوارئ، وأقول أول ما أدخل لمن يسألني، كما لو أنه تعريف بجنسي: أنا مريض بالقلب، وإذا ما سئلت عن الأعراض، فسأذكر عرضين أو ثلاثة فتركض نحوي الممرضة بالكرسي المتحرك، وما إن تضع حول يدي ورقة بالاسم والرقم الصحي حتى تهرول بي نحو السرير، حيث ستعشعش على ظهر يدي إبرة المغذي المفتوحة، ويمتلئ صدري ببقع رصد نبضات القلب الزرقاء، ويقتحم أنفي أنبوبا الأكسجين كإطفائيين يكافحان حريقا».
انطفأ الحريق وانقطع الأكسجين ومات الشاعر.
كان الراحل متمردا على القوالب الأدبية الجاهزة وعلى السلوك الممتثل، لأنه لم يكن يرى وجوده في انفصالهما. فقد تعلق بالأرض وحكاياتها الشفاهية أكثر من تعلقه بما هو مكتوب ومؤسس. خاض كتابة الشعر، يتنقل بين الفصحى والعامية، بين الشعر والسرد، لا يجد في العامية سوى ألق الماضي والتعبير العفوي الفلسفي الذي صاغه الأجداد.
لم يختزل الحياة إلى صنف أدبي دون آخر، فكان يكتب حكايات، وقصائد، ومسرحيات، ومرويات، ونصوصا سردية وتراثية، ويوميات وسيرة ذاتية، تعانق بعضها لتكوّن هذا الشريان المتدفق؛ مزيج من الشعر والنثر، قلّ نظيره في الأدب الإماراتي.

ومثل الشعراء الكبار، تناثرت سيرته الذاتية، في كتبه «على الباب موجة» و«ورقة السرير»، وكتب أخرى، جال فيها وتسكع بين البحر والجبل، وفوق قمم جبال خورفكان وثنايا سهولها حيث انصهرت روحه الشعرية. ففي الوقت الذي يصطاد فيه الصيادون الأسماك، كان الراحل يرمي بشباكه ليصطاد الموجة إثر الأخرى، ويراقصها على شواطئ مدينته وأحيائها؛ المعترض والمديفي وباب الجبل وباب البحر. وأحيانا يقدم تلك الموجات كهدايا إلى العابرين. اصطياد الموجة هو كتابة القصيدة، عندما يرهف سمعه إلى أساطير البحر وأسراره التي تلهب ذهن ذلك الطفل الصغير، وهو يلهو على شواطئها في وقت مبكر، فولدت بين يديه مجموعة «على الباب موجة»، حكايات زاخرة ظل ينهل منها طوال حياته. وما إن خرج من معطف سيرة عنترة وديوان عبد الرحيم البرعي، وفتوح الشام للوافدي، والأسفار التراثية التي أهداها له والده الذي كان يعمل في البحر، حتى شب عن الطوق، ليكتب قصيدته. فكتب ثماني مجموعات شعرية على مدى ربع قرن، تعانق تفاصيل تجربته الشخصية، بفرحها وحزنها، وتختزل حياة بكاملها، إلى أن تطورت أدواته في ديوانه الأخير «الفراشة ماء مجفف»، وهي قصيدة واحدة بـ61 جملة شعرية مرقمة، تفصل بينها مساحات واسعة من البياض، تكمل سطوره.. لعبة شعرية أجادها الشاعر الراحل، ليس بوصفها تجديدا في الكتابة بقدر ما هي ترجمة لسيرة حياة، قابلة لكل التأويلات. وفي كل ذلك، مهما ارتحل، فهو لم يرحل عن خورفكان أبدا، لا جسدا ولا روحا ولا تفكيرا ولا إبداعا، بل ظل مسكونا بها بوصفها جغرافيا روحية صاغت مخيلته وإبداعه.
لم يكن يكتب الشعر بمعزل عن الحياة الثقافية، يداعب مخيلته مشروع متكامل، بوجوه متنوعة. ومنذ سنوات التسعينات، وضع لبناته الأولى، انطلاقا من التراث، ومعانقة الحداثة الشعرية. وكان لقاؤه مع الشاعر محمد الماغوط الذي أقام في الشارقة لسنوات، أثر في توجهه الشعري، فقام بربط كتابة القصيدة بالبحث الميداني، ناهلا من النص المفتوح، بكل تداعياته وتأويلاته من أجل تأسيس رؤيته الخاصة للكون والوجود.

تميّز في أيامه الأخيرة بغزارة الإنتاج، بحثا وشعرا ودراسة، ينشرها في الصحف والمجلات والكتب، ويبرع في تدوين جزء من تراث الإمارات الشفاهي، مؤمنا أن «الجزيرة العربية تعوم على بحر من التراث الشفاهي»، من حكايات شعبية وخزين مدفون في نفوس كبار السن، لا بد من تدوينها قبل فوات الأوان، وكل ذلك بجهود شخصية بعيدا عن المؤسسات. عمل على توثيق كل ذلك في كتب، فالكلمة باقية، والكلام في مهب الريح، كما يؤمن.
وقام برصد الأدب الشفاهي المحلي، روح الإمارات وجوهرته المختبئة الذي كان يخشى عليه من الضياع، لذلك انكب على تدوين تفاصيله في كتب ومجلدات. فأصبح الكتاب أحد ملامح حياته اليومية، كقارئ وكاتب ومكتشف لنفائسه عبر عمله في عدد من المكتبات الإماراتية. أسس مع رفاق له مكتبة خورفكان، ثم مكتبة كلباء، وعمل في مكتبة الشارقة المركزية، ثم المجمع الثقافي، لتستقر به الرحلة الأخيرة في دار الكتب الوطنية بأبوظبي.
كان الراحل متعدد المواهب، وإن كان الشعر شاغله الأول والأخير، فقد ترك بصمته الخاصة على المسرح الإماراتي، من خلال كتابة نصوصه، باعتراف زملائه المسرحيين: أحمد الجسمي وإبراهيم سالم ومحمد العامري وغيرهم. فأطلقوا عليه لقب «عاشق البحر والعشق والنخيل» في نعيهم لأنه أحدث انقلابا في الكتابة المسرحية وهو لا يزال في ريعان الشباب، حينما كتب مسرحية «جزر الواق واق» وهو في الصف الثالث الإعدادي.. ثم أتبعها بالكثير من المسرحيات، وأسس ورفاقه فرقة المسرح الحرّ، التابعة لجامعة الإمارات، وكذلك من خلال انضمامه لمسرح خورفكان الشعبي في عام 1979، فكتب «الأرض بتتكلم الأردو» - أي رافد من روافد اللغة الهندية التي يستخدمها الهنود في الإمارات وتكاد تطغي على اللغة العربية أحيانا - التي شاركت في مهرجانات عدة وأثارت ضجة في حينها لجرأتها وملامستها لمشكلة جوهرية في المجتمع الإماراتي. وكتب مسرحية «العب وقول الستر» ومسرحية «قفص مدغشقر» كليهما في عام 1987، ليغلق بعدها باب المسرح بكتابته مسرحية «راشد الخضر» وهي مسك ختام نصوصه المسرحية.
في نهاية المطاف، لم يكن الشاعر الراحل أحمد راشد ثاني راضيا لا عن تجربته ولا عن تجارب الآخرين، فكان يسعى للارتقاء بالإبداع الأدبي إلى أقصى مداه من خلال ربط المنجز الأدبي بتعقيدات الواقع اليومي والحياتي والثقافي، وفي حالة القصور عن ذلك، كان يرى إشارات التراجع والارتداد الثقافي في الإمارات. هكذا كان يرى الحداثة الشعرية عبر رؤية المتناقضات، وربط الخاص والعام، إذ تتجلى حداثة الشاعر الراحل في استخدام اللغة المغايرة، والانتقال بالفعل الإنساني إلى جوهر الشعر، والتعبير عن التحولات السياسية والاجتماعية، عبر شكل القصيدة ومضمونها.
لقد تخلص من الأنماط القديمة، حتى لو نزع نحو التراث والشعر القديم. وفي هذا، يعترف عدد كبير من النقاد والكتّاب والمثقفين الإماراتيين أمثال علي بن تميم وعادل خزام ومسعود أمر الله وعمر غباش وجمعة القبيسي وغيرهم، ممن كتبوا عن رحيله أنه كان علامة فارقة في تاريخ الثقافة الإماراتية، وأحد مؤسسي المشهد الشعري، وحالة استثنائية في الأدب العربي.

الشرق الأوسط
28-2-2012

* * *

وداعا يا بشوش القلب يا احمد

( في وداع الصديق الشاعر الإماراتي احمد راشد ثاني )

علي الشرقاوي
(البحرين)

أحمد راشد ثانيوترحل يا الإماراتي
يا الصوت المؤجج بالندى وحدائق الأحباب
مخفورا بعرس البحر
ممتلئا بكل قواقع الأحلام
ترحل عنا يا احمد
كأسئلة الصدى نحو المدى ترحل
تعود إلى نقاوة بيتك الأول
وتتركنا
نواصل حفرنا اليومي في العادي والمألوف
ننزف صوتنا في حلمنا المحتل
وترحل يا الإماراتي
يا الصوت المؤجج بالمحبة
يا صباح الشوق
تبحث عن رزئ مزحومة في قلب أحبابك
سمعنا وردة قالت لجارتها
ترجل واحدٌ منا
نعم
يا الخور فكاني
يا المجنون بالحلم المغامر
في شوارع نسمة الدنيا
تلاقينا على كتف المقاهي
تصعلكنا
شربنا الكون حتى ضج من فوضى شراهتنا
وبين شوارع الكلمات صرنا نمطر المارين بالأشعار
جاهرنا بان الحب سيدنا
ومن يمشي وراء الحب
لو ذبلت أيادي الماء لن يذبل
نعم
يا الخورفكاني
كنت الطير تفتح قلبك الكوني
للندف المراقة من فضاء الله
تطعمنا
بهارات الشقاوة في رصيف الوقت
كنت صغيرنا
ونخاف أن يغويك
حرفٌ ميّت الإطراف أو معتل
نخاف عليك أن تصحوا
بعيدا عن سماء هوائنا الاشهل
نعرف
في بحر السماحة كنت بحارا
جريئا كالمحبة في تسنبلها
على إطراف حلم الأرض
زادك حلمك اليومي .
وصوتك ظل منهمرا
يبل الريح بالغيم الذي يزهو بداخلنا ولا يبتل
يا احمد
عرفت الشرق يركض في خلايانا
عرفت الغرب يسهر في مرايانا
عرفت ولم تزل تسأل
لماذا تهرب الكلمات وكل حروفها تنحل
إذا غنى الفضاء لرقصةٍ في مهجة وحشية الجدول
وترحل أنت يا احمد
كنجمة فرحةِ خرّتْ
لتترك نورها الأبدي
بين دبي وخور فكان
تزرع في الجهات شهامة المنحل
صديقي يا الإماراتي
يا المنسل من غيم البداوة
من تنهدها
رايتك فوق أمواج الكتابة شوق بحارٍ
يجر البحر من إطرافه
ويعيد تشكيل المسافة،
قلت إن الشمس داخلنا تنام وتصحو كالخرافة،
للخرافة سطوة فينا
بدون جموحها الأبدي لا نصهل
أتذكر إننا بالضحك زاحمنا النوارس في الجهات السبع
كنت الطير في أحلامه يمضي ولا ياهتز
وكنت الهامشي الضاج في المركز
أيا الكوني حيث تكون
كالنغم الخليجي المعتق بالنهار أراك
وترحل عنا يا احمد
وتتركنا نفتش عن خلايانا
نصارع وحشة المعنى وراء الريح
ترحل يا الإماراتي
يا الصوت المعتق في خلايانا
وداعا يا بشوش القلب حيث تكون
ترجع للسباحة في بحيرة ماءك الأول
اشك تغيب عن انهار غبطتنا
اشك تغيب عن أزهار كلمتنا
كيف تغيب ونحن في الحروف نراك
متسعا وممتلئا كنهر العشق
عد لسماك
عد لهواك
عد لنقاك
من سكن المحبة أو خلاياها
سيبقى في ربيع الروح لا يرحل .

* * *

رحيل الشاعر الإماراتي أحمد راشد ثاني

عباس بيضون

أحمد راشد ثاني لا يفاجئنا خبر وفاته، فهذا الشاعر الذي جعل من الشعر لحظة تفان وإفناء وجعل منه سيرة حياة تبقى دائماً في معادلة الموت، وجعل منه استنزافاً للوجود تكاد كل لحظة فيه أن تكون ملاعبة للغز وملاعبة للنهاية.

كان أحمد راشد ثاني من هؤلاء الذين يحملون الوجود والعدم في كفتين متوازيتين، ومن الذين من فرط إصغائهم للوجود تحولت حياتهم الى نشوات إلى الأعلى وخيبات إلى الأدنى، وليس بين الأعلى والأدنى سوى أجسادهم الشبحية، ليس بين الأعلى والأدنى سوى مرورهم كظل عابر، كنسمة وكزفرة وكسؤال. كنا نلتقيه فنجده مترنحا ونجده في أبهة عذابه ونشوته. نجده وهو يسير على الخيط أو الوتر المشدود وهو في سكره يصغي فتصل إليه أنات لا ندركها، وتصل إليه تنهيدات لا نشعر بها، تصل إليه لحظات من التكوين، تكوين البحر وتكوين الجبل وتكوين الإنسان، كنا نراه في ثمله وقد تحول الكون بالنسبة إليه إلى رادار ضخم وقد تحول هو إلى شاشة لاقطة. ما كنا نفهم أن الوجود يتقطر لدى هذا الشاعر. ما كنا نفهم إلا حين يترك لنا وللحانة قصائد هي ما استرقه من تجليات العالم وظهوراته. كان أحمد راشد ثاني في كل أحواله ما يكونه الشاعر. منفرداً كان ورائيا وسارقا للضوء وفانيا في الملكوت وواقفاً على الحد وعلى الشعرة وعلى الهشاشة وعلى الوتر الحساس وعلى الدمعة أحياناً وعلى النقطة وعلى الكلمة وعلى الحرف.
كانت حياته بالتأكيد قصيرة لكنها مديدة ومفعمة لأنه عاشها تمـاماً كقصيدة وعاشها كضوء متكرر وكأمر كوني معاد وكدقيقة أبدية متواليه، إذا كان يعيش على حد الشعر فهو في الغالب حد الموت وهو في الغالب شوكة الوجود وهو في الغالب خيط الروح.

أحمد راشد ثاني. لا يفاجئــنا خبر وفاته منذ وقت طويــل يكلمنا من الغيب وهو منذ وقت بعيد يستنزف نفسه ويقطرها لحظة لحـظة وشعــاعاً شعاعاً، وهو منذ أمد يوازن بين المصباح والظل، بين العبور والاختراق، بين الوجــود والعدم، وهو منذ أمد وربما منذ أبد يدخـل في وردة العـالم، في وردته الكبيرة وفي محرقته وناره، وهو منذ وربما منذ أبد يرمي العــاديات ويرمي التفاصيل ويرمي الأشياء ليعود فيجدها في حلمه. هو منذ أمد وربما منذ أبد يتبع بعينيه تلك الكأس العالية، يتبعها بعينيه ويتبعها بأنفاسـه ويتبعها بنبض قلبه. هو منذ أمد وربما منذ أبد يتلقى أسراراً أكبر من هيكله وينــهار تحت نبضه أقوى من قلبه ويلم هيكله كل مساء قطعة قطعة ليودعه في خزانة الكــون ويستخرجه في الصبــاح أجـزاء وتفاصيل، تفاصــيل كانت حبات شعره وكانت نثراته وكانت أنفاسـه وبحوره وأوزانه. تفاصيل هي أيضاً جزئيات العذاب وأوتاره وكسوره وزواياه. كان هو الشاعر والعالم يقصف الشعراء، الشاعر والعالم يتقطر أحياناً في قصيدة.

السفير
21 فبراير 2012

* * *

أحمد راشد ثاني .. رحيل مواطن من الدرجة المتمردة

شاكر نوري (*)
دبي

أحمد راشد ثانيليست الكتابة ممكنةً عن الشاعر الإماراتي الصديق الراحل أَحمد راشد ثاني، من دون الخوض في أَعقد تفاصيل الحياة، وعلاقة الشعر بسلوك الشاعر، وأَيضاً من دون المرور على الذكريات. موت الشاعر فداحةٌ كبيرة، وموت الشعر الأَكثر فداحة. وأَحمد لم يمت شعرياً، وإِنْ رحل عن عالمنا، فلا زالت قصائدُه تجتذب قرّاءَها، وينابيعُ شعرِه لا تعرف الجفاف. كان اللقاءُ بالشاعر الراحل يبدأُ دائماً بنكتةٍ ذكية، وابتسامةٍ عريضة. قبل عشرين عاماً، التقيتُه في باريس، لدى حضورِه مهرجاناً للشعر في معهد العالم العربي. طلب مني أَنْ أُعرّفه على بعض بيوت الأُدباء الفرنسيين، فزرنا عدداً منها، كان منبهراً بها: بيوت أُونري دي بلزاك وفكتور هيغو وأَلكسندر دوما. لا أَنسى ما قاله: "إِننا لسنا في حاجة لجدران، بل لقصور شاهقة الأَسوار، لكي ينتبه لنا الناس، وهؤلاء الشعراء والكتّاب الفرنسيون ينتبه لهم الناس حتى لو عاشوا في أَكواخ، قصورنا أَكواخٌ وأَكواخهم قصور". وفي غمرة أحاديثنا، طلبت منه، مازحاً، أَنْ يتوسَّط لي لأَعمل في الإمارات، أَجابني: "أَنصحك، يا شاكر، لو أَنني أَتوسط لك، سيكون ذلك في غير صالحك". عرفتُ حينئذ أَن أَحمد راشد مواطنٌ من الدرجة المتمردة. كان كذلك فعلاً، ليس في الواقع فقط، بل في شعرِه أَيضاً. فهو يصر على أَنْ يكون"للشمعة دم، وهي تحترق"، و"يبتهج بالجلوس على البحر صباحاً"، و"ينتظر الليل لكي يأْخذَه"، "ولا يرى من البحر سوى الموجة".
ثم التقينا في أَبو ظبي، فرح كثيراً لعملي هنا، وتذكرنا سوياً أَيام باريس القليلة، سألني: كيف تترك باريس وتأْتي إِلى الإمارات، يا ريال؟ أَجبته: أَلا تدري أَن همنغواي يقول: يكفي أَنْ تزور باريس أَياماً قليلة لكي تتذكرها طوال حياتك"، أَما أَنا فأَحمل باريس في أَعماقي وأَتذكرها دائماً. راقت له الإجابة الافتراضية، فقال لي: هذا صحيح، إِنني أَتذكرها دائماً.. كما أَتذكر منازل أُونري دي بلزاك وفكتور هيغو وأَلكسندر دوما. شجعني أَحمد على ترجمة كتاب "أَين كانوا يكتبون .. بيوت الأُدباء والكتاب في العالم" الذي ترجمته زوجتي المهندسة المعمارية رجاء ملاح، وصدر بدعم المجمّع الثقافي في أَبو ظبي الذي ظل يعمل فيه موظفاً حتى وفاتِه، رحمه الله. وكان، كما أَسلفت، يُبادلني النكات الجميلة كلما التقينا، ويقول لي:" يجب أَن تطبخوا لنا وجبة "الكسكس"، (في إِشارةٍ إِلى زوجتي المغربية)، ونحن نطبخ لكم "الباجة"، (في إِشارة إِلى زوجته العراقية).

لم نكن نعلم بأَنه يعاني من إِجهاد قلبِه، فلم يظهر ذلك على وجهه، ولا على شعرِه، كنت أَقول، مراراً، لأَصدقائنا: "كيف يمكن أَنْ ينبع هذا الشعر الجميل من قلبٍ متعب؟". بعد كل وعكةٍ صحية، نلتقي، وهو يُردِّد: "قلبي يُمهلني فرصةً أُخرى للكتابة". ... لا أَدري لماذا يذّكرني أَحمد راشد ثاني بالشعراء: رامبو، سيرغي يسنين، ديلان توماس. صارحته، مرَّةً، بذلك، فقال: "أَنا، يا شاكر، أُحب شعرَهم رغم انتمائِهم إِلى قارات مختلفة، وكأَنَّهم يكتبون بقلبٍ واحد، هو قلب الشعر". كان يهوى الشعر المترجَم، ويبحث عنه، سيما لهؤلاء الشعراء. وكان يحب الشعر العراقي، وكان العراق حبَّه، قال لي مرَّة: "العراق، بلد الشعر والحانات".
أَحمد راشد سليل الشعر والحانات.. في لقاءاتنا في المهرجانات الأدبية والفنية التي عادة ما تنعقد في الفنادق، كنت أَراه حائراً، ينظر يميناً ويساراً، فأُبادره القول على الفور: "أَكيد أَنك تبحث عن مكان الحانة"، فيجيبني: "يا لعين، كيف عرفت ذلك؟". كان آخر لقاءٍ لنا في مثل هذه الأَمكنة في فستفيل سنتر في أَثناء انعقاد مهرجان طيران الإمارات للآداب في دبي، على ما أَتذكَّر. فيكون هامش المهرجان الحانة التي يتقاطر إِليها الأصدقاء، وينطلق الذهن من عقالِه، وتحلو الأحاديث والنميمة. كان يأْنس لحديثي له عن حانات طنجة التي أَزورها سنوياً، وآخرها كان في الصيف الماضي، حيث أَمضينا وقتاً جميلاً مع الصديقين العزيزين سعدي يوسف والطاهر بن جلون. وكان في وسع أَحمد أَنْ يكتب ديواناً أو دواوين عن الحانات، لكنه لم يفعل مثل سعدي يوسف الذي كتب "ديوان طنجة".

أَعتقد أَن أَحمد راشد ثاني لم يُخلق لبيئةٍ هادئة، ومسالمة، ومستقرّة، فهو ابن الاضطرابات الروحية التي لا حدودَ لها، شعرُه يفيضُ من كل الشواطئ. لم يجدْ من يفهمه إِلا أَصدقاءُ قليليون، ومنهم الشعراء ثاني السويدي وعادل خزام ومحمد المزروعي وخالد الراشد وعبد العزيز جاسم. هؤلاء فهموه، وعلى الأصح فهموا روح الشاعر الكامنة فيه، وهم مثله في تمردِّهم وثورتِهم وتجاوزهم.
لم يمتثل لأَيةِ صيغةٍ حياتيةٍ أَو شعرية، ومن هنا يتميّز الشاعر الراحل، فهو شاعر كونيٌّ لا وطن له. ومثل جميع الشعراء الكبار، كان يذهب إِلى جوهر الأَدب: الحكايات، وينهل منها ما يشاء، كتابةً وجمعاً وأَرشفة. فالحكاية جوهر الأُمم وروحُها، وأُصول تمردِها وثورتِها وفلسفتها. فقد أَبصر ذلك مبكراً، ونبّه إِلى ينابيعه الأُولى. لم يكن أَحمد راشد ثاني يكتب سوى نصاً واحداً، هو نص الحياة، نثراً وشعراً وحكايةً وسلوكاً، متناغماً ومحتفلاً بالحياة.
مجالستُه مريحةٌ وصعبةٌ في آن واحد، فهو لا ينطقُ إِلا بالحقيقة، من دون مواربةٍ أَو لف أَو دوران، وهذه كثيراً ما تثير الانزعاج، لأَنَّ المجاملات تهيمين على تلك الجلسات في العادة، فهو ليس في حاجةٍ لمن يمتدح شعره أَو كتابته، أَو يجري معه حواراً أَو يُقدِّمه في ندوة، أَو يترجم له، لأَنه ذاهبٌ إِلى جوهر الشعر. هنا ميزةٌ أخرى في فقيدِنا، وهو ذو خصال كثيرة. تبقى الكلمات التي تصفه من الخارج ناقصةً، لا تعبّر عن جوهره، فقد كان يفكر بطريقة مغايرةٍ ويكتب بطريقة مختلفة، وهو الذي تمكَّن من ردم الهوة بين الكتابة والسلوك. لذلك، لا يمكنُ أَنْ نكتبَ عن الشاعر الراحل، إِلا من خلال رؤيته للشعر وللعالم، وأَن ننظر معه في اتجاه واحد، لا أَنْ ننظرَ في عينيه.
لم يكن الراحل يؤمن بالمؤسساتِ الأَدبية التقليدية، هي شكليةٌ في نظرِه، وتصبُّ في مصالح فئةٍ معينة، ولا تُعنى بالآخرين. كان يُؤمن بأَنَّ التعبير عن الشعر لا يأتي خارج العفوية والطفولة، كما يقول بيكاسو"العبقرية هي المحافظة على الطفولة"، فكان يغرف من العفوية والطفولة، لذلك، رسم لنا عالماً نظلُّ نتذكرُّه بعد رحيله.
ليست مصادفةً أَنْ يكون أَحمد راشد من أَبرز شعراء الحداثة، وهو الذي بدأَ كتابة الشعر في أَواخر سبعينات القرن الماضي، متلقياً تشجيعاً من الشاعر محمد الماغوط الذي كان يعمل آنذاك في الشارقة، من هنا، انحاز الشاعر إِلى قصيدة النثر التي برع فيها وزامل شعراءَها في العالم العربي. وعلى هذا النهج، فهم الحداثة من خلال فهمه لتعقيداتِ الحياةِ وتشابكاتِها المعاصرة، في السياسة والحياة، وفي تمردِّها على كلِّ مألوفٍ وتقليديٍّ ونمطي، وإِلا ستكون الحداثةُ لا معنى لها. ولعلَّ أَهمية الشاعر الراحل تكمن في هذا المزجِ المبدع بين الحداثة والتراث، من دون أَن يرى أَيَّ تناقض بينهما، بل يغذي أَحدُهما الآخر بأَنهارِه وجداولِه. كانت رؤيتُه متمردةً ضد جميع القوالب النمطية الجاهزة، شعراً وسلوكاً، فلم يمتثل لأَيِّ سلطةٍ إِلا سلطة الشعر.

عن ( كيكا)

* * *

كأنه يرفع يده مودّعاً

عبد الرحيم الخصار
(المغرب)

أحمد راشد ثاني
كأنّه يرفع يده مودعا في هذه الصورة التي التقطتها له قبل ثلاث سنوات.

في ذلك الصيف الذي مرّ مثلما تمرّ كل الفصول عجلى كأنّ يدا تدفع بها قسرا إلى حيث ينتهي كل شيء. كان يجلس كل صباح في مقهى لاهاوس التي يديرها صديقنا المغربي سمير بالريف الفرنسي، واعتدت أن أمرّ كل يوم لأجلس معه في تلك الصباحات لنتحدث عن الحياة والأدب، كانت نظرته للكتابة شبيهة بنظرة عاشق إلى شيء يقدسه، وكانت آراؤه في الثقافة وأهلها قد استغنت عما يجملّها، فحين يتعلق الأمر بوجه الشعر تبدو كل المساحيق كاذبة.
يتحدث عن خورفكان مكانه الأول بحب كبير، وحين يمرّ الماغوط في حديثنا يمر مرور الأنبياء، لقد كان صاحب "غرفة بملايين الجدران" الباب الأول لأحمد راشد ثاني في منزل الشعر، الباب الأعلى والأشسع.

كان يزعجه أن يضيف أحدهم حرفي "آل" إلى لقبه، كأنه لا يحب أن ينتمي لسلالة غير سلالة الكلمات، وإن كان له أن ينتمي إلى عائلة ما، فقد انتمى باكرا إلى عائلة تبدأ من الخوارج العرب في الأدب وتنتهي عند الذين شرّدهم الشعر في الشوارع والطرقات، بعيدا في القارات الأخرى. لذلك تحس أن حرارة المعنى تعلو في جسده حين كنا نقف على التلال العالية في حياة سيرغي يسنين أو رامبو أو جيرار دونيرفال.
تمر كلماته الآن أمامي، وقصائده، وضحكته ونكاته ومراراته، ورقم هاتفه المغربي الذي كان يصلني عبره صوتُه المثقل بالحب.
وحين سمعت بالحريق الذي شب في بيته قبل شهرين عرفت أن قلبه المتعب و المرهف سيزيد ألما لأن النار لم تلتهم الأرائك و الستائر فحسب، بل تطاولت أيضا على قصائد الشاعر.
لا أملك يا أحمد راشد ثاني غير أن أستعيد قصيدتك "كان يكفي الباب" و أرددها مثل ترتيلة في
وداع شاعر ميت:

كان يكفي الباب

أدلُّهم على طريق لم أَدخُلْهُ• كان يكفي البابُ•
ولم أطرقْ أبداً إلا كَيْ أهربَ•
وكأن هذا البيتَ قبرِي•
السعادةُ في الفنجان، وهذا الصباحُ سنمنحُ الأطفال حريتَهم، ونعذِّبَ الصحونَ•
المائدةُ ممتدةٌ حتَى السماءِ، ومن السقف تتدلى الرئةُ•
- خذ المرأةَ إلى الماء ونظِّفها من الجنس•
- خذْ الرجلَ إلى الحائط واطلق عليه اللعنة•
خذ الجدرانَ إلى النزهةِ• والمرايا إلى العائلةِ•
خذني إلى حيثُ دَخَلْتَ•
لأطرقَ البابَ وأدخلَ القبرَ وأنسَى•

عن (كيكا)

* * *

أحمد راشد ثاني الذي سرقه شقيقه الليل

عبده وازن

أحمد راشد ثانيمات الشاعر أحمد راشد ثاني على «الحافة» مثلما عاش أعوامه كلّها على «الحافة»، غير آبه للأخطار التي طالما أحدقت به. إنها حافة الوجود التي تطلّ على الحياة من جهة وعلى الموت من جهة أخرى، الحافة التي تفصل بين البحر والجبل أو الصحراء في بلدته «خورفكان» في شمال الإمارات، الحافة التي تفصل أيضاً بين عالمه الأول الذي يفيض براءة وصفاء، وعالمه الثاني الذي صنعته القصيدة، بصفتها طريقة حياة وكتابة في آن واحد. رحل أحمد راشد ثاني قبل أن يكمل الخمسين، كانت تنقصه أشهر قليلة ليجتاز أزمة منتصف العمر التي كان بدأها أصلاً باكراً في الثلاثين ربّما، تبعاً لحياته التي لم تشبه يوماً ما نسمّيه الحياة. فهذا الشاعر الذي أدرك، على غرار الشاعر الفرنسي بودلير، أنّه دفع من رحم أمه إلى هذا العالم وليداً «مطروداً»، خامرته لعنة الشعراء المحذوفين والمهمّشين والصعاليك، الذين لم يملكوا سوى «بصيص الألم»، كما يعبّر، ولم يتركوا وراءهم سوى قصائدهم وميراث من المآسي الصغيرة والخيبات والهزائم.
كان أحمد راشد ثاني في حال من التواصل الدائم مع ماضيه الذي غادره بالجسد وليس بالروح. ظلّ مشدوداً إلى «الحوش» وإلى شجرة «الشريشة» وإلى خورفكان، البلدة التي تتوسّط البحر والجبل الصحراوي. أما الشجرة هذه، الشريشة، التي لا تنبت إلا في الصحراء، فكانت أشبه بـ «البوصلة» التي كان يعتمدها حيثما رحل أو سافر أو تشرّد. إنها شجرة الطفولة التي كثيراً ما لاذ إلى أفيائها، في أوقات الشدّة والغربة. إنها وليـدة البـحر والـجـبل، البحـر الـذي ركـب والـده البحّـار أمواجه والجبل الذي ولدت أمّه في كنفه، هي «سليلة المزارعين، سكان الجبال»، كما يقول. ولا غرابة أن يتراوح شعر أحمد راشد ثاني بين هذين القطبين المتواجهين، البحر في ما يعني من سفر وانعتاق، والجبل في ما يضـمر من براءة وقسوة... ومثل هذين، البحر والجبل، كان أحمد راشد شاعر الرحيل وشاعر الإقامة.
عندما علمت أن شاعر «دم الشمعة» أصبح باحثاً رصيناً، شغوفاً بالتراث الإماراتي، لم أصدّق. فهو شاعر مفطور على الصعلكة، ولكن الصعلكة الجميلة، مجبول بهاجس الترحّل أو الترحال... «تحت كلّ طاولة تنتظرني قدماي كي نخرج» يقول أحمد. وإذا خرج فهو يعلم أنّ العودة هي ضرب من ضروب الخروج والصعلكة وليست رجوعاً إلى الوراء. ترى أليس هو مَن قال: «إلى أين أرجع والبيت عاصفتي»؟ لكنّ الخروج لم يعنِ له يوماً إلا هروباً إلى الأمام أو كما يقول «فراراً وافر الوحشة»، إنه الخروج من سجن إلى سجن رحب، من غرفة إلى صحراء، قد تكون مدينة أو بلاداً. والشاعر يعلم علم اليقين أنّه غدا «كمن ينتظر قطاراً في هذه الصحراء»، وسواء أطلق القطار صفيره أم لا، فـ «القطارات تتصادم في رأسي»، يقول.
لم يكن أحمد راشد ثاني مقلاً في شعره، لكنه لم يكن مغزاراً، وقد كتب أعمالاً مسرحية ونصوصاً نثرية. ولعلّه بدا في ما كتب من قصائد، على اختلاف أنواعها وفنونها، كأنّه يكتب قصيدة واحدة، متقطّعة، زمناً ومراحل، هي قصيدة حياته في ما تخفي من مآسٍ وآلام وآمال وأحلام وخيبات وأسئلة. كأنّ أحمد راشد ثاني شاء أن يكتب لنفــسه سيرة من خلال الشعر أو في قلب هذا الشعر وفي صميمه. وقد بدا شعره ذا منحى ذاتي بيّن، ليس من خلال الحضور الطاغي لـ «الأنا» المسحوقة والرومنطيقية أحياناً فحسب، وإنّما عبر النَفَس الوجودي الذي يســـم قصائده، والذي يجعل من الذات مرآة للعالم الداخلي والعالم الخارجي في الحين عينه. وعندما كان يخرج عن مساق هذه الأنا – الذات فهو كان يحيل المشهد الذي يبصره سواء بعينه أم بخياله، مشهداً ذاتياً، مضفياً عليه ظلّه الشفاف والكامد. «لماذا تفضل الأمواج/ الانتحار/ على الحياة في البحر؟»، يسأل الشاعر من غير أن ينتظر جواباً لأنّه يعلم أنّ هذا الانتحار يشبه رغبته في الارتماء الدائم في بحر الحياة التي تشبه الموت.

عاش أحمد راشد ثاني حياته أيضاً كأنها قصيدة مفتوحة على الحياة نفسها، الحياة بما تعني من مغامرة دائمة ومخاطرة ومواجهة وكشف أو اكتشاف. كان يحلو له مراراً أن يتمثل حياة الشعراء الصعاليك، القدامى والمحدثين، فكان يزور المدن «الغريبة»، يتنزه على أرصفتها، يتنقل بين حاناتها، مطفئاً في ليلها وحشته المرّة، التي كانت ترافقه دوماً. حتى النهار كان «ميتاً» في نظره، كما يقول، ويضيف: «ها أنا أدفنه في الكأس»... وكم كان يحلو له أن يتصعلك في القاهرة وبيروت ودمشق، كما في بعض المدن الأوروبية، علاوة على ليل الفنادق في أبو ظبي ودبي، وفق ما يعترف. وكان الفندق، في هذا القبيل معلماً من معالم حياته الهاربة إلى الأمام أو إلى الوراء، لا فرق. لكنّه كان دوماً على يقين أو ربّما إيمان، أنّه، مهما استبدّت به الظروف، يمكنه «من هناك» أن ينادي على جبال خورفكان، فتهب لملاقاته، كما يعبّر في إحدى قصائده.
كان أحمد راشد ثاني، شاعراً فطرياً ومثقفاً في آن، قارئاً نهماً، يطارد الكتب والصحف بنهم، يطلع على الجديد أياً يكن... لكنّ فطريته العظيمة كانت تطحن كلّ ما كان يأخذ من هنا وهناك وكلّ ما يؤثّر فيه أو يتأثر به. ولعلّها هي التي ساعدته في صنع صوته الخاص وكتابة قصيدته الخاصة. هذه القصيدة المشرعة على شعريات عدّة والمغلقة على نفسها، على شعريّتها ولغتها. هكذا لم يشبه أحمد راشد ثاني إلا نفسه، لم يشبه أحداً من شعراء جيله في العالم العربي ولم يشبهه أحد من هؤلاء الشعراء الذين جايلوه وصنعوا معاً تياراً أو موجة.

وكم كان يحلو له أن يتحدث عن العلاقة التي جمعته بالشاعر محمد الماغوط الذي احتضنه في بداياته أيام كان الماغوط يقيم في الشارقة ويشرف على الملحق الثقافي فيها، وكان ينشر قصائده ويشجعه على التحرر من ربقة الشروط المسبقة. وعندما كتب عنه مرة الشاعر أنسي الحاج مرحّباً بصوته فرح كثيراً وشعر بأنّ هذا الترحاب يحمل تحية من مجلة «شعر» التي يتمثّل شعراءها في وجدانه. كان أحمد شاعراً عبثياً وساخراً، طفلاً، «شـريـراً» في أحـيـان، ولكــن في المعنى الجميل للشر، لا يداهن ولا يحابي، ينتقد بقسوة، وينفعل ثم يهدأ. وكان يغيظه كثيراً «المديح» المجاني الذي يكيله النقاد العرب للأدب الإماراتي، كيفما اتفق، طمعاً بمال أو هبات... كان أحمد راشد ثاني يهبّ منفعلاً وكان يلذع بكلامه العدائي، لكنّه سرعان ما كان يهدأ ويعتذر. كان شخصاً حقيقياً، لم يسع يوماً نحو منصب أو مجد أو ثروة. كان يكتفي براتبه حتى وإن لم يكن يكفيه، هو الفوضوي بامتياز، الذي لم يعرف كيف ينظّم حياته حتى خلال زواجه. وقبل بضعة أشهر من رحيله، احترق منزله وشاهد بعينيه مكتبته وكتـبه وأوراقـه تحتـرق وتـستـحيل رمـاداً. وقـيل إنّ حـزنـاً عمـيقاً حـلّ به، بعـدما خسر ثروته الوحيدة.
بعد هذا الحريق، جاء الليل وأخذ أحمد راشد ثاني، كما يعبّر عنوان ديوان له صدر عام 2007، لكنه حتماً لم يخف هذا الليل الذي خطفه، هو الذي قال: «الليل أخي بالرضاعة».

26 فبراير 2012

* * *

غياب أحمد راشد ثاني يبرر السؤال
أين شعراء الثمانينات في الإمارات؟

إبراهيم اليوسف
الشارقة

أحمد راشد ثانيأثار رحيل الشاعر أحمد راشد ثاني، قبل أيام- وهو أحد أصوات جيل الثمانينات الشعري إماراتياً-الكثير من الأسئلة، حول مدى أهمية النصوص الإبداعية لأبناء هذا الجيل الشعري الذي خط أثره، قبل ثلاثة عقود، ولاتزال أيدي بعض فرسانه في الصلصال، بحسب إشارة نزار قباني عن استمرارية الاشتغال على النص الإبداعي .

إذا كانت هذه الأسئلة تثارالآن، على هذا النحو، فإن هناك بدهية ثابتة لدى النقاد، بل والمهتمين بفن الشعر، مفادها أن القصائد العملاقة، تظل محافظة على مقوماتها الإبداعية، مهما مر الوقت عليها، كي تبدو وكأنها قد كتبت للتو، بل لكم من قصائد، أو مجتزآت شعرية، لشعراء قدامى، لانزال نستظهرها، أو نرددها، حتى الآن، لأنها تعبر عن ضمير لحظاتنا المعيشة .

حقيقة، كان جيل الثمانينات الشعري من أمثال: أحمد راشد ثاني، وحبيب الصايغ، وظبية خميس وإبراهيم محمد إبراهيم، وغيرهم، قد خط مساره الشعري، ليكون ذلك بداية تجارب فرسانه الإبداعية الخاصة وخط الحداثة، في آن معاً، كي يترك هذا الجيل بصماته الإبداعية، ليصبح أنموذجاً تتحاور معه الأجيال اللاحقة، حتى ولو كان من خلال رغبة التجاوز التي تلازم كل جيل إبداعي على حدة، لأن هؤلاء الشعراء كرسوا مفهوم المجايلة، في معناه الدقيق، على أساس عقدي محدد، وإن كانت ولادات هؤلاء الشعراء إبداعياً متفاوتة حسب المقياس الزماني، بل وإن لكل تجربة من تجارب هؤلاء المبدعين خصوصيتها، كما أن هناك ما هو عام بينها، لاسيما على صعيد التحولات المهمة التي شهدها شعراء ذلك الجيل، على اعتبارأن الإمارات كانت في مواجهة مرحلة تحول هائلة، في كل المجالات، وكانت قصيدة الشاعرتعكس ذلك القلق الرهيب الذي يعيشه صاحبها .

إن القيمة الإبداعية للنص الشعري الأصيل، لايمكن أن تفتقد، ولعل هناك قصائد، كما أشارت الشاعرة الهنوف محمد في حوار أجري معها أخيراً، في ملحق الخليج الثقافي، لم تتح لها فرصة الاكتشاف والقراءة من قبل قارئها، بالشكل الذي تستحق، وترى أنه قد يتم كل ذلك، في مابعد، وإن كان أي إبداع جديد، لابد وأن تكتشفه النخبة الثقافية، من نقاد، وشعراء، وقراء متابعين، وهذا ما يمكن تصوره تماماً من منطلق مهم، وهوأن القصيدة الجديدة، كانت تجسد تحدياً حقيقياً، لأنها كانت تؤسس لنص مفارق جديد، له شروطه، وألقه، بما كان يخالف المفهوم التقليدي للشعر، وهذا ما كان يسجل مفارقة رهيبة، يدفع الشاعر الجديد ضريبتها، أينما كان .

يقول أحمد راشد ثاني:

“أغرف من بئر
تسقط في ذاتي
وها أنا قالبها إلى غيمة
والجهات مراياي
تعود بي ملائكتي المنهكة
من أواخرالليل
إلى مرآة السرير
تحفرلأنفاسي موجة
تخرج عارية على ساحل بعيد
تبشر حيتان الدم بمياه فائقة”

إن الموضوعات التي تناولها الشاعرالجديد، بدت مختلفة، ناهيك عن أن اللغة، والصور، وبناء القصيدة لديه، كانت كلها مختلفة، مغايرة للسائد، وهذا من شأنه أن يجعلنا أمام رأيين متباينين: أحدهما ينم عن رؤى رواد هذه القصيدة، والآخر، يتعلق بمتلقيها، وإن كنا أمام أكثر من أنموذج من المتلقين، ذلك لأن تقبل الجديد، يتطلب شروطاً معينة، لابد من توافرها لدى القارىء، الأمر الذي جعل الشاعر الجديد، يدفع ضريبة كبيرة، بين رافض لمشروعه، ومتحمس له، إضافة إلى من هو بين بين، لذلك فإن وجهات النظر المختلفة، شكلت عقبة كأداء أمام مشروعه الجديد، يقول أحمد راشد ثاني:

“هاقد عدت إليك
أيها الصغير
يا أحمد راشد ثاني1970
إلى أين يمكن أن نذهب
وحدنا معك
تعد أحجاراً ملساء
لابتكار مستحيل ملون” .

إذا كنا قد استقينا، هنا، أنموذجين من قصائد ثاني، فإن في تجارب كل شعراء جيله، ثمة أمثلة هائلة، موازية، تصلح للإدلاء بها، في مثل هذا المقام، إلا أنها جميعاً، تدل على أن نصوص تلك المرحلة، لا تزال مفتوحة على القراءة والاكتشاف .

وبديهي، أن تكون آراء الشعراء أنفسهم متباينة، في ما يخص فحوى خطاب قصيدتهم، بعد مرور وقت طويل، نسبياً،على لحظة كتابتها الأولى، إذ يرى أحمد العسم أن القصيدة تخلق صدمتها في لحظة كتابتها، كما أنها تحافظ على جدواها باستمرار، ويرى محمد البريكي أن أية عودة إلى القصيدة الإبداعية الجديدة، تضيف اكتشافاً جديداً على القراءة الأولى .

عموماً، إن قصيدة جيل الثمانينات الشعري، في الإمارات، لاتزال تحمل الكثير من ألق لحظة كتابتها الأولى، وهي بحق أحوج إلى المزيد من القراءات النقدية لها، لأن مثل هذه القراءات، سيكون لها أكثر من بعد، في ما يتعلق بإنصاف عدد كبير من الشعراء، لابد من إطلاق حكم القيمة الفنية، في ما أنجزوه .

عبدالله بن زايد: كان قلماً إماراتياً مميزاً

قدم سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية التعزية بالشاعر الإماراتي أحمد راشد ثاني، وقال على صفحته على “تويتر”: “أحسن الله عزاءنا في رحيل أحمد راشد ثاني، كان قلماً إماراتياً مميزاً، سنفتقده كثيراً” .

الخليج
الأحد 26/02/2012

* * *

قبلة على جبين أحمد راشد ثانى فى قبره

ظبية خميس

ظبية خميسأوصى بك الريح,وشذرات العدم.
صرنا بلا وداع نفترق,الصدفة تبلغنا عن نهاياتنا.
حتى الحزن والرثاء والدموع كأن لا حق خاص لنا فيها,فى أمة تحتضر,ويسبق موتها وعود حياتها القادمة.
رمت الرحيل,إذن يا أحمد راشد ثانى فى ظهيرة نهار لا زال يبدأ عام جديد معه.لا زال فى أوله ولكنك رحلت فختمته ليكون آخر الأعوام.
كل شىء يعدنا للوداع وحتى أحاديث الذكريات ووعود قادم قريب نصنع فيه المزيد منها على أرض كلما إقتربنا منها,تبتعد.
نتوهم مستقبل ما,نستريح فيه من ضناء كوابيس مشينا بها.نتوهم شيخوخة آتية فإذا بها النهايات والجبال على أكتافنا لا تزال.
أكثر من ثلاثين عام كتبنا فيها .تقابلنا وتودعنا بأمل جغرافية تحملنا ونحملها.تزورنى فى القاهرة لتقول عودى:تغير المكان والزمان.عودى فشباب اليوم يشبه تمرد شبابك بالأمس.عودى:صار لنا مكان للقصيدة والكلام وربما حرية فى الأوطان.عودى,وسأمنحك الكثير من الكتب.أعود فتقول لى :لا بيت لى بعد!شبت يا ظبية ولم يمنحونى بيت بعد.أفكر ببيت لأولادى فقلبى معطوب وبيتى إحترق ولا بيت لى سوى القصيد والكتب.أقول لك نشترى شققا معلقة فى السماء كاالغرباء فى الشارقة وتكون جارى,ونتفق.
تتحمس يا أحمد للثورات والعرب,تعيشها بالأمل وأقول لك ذلك دم يراق,ويراق,ويراق!
تكتب بحمى من يريد أن يبصر كل شىء دفعة واحدة.تنشر كتبك مجتمعة.الشعر والنثر وسرد المستشفى والذاكرة وخورفكان وحيوات شعراء وشاعرات الأمس وتحن للخضر وإبن ماجد والفراهيدى والنخل والبحر والرمل ,وتحن لأبويك الذين دفنتهما بيديك.
تحتمى بطفلتك الكبرى وهج وتحن لطفليك فى هولندا وتستقبل طفلا جديدا بحلم الغد.وكلهم تيتموا اليوم وتيتمنا معهم وتيتمت أرض بأكملها أنشدتها شعرك وكلماتك فى حياة كاملة.تسرع بالكتابة وتضيف إلى الرصيد روايتين وتنشر مجموعتك الكاملة وأقول لك:إهدأ يا أحمد قليلا!لكنك تسرع أكثر وكأنك تعلم أن الموت يخاتلك ويترصدك!
كتبنا يا أحمد فى بلاد الكتابة فيها ذرو ريح!
بلاد لم تر مانراه ولم تصغى لنا وعاملتنا كغرباء متطفلين على سيادتها.بلاد ترى حرثنا البحر والرمل,لا تعلم أجيالها رصيدنا ولا حروفنا ولا ذاكرتنا التى إختزنت المكان والناس والحب وبدايات الأحلام.كل ذلك الشعر ,كل ذلك النثر,كل تلك الرؤى,كل ذلك الشوق والتوق لبلاد لم تقرأه بعد!


حلقت يا أحمد باحثا عن الحياة والشعر والأصدقاء والتجوال إلى المغرب تارة ولبنان تارة أخرى فمصر وثايلاند وبلاد كثيرة ذهبت إليها بوريقاتك وأقلامك وقصائدك وعدت إلى المكان الأول,وكان يضيق ويتسع لمزيد من الغرباء.يمحو العربية ويستعين بأبناء العالم الجديد,محولا,أمثالنا إلى ديكور مناسبانت منسى.وكنت تراقب يا أحمد وقد صار تعبك أكثر وكذلك تأملك.
وحيدا كنت يا أحمد,فقد إنفرط العقد منذ زمن طويل.أتذكر كم كنت تحب الماغوط,وسركون بولص,وعلى عبدالله خليفة,ومظفر النواب,وبورخس,ويوسف خليل.
أتذكر كيف كنا ندعوك الطفل المعجزة,وأول أمسياتك الشعرية وأنا معك فى النادى السياحى عام 1981.أتذكر أمك وأبيك يطرقان باب بيتى فى الشارقة بحثا عنك وقد غادرتهم فى خورفكان,فأذهب للبحث عنك وأجلبك لهما فى الشارقة.أتذكر مكتبتى التى سطوت على نصفها وأنت تلتهم الكتب والشعر فى سنوات التكوين.أتذكر رفقتك المبدعة مع كثيرين تساقطوا من حياتك كورق الخريف وبقى منهم الفنان حسن شريف الذى رأيته بعد ربع قرن عبرك منذ عام تقريبا.
رايت يا أحمد إضمحلال من ظننا أنهم كبار فتحولوا إلى خرق باهتة رغم تلميعها.كنت أتسامح معهم غير أنك إزدريتهم حتى النفس الأخير,ويستحقون!لم يعودوا رفاقا بل ذكرى ذلك وتدنت نفوسهم فيما تعاظمت أسماءهم!
إعتدت الوداعات المتأخرة يا أحمد والتى تأتى بعد فجأة وذهول الغياب.هكذا ودعت أعز أصدقائى فى السنوات الأخيرة وعلى التوالى:محمد الحسينى وثريا نافع وأحمد إسماعيل وأم صفاء والجميل إبراهيم أصلان وقبله عدلى رزق الله وكثر غيرهم.أما أنت يا أحمد رفيق البدايات فقد أملت النفس أن تكون هناك بعد أعوام الشتات الطويلة لتؤنس عودة حرضتنى عليها وتكاد تكون الصديق الوحيد من رائحة ذلك الزمان وها أنا أراك أرتحلت ولم تطق صبرا!
ماذا أراد جيلنا يا أحمد؟وماذا ترك؟على غيرنا أن يكتشف ذلك أما نحن فقد أنجزنا شىء مما نريد.
فلترقد بسلام فى قبرك,فى تراب وطنك ,وقريبا من ضلوع أمك وأبيك وأجدادك فنحن ندرك أن ما كان تحت الثرى كان دائما لنا,رغم كل ذلك الذى أخذوه منا فوق الثرى.

20-2-2012
القاهرة

عشرة عمر مع الكتاب

كتبتها ظبية خميس

للشاعر والباحث أحمد راشد ثاني مع الكتاب حكايا طويلة، تبدأ فصولها الأولى في سكيك خورفكان، حينما صادف الولد الصغير الذي كانه أحمد راشد أول كنوز المعرفة، وسط أكوام مهملات مدرسيه العائدين في الإجازات إلى بلدانهم، وتلقى هدية عمره من أبيه الذي كان يعود من رحلاته البحرية ببعض الأسفار التراثية ويظل يقرأ فيها.
ومنذ ذلك الحين في أوائل السبعينات من القرن الماضي، عاش أحمد برفقة الكتاب، وتحولت العلاقة بينهما إلى عشرة عمر طويلة، كان أول قطافها ديواناً شعرياً لشاب لم يكمل الـ20 من عمره، وتوالى حصاد الرحلة ليصل إلى أكثر من 16 كتاباً، مرشحة للمزيد في الأشهر المقبلة، منوعة بين الشعر والسرديات والدراسات المعنية بالتراث الشفاهي الإماراتي.
ويرى راشد ثاني أن الكتاب يعد أحد ملامح حياته اليومية منذ فترة طويلة، إذ يصاحبه كقارئ أولاً، ثم كمهموم بإيصاله إلى سواه ثانياً وكاشفاً عن نفائسه عبر عمله في عدد من المكتبات في إمارات الدولة، فقد أسس مع رفاق له مكتبة خورفكان، ثم مكتبة كلباء، وعمل في مكتبة الشارقة المركزية، ثم المجمع الثقافي في أبوظبي، لتستقر به الرحلة حالياً في دار الكتب الوطنية.
عن البدايات
ويروي راشد ثاني لـ«الإمارات اليوم» بداياته مع الكتاب وهو لم يكمل الـعاشرة في فريج خورفكان القرية المدينة، قائلاً «كان المدرسون عندما يهمون بالعودة إلى أوطانهم لقضاء الإجازة، أو انتهاء عقودهم ،يرمون في زبالة العودة الصحف والمجلات والكتب التي لا يستطيعون حملها معهم، كانوا يرمونها هكذا ببساطة، أما أنا فكنت أسبح في تلك الزبالة، جامعاً كل ما توافر لي من تلك الأوراق، وعائداً بها ركضاً إلى البيت أكدسها». وتكون تلك الأكوام من الأوراق التي جمعها الصبي في حوش بيته مؤنسه في محبسه، خصوصاً عندما كان أهله يحرمونه من الخروج خوفاً عليه، إذ فقدت الأسرة ولداً قبله وآخر بعده «هناك حين كنت ذلك وتحت الشريشة (شجرة) غالبا، تعرفت إلى أفضل إدمان أصبت به على الإطلاق وتمرنت على أفضل موهبة، أفضل قدرة، أفضل ما تعلمته في الحياة: قراءة الكتب، التفكير مع القراءة، الحياة في القراءة، والموت أيضاً».
وكما أتى بحر خورفكان بأمواج أساطير ترسخت في وجدان أحمد راشد ثاني، منحته ذلك أيضا بعض الكتب التي جلبها والده ـ من بومباي تحديداً ـ خلال أسفاره المتعددة، ومن أهمها «سيرة عنترة» في نسختها الشعبية، وٍ«فتوح الشام» للواقدي و«رياض الصالحين» و«تنبيه الغافلين والرحمة في الطب والحكمة» وغيرها. ويقول « كان أبي يقرأ كثيراً ويتهجد. ويرفع صوته منشداً الأدعية. هذا عدا عن تلاوته القرآن».
ومازال المبدع الإماراتي يحتفظ ببعض تلك الكتب التي جمعها من مهملات مدرسيه، إضافة إلى الفرائد ـ على حد تعبيره ـ التي ورثها عن والده، لاسيما «سيرة عنترة» التي صور نسخاً منها لبعض المكتبات في الدولة، ومخطوطة أدعية، وديوان الشاعر اليمني المتصوف عبدالرحيم البرعي الذي كان يحتفظ به والده من أجل ترديده في حفلات الموالد.
ويقرأ راشد ثاني ديوان البرعي، ويتعلق بسحر أشعاره، خصوصاً بعدما عاين وقعها على والده وأصحابه في حلقات الذكر، وكان ينشد تلك الأشعار للنساء اللاتي يجتمعن عند أمه في بعض الأماسي، يفصل ذلك قائلاً «قرأت ببطء في الديوان، وسمعت ورأيت أبي وغيره يتمايلون على وقع هذه الأناشيد، مطلقين بين الفقرات صرخات لا تصدر إلا عن روح مشقوقة، وكنت أتلوه وأتدرب على مسرحته بيني وبين نفسي، إذ اكتشفت أن للتدريب نتائج، وكثيراً ما كانت تجتمع النسوة عند أمي وكنت أقرأ لهن، فيبكين بمرارة، كنت أتلذذ بالبكاء المنهمر في أثناء إنشادي، وكأنه نوع من التشجيع والإعجاب».
بين الأول والجديد
كان أول إصدار للشاعر ديوانه «سبع قصائد من أحمد راشد ثاني إلى أمه التي لا تعرفه» عام ،1981 ويعتبره صاحبه تجربة عامية متقدمة عن كثير مما يقدم حالياً في العامية الحديثة. وقال «لا أحكي ذلك ترويجاً لتجربتي الأولى التي أقدرها بكل ما فيها، لكنني أرى في بعض الأشعار المطروحة حالياً دليلاً على التراجع، والارتداد الثقافي لدى بعض المبدعين»، مشيراً إلى أن التجربة العامية الإماراتية القديمة تميزت بحداثة أكثر مما يطرح حالياً، مدللاً بشكل خاص على نضوج التجربة القديمة بقصائد الشاعر راشد الخضر الذي وصفه بـ«الشاعر العظيم».
وتوهجت بعد «سبع قصائد» وجوه راشد ثاني المتعددة، ليطل على قرائه بصور شتى، فبعد الشعر العامي، تتوالى مؤلفاته في أكثر من مجال، فمن دواوين لشعر التفعيلة إلى قصيدة النثر، مروراً بنصوص مسرحية ومقالات ودراسات وبحوث مشغولة بلملمة التراث الإماراتي، وصولاً إلى أحدث كتبه «على الباب موجة» الذي صدر العام الجاري. وكشف أحمد راشد ثاني عن أنه يعمل في الفترة الحالية على مجموعة من السرديات، تنتقل بين أكثر من عالم، يجمع بينها الهم اليومي وتفاصيل الحياة البسيطة بكل ما فيها، موضحا أن «على الباب موجة» يُعد مفتتحاً تتتابع فصوله في أعمال مقبلة.

حكاء

يضم كتاب «على الباب موجة» نصوصاً سردية، يرتحل فيها أحمد راشد آل ثاني إلى أبعد من أمواج الصبا على الساحل الشرقي، راسماً بخيال حر عالماً خاصاً، يجمع بين «ظلام الطفولة ونورها» وخشونة الواقع مغزولة ببراءة المكان، ويروي راشد ثاني في كتابه ذكرياته في خورفكان، عن الولد الذي كان «يتسكع مع البحر والجبل»، وعلى الرغم من البحر الملامس لشرفة بيته، لم يتعلم السباحة. وعن الصبي الذي كما قرأ الكتب، تأمل طويلاً في مفردات المكان، لتنقش في روحه، وتفتح مسالك ودروباً خاصة في وجدانه.
وتُعرّف موجات الكتاب الست «المعترض، المديفي، باب الجبل، باب البحر، غربان وملائكة وأفلام، وفي ذمة النسيان»، القارئ أكثر بأحمد راشد ثاني، وتقوده إلى حكاء مرهف، يسرد بشاعرية مرهفة، ويروي تجربة حية، قاسى فيها صاحبها واستمتع، من دون ادعاء، أو محاولة لإخفاء تفاصيل قد يخاف مبدعون كثيرون التحرج من التطرق إليها، بينما يحكيها راشد ثاني بجسارة مبدع حقيقي.
يقول راشد ثاني في «على الباب موجة» عن دراجة أرسلها له والده «هدية من أبي لي.. دراجة انطلقت بها.. تنقلب علي وأنقلب عليها في دروب الحي المتربة، دراجة هدية من أبي الغائب الذي تذكرني، والتي جعلتني مميزاً لأول مرة في حياتي، مميزاً عني وعن أطفال الحي، أطفال الغبار أقراني مرتفعاً عنهم بدراجة.
دراجة جعلت من لم يكن يتودد لي يتودد. وتركب البنات أمامي، فتشتعل انعطافات السكيك في عيني ويركبن خلفي ويحضنني أحضاناً كنت أبحث عنها، يحضنني خشية من السقوط، أما أنا فأنطلق.. إذاً ما أجمل السقوط، ما أروعه بين أحضان البنات».

نتاج

«سبع قصائد من أحمد راشد ثاني إلى أمه التي لا تعرفه» عام .1981
«أغاني البحر والعشق والنخيل» إعداد، .1982
«دم الشمعة» شعر .1991
«يالماكل خنيزي ويا الخارف ذهب» شعر عامي، .1996
«قفص مدغشقر» نص مسرحي .1996
«ابن ظاهر» بحث توثيقي .1999
«خافة الغرف» شعر، .1999
«العب وقول الستر» نص مسرحي، .2002
حصاة الصبر، إعداد، .2002
«دردميس» إعداد، .2003
«جلوس الصباح على البحر» شعر، .2003
«إلا جمل حمدان في الظل بارك» إعداد، .2005
«يأتي الليل ويأخذني»، شعر، .2007
«رحلة إلى الصير»، بحث، .2007
«أرض الفجر الحائرة»، مقالات، .2009
«على البحر موجة»، نصوص، .2009


http://dhabiya.maktoobblog.com/

لسانُ البئر المقطوعُ
أنتَ أنا الذي لم يعبرْ
الذي ظلَّ غريقاً في الطُّوفان
الذي ظلَّ أنينا، وظلاً
على شفةِ البحر•
أنت الذي لم يتكوَّر كصخرةٍ
لم يُنلْ كقِطاف السرقةِ
لم يقفْ كحائطِ المنتهى
لم يحتطْ كبئرٍ في جحرٍ
لم يُحوِّل النجمةَ إلى مخدّةٍ
ولا النبعَ إلى صنبورٍ
لم يرحلْ
لم يعدْ بالرحلةِ
لم يعدْ والرحلة
على ركبتَيهِ
تنثرُ رُمَّانَ المجهولِ،
وتقرأُ الرملَ بالأجفان•
لم يعدْ بالثلج ويضعه
كالقميصِ على الصحراءِ،
وبالصحراءِ التي جَالَسَها
على مائدةِ المنفى
وشربَ معها اليأسَ•
لم يعدْ
كذلك،
لم يعدْ يشربُ
من فمِ الغابةِ،
ولا يأكلُ من وليمة العصفور•
الأنثى كَسَرتْ سُرّتَهُ،
وأَرَاقتْ فَمَهُ•
قام عليه الماءُ، والرملُ
الذي يشربُ الماءَ•
قام عليه المشهدُ،
وإبرةُ العين
باعدتِ السماءُ بين نجومِهَا
على رأسِهِ،
وتحطَّمَ البحرُ
الأمواجُ التي على الشاطئ
من شظايا حطامِهِ،
الرَّمُل الذي بنتْ الحسناءُ
خيولَ أحلامِها ، منهُ
من بقايا دَمِهِ،
وأقواسِ غيابِه•
أغاني القواقعَ،
وطيورُ الجزيرةِ،
ولسانُ البئرِ المقطوع

الامبراطور

* * *

أحمد ، يأتي الليل ويأخذه
رحيل الشاعر الإماراتي أحمد راشد ثاني

إيناس محيسن - أبوظبي

أحمد راشد ثانيالشاعر الراحل.
توفي الشاعر الإماراتي أحمد راشد ثاني، ظهر اليوم، في أبوظبي عن عمر يناهز الخمسين عاماً، بعد صراع طويل مع المرض، تاركاً في قلوب محبيه وأصدقائه صدى ضحكته البشوشة المليئة بالأمل والحياة، والتي كانت سلاحه الوحيد في مواجهة ما يعاني منه من آلام.
وأصدر اتحاد كتاب وأدباء الإمارات بياناً نعى فيه الراحل، جاء فيه: "ببالغ الحزن وعميق الأسى، ينعي اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، ابناً من أبناء الإمارات الذين حملوا لواء الريادة في مجال الأدب، وأديباً من أدباءها الذين رفعوا راية التفرد، وروائياً من رواتها الذين حازوا قصب السبق، ومبدعاً من مبدعيها الذين تشربوا حب وطنهم فأخلصوا له، وحملوه بين حنايا قلوبهم، وتلافيف عقولهم، الأديب الإنسان، أحمد راشد ثاني، رحمه الله وجعل الجنة مثواه، الذي وافته المنية إثر مرض لم يمهله.
وأضاف البيان، "يعبر رئيس وأعضاء مجلس إدارة اتحاد كتاب وأدباء الإمارات عن خسارة الاتحاد، وخسارة الإمارات لواحد من مؤسسي اتحاد الكتاب الذين أعطوا الكثير، ولم يطلبوا شيئاً، بل ولم ينتظروا شيئاً، وكان من السباقين في السعي نحو رفع راية وطنه في مجالات الأدب والرواية والمسرحية والشعر، وكان شغوفاً بالتجريب والتحديث والإبداع وصولاً إلى ما يحقق طموحه نحو وطنه وأدب هذا الوطن. لقد كان أحمد راشد ثاني، رحمه الله، أنموذجاً للأديب الصادق مع نفسه، واحتفظ لنفسه بمكانة فريدة بين أقرانه، واشتغل على مشروعه الثقافي بقدر ما أوتي من جهد، وبكل ما أعطي من موهبة، الأمر الذي سيجعلنا نذكره بالخير ونترحم عليه دائماً. وإن اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، وهو يدرك حجم خسارته، وخسارة الساحة الثقافية في الدولة بفقد هذا الأديب المتميز ليؤمن في الوقت نفسه بقضاء الله، ويسلم بحكمته، وبأن كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام. فللفقيد الرحمة، ولأسرته وأحبته ولكتاب وأدباء الإمارات كافة الصبر والسلوان. إنا لله وإنا إليه راجعون".
من جانبها، نعت هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، وأكاديمية الشعر في أبوظبي، الشاعر الراحل في بيان عبرت فيه عن بالغ الأسى والحزن والتسليم لقضاء الله تعالى وقدره. مشيرة إلى مسيرته التي قدم خلالها العديد من الأعمال الشعرية وأجريت على أشعاره العديد من الدراسات النقدية، كما نشرت أشعاره في عدة صحف ومجلات إماراتية وعربية، وشارك في محافل ومهرجانات شعرية وأدبية عربية وعالمية.
ويعد الشاعر أحمد راشد ثاني أحد أبرز الشعراء المجددين على الساحة الشعرية في الامارات، وهو أيضاً باحث له العديد من البحوث في التراث المحلي والنصوص المسرحية.
أحمد راشد ثاني شاعر إماراتي ولد في خور فكان عام 1963 وبدأ كتابة الشعر في أواخر السبعينات.
في عام 1981 نشر أحمد مجموعة شعرية بالعامية ثم أعاد نشرها في التسعينات مضيفا إليها قصائد جديدة تحت اسم " O! You Eat Dates… You Collect Gold." (أيا من يأكل التمر ... أنت تجمع الذهب). وتبع ذلك دواوين أخرى منها " Drowning Verge" (الانحدار الغارق) و" Morning Sits Next to Sea" (جلسات الصباح بجانب البحر) و" Then Night Comes And Takes Me" (ثم أتى الليل وأخذني).
نشرت قصائد أحمد في الصحف والمجلات العربية والمحلية وترجمت إلى الفرنسية والألمانية. وشارك أحمد في العديد من الاحتفاليات والمهرجانات الشعرية في الإمارات والعالم العربي.

الامارات اليوم
20 فبراير 2012

* * *

في مجموعته "مقعد الرمل":
أحمد راشد ثاني يداري الألم عن الشمس

إبراهيم اليوسف

أحمد راشد ثانييمكن النظر إلى مجموعة “مقعد الرمل” وهي عبارة عن مختارات من نصوص الشاعر أحمد راشد ثاني، كحصيد إبداعي، لأحد رواد قصيدة النثر الإماراتية، بالإضافة إلى أنه من رواد قصيدة التفعيلة أيضاً، وهي نصوص تتميز بأن صاحبها قطع الصلة مع نص الذاكرة البعيدة، الذي يخضع لبنية إيقاعية خاصة، وذلك من خلال التركيز على نص الذاكرة القريبة، والمستمرة، الأكثر خفوتاً وسطوة، بالرغم من غنى تموجاتها، ليكون أنموذجاً متكاملاً عن تجربة الحداثة الشعرية التي يتفاعل خلالها الشاعر مع الرؤية الجديدة للذات والعالم، في آن واحد، وإن كان سيفرد لخصوصيته كمنتمٍ لزمان ومكان محددين، ما يستوجب ذلك، من دون أن يخضع لشكل واحد، ضمن عمارة النص الجديد، بل ليبدي رغبة إيجاد أشكاله، ضمن هذه الرؤية التجديدية تحديداً .

ثمة احتفاء باد بالذات في نص الشاعر أحمد راشد ثاني، من دون أية مساومة عليها، فهي دائمة الحضور، تكاد ألا تغيب البتة، وإن كان هذا الحضور يظهر في مستويات عدة، تتدرج بين الحضور الكامل، أو الجزئي، لدرجة أنها تكاد تكون إحدى لبنات النص نفسه، والتي لا غنى عنها، يقول في نص يعنونه ب”بومة نفسي”:

أفتعل موجة كل لحظة
كي ألعب بأصابع الشاطئ
وأقيم على الرمل
قرى الشغف
أداري جفون الألم
عن عين الشمس
وأعرف ما يدور
في مخيلة الريح
ولماذا تفضل الأمواج
الانتحار
على الحياة في البحر؟
وكحبة رمل
أكمن
بانتظار الأمواج
كي أكتشف نفسي
وها هي أمواجي قادمة
من بعيد البحر
بلا حسبان

تتأسس العلاقة الشعرية اعتماداً على الذات التي تظهر من خلال الضمير المستتر في الفعل المضارع “أفتعل” “ألعب” أقيم- أداري- أعرف- أكمن- أكتشف، من دون أن تكمن بعيداً، مراقبة ما تشكله من فضاء، وذلك لأن هذه الذات تسبغ حميمية واضحة، تجعل المتلقي ينجرف في لجّة الموجة المفتعلة، باستمرار، ويمضي في اللعبة، ويبادل الشاعر الشغف المتكون، حيث ثمة عالم غرائبي يبدأ بالتشكّل، قوامه، مفردات البحر من: موج، وشاطئ ورمل، تكاد تنتمي إلى معجم واحد، تلتقطها عين الشاعر من المرئيات من حولها، بعد أن يبث الشاعر الروح في أوصالها، وتخرج من حالتها الجمادية إلى حالة أقرب إلى الأنسنة، لتكون للشمس عين،أو تكون العين كلها، بل وليكون للريح مخيلة، وهي التي لا تعرف القرار أو القرارة شأن البحر، وسلالة أمواجه .

واضح من خلال معاينة عوالم نصوص الشاعر، أنه يترجم حالة اغتراب هائلة، ينأى -ما شاء- عن المحيط، ربما لالتصاقه به، كي تكون الطبيعة في لوحتها الأكبر ملاذه الروحي الذي يولد ذلك الشغف الهائل نفسه، وليشكل المعادلة التي تربطه بهذا العالم من خلال الانجراف في اللحظة الجديدة، ليس من منظور رومانسي، بل لاعتبار الطبيعة مطهراً روحياً لا بديل عنه:

وذاك طيري
فقد سرق الريش
من قبعة الأمواج البيضاء
وارتفع مع الأنفاس
في الهواء
أرفع تحياتي للعظمة
التي ينطوي عليها طيرانه
وأفتتح له سماء عيني
كي يسبح فيها بجناحيه
سائلاً المغيب
وهو فلاح الموت
العودة كل مرة
لأفتش حقائبه عن أعشاش
فقدتها منذ الطفولة
وابتهجت بتذكرها
وكأنها لي
حتى الآن
ولا يمنعني من ركوب الشجرة
إلا حراس الجبل
وتردد الأمواج

يتنصل الشاعر من أية علاقة ترتب عليه الخضوع خارج لوحة اللحظة التي يشكلها، ولا تطفح منها رائحة أصابعه، فالطائر الذي يحلق عالياً وحده يستحوذ اهتمامه، ويدفعه ليرفع له التحية لعظمته . ذلك لأنه قادر أن يغادر عالم الرهبة والخوف، أنى شاء، كي يطهر أرياشه وبدنه الضئيل، من أية أدران قد يتعرض لها، وهو وحده قادر أن يعيد إلى الشاعر البهجة التي افتقدها، منذ افتقد أعشاش الطيور في طفولته التي يهرول إليها، لولا أن “حراس الجبل” وأمواج البحر، يمنعونه من صعود الشجر، ليعود إلى طفولته المستلبة، ويمارس براءة التواصل مع الطبيعة كما يشتهي .

لا يرد أي ذكر -للآخر- على امتداد شريط النص، لولا عبارة “حراس الجبل” الذين تتسلل رهبتهم منذ سني الطفولة الأولى، إلى الآن، كأحد القيود التي يضيق بها ذرعاً، وكانت -ولا تزال- تمنعه من التوغل في براءة العلاقة مع الطبيعة، وأطيارها، وتوق الدنو إلى الأعشاش التي تخبئها الشجرة بين أفنانها العالية، معكرين صفوه، وممارسين عليه سلطتهم، من دون ممارسة إنسانية بالشكل الذي يريد .

وإذا كانت الغربة ثيمة مهمة، لا يفتأ الشاعر التعبير عنها، وظلت تدفعه إلى أماكن موحشة، بعيداً عن أشكال الخوف، يجد فيها بهجة لروحه الظامئة، وليفرد مع مفردات عالمه الجديد، فإنه ليظل دائم القلق، وهو يطلق أسئلته التي تظل من دون إجابة عنها:

فتشت الكتب
والقلوب
وذاقت أقدامي
نبيذ الخطوات الواسعة
لم أجد ذنوباً كافية
لاستردادك من الجحيم
ولا أحذية تليق بعمرك
ومن يومها وأنا خارق في الجبال
أتدحرج من بئر إلى بئر
مكشوفاً للعراء السفلي
أخرق صاعقة بلساني
بينما تكسو أفكاري
غبرة الحرائق المجهضة

إذا كانت ذات الشاعر لما تزل حاضرة في نصه، وأن المتلقي -هنا- أمام شخص آخر، مخاطب، يبقى مجهول الهوية، لا إحالة إليه البتة، إلا أن الاسترسال في قراءة النص، يبين أن المخاطب هو الشاعر نفسه، مادام أن ذلك الآخر لا مجال لإعادته من الجحيم الذي يأسره، كما هو حال المتكلم نفسه، الذي “يتدحرج من بئر إلى بئر مكشوفاً للعراء السفلي”، كي يعود إلى عالم الطبيعة الذي وجده أكثر أماناً، وإن كانت “أفكارها مجهضة الحرائق، يكسوها الغبار” .

ولعل نص “في كل صباح” والذي تستمر فيه الذات بحضورها اللافت، يصلح ليكون صورة عن عوالم الناص، حيث تصل الغربة الذروة، وتنشطر الروح إلى قسمين، لكي تكون الكتابة مطهراً لا بد منه -كما الطبيعة- وإن كان الصراخ يرتد من دون أن يحظى باهتمام أحد حتى الجماد نفسه:

أستلقي
وأنا الجسد
المدينة
زهرة
ولا أشك أنني أخون
أراني
وأرى خلفي يتبعني
أطويه على رأسي
وأئمّ الحجرة لتصليلي
كي أكتب
من مثلي يطلق صراخه
في الآبار
ولا تسمعه حتى الصحراء
من مثلي يغرق وجوهه
في مستنقعات الورق
كي ينسج أرواحاً خالصة
للعشب
بوركت أنا
يتجول بي خلفي
كي أطعنه في كل صباح
بأمل

ثمّة رؤية مكتملة في هذا النص لدرجة أنه يكاد يكون “مانيفستو” الشاعر، الذي يعرب عن أوج الألم الذي قد تبلغه الروح الشاعرة، وهل هناك ألم ووجع من حالة التشظّي الإنساني التي تتم كنتيجة لتردي علاقة الذات بالمحيط، والذي يكاد ألا يكون له من أثر، إلا بما يتركه من ظلال الخوف، وها هو الشاعر يتحدث مؤكداً أنه لا يزال يقود دفّة لحظته، وهو في موقع يخوله أن يحدد معالمه -تماماً- وأن يبصر أين هو الآن “أراني/ وأراني خلفي يتبعني” فهو لم يقل ظلي يتبعني، بل أكد أن “خلفه” يتبعه، إذاً ثمة فصل بين “خلفه/وأمامه”، والأكثر من ذلك، أنه يطوي خلفه هذا على رأسه، كي “يكتب” ويجد في عالم الكتابة إمكاناً لإطلاق صراخه، والصراخ عنده العلامة الفارقة بينه وسواه: “من مثلي يطلق صراخه/في الآبار” إلا أن هذا الصراخ لا يبدو مجدياً، حيث لا يستحوذ على لفت انتباه أحد، لدرجة أن الصحراء من حوله، لا تكترث به .

نحن هنا، أمام كائن مختلف، كائن يترجم حرائق روحه كتابة، وهي مقاربة واضحة من عالم الشاعر، أيّاً كان، وإن كان تشظيه في هذه اللحظة يبدو أكثر، لأنه ذو “وجوه” وليس ذا وجه واحد، وإنه يغرق هذه الوجوه في “مستنقعات الورق” وهو مدرك ما يفعله هنا، لأن علاقته مع الورق ليست بدافع هدر الوقت، والهروب الخالص، بل ل”كي ينسج أرواحاً خالصة/ للعشب” إنه معني ب”روح العشب” الذي يحضر من خلال تعاطيه الكتابة والغرق في عالم الورق .

وإزاء كل هذا الانشطار، لا يجد الراوي/الناص من يشيد به سوى نفسه، مادام أنه يترجم ألمه كله، من خلال بثّ الروح في العشب، وإن كانت هناك “عطالة” في التعامل مع الطبيعة نفسها، وهو يجد نفسه منقاداً من قبل خلفه، لا من قبل أمامه، فهو موزع بين عالمين: “الخلف/ الأمام” ولا ينسى أن يطعن خلفه الذي يجول به، في كل صباح بالأمل، الذي يبدو جرعة ترياقية، تجعله محافظاً على ذاته المتعددة المتوزعة، وممنياً نفسه بثمار المشتهى التي تظل غير محددة، ما دامت كلمة “أمل” مفتوحة على لا نهاياتها، وهذا ما يجعل هذا الأمل أكثر جدوى، مادام أنه لم يحدد، ولم يبتسر .

إن حالة الانشطار التي يعبر عنها، تظهر في أكثر من نص، وكأنه يتتبعها بكاميرا سينمائية، لأن الخلف الذي كان يجول به في أحد نصوصه، سرعان ما يتركه وشأنه، كي يضطر للجلوس على مقاعد عربات مستقبل لا يثق به:

انقفل ورائي
وغدوت جالساً في المستقبل
كمن ينتظر قطاراً
في هذه الصحراء
كمن ينتظر مطراً
في هذا القبر

يظهر المكان بمعناه الفني، في أكثر من نص، وهو يقدّم نفسه تارة عن طريق الاسم المكاني الذي يحيل إليه، من دون إيغال في جغرافيته، أو عن طريق تحري بعض ملامحه، وهو ما يتجلى بأكثر في نص “بعد كأس” كمثال فحسب، إذ يكاد يكون نص المكان، وهو ينشر رائحته، ويرسم حدوده على طريقته:

“الآن أنزل إلى الاستقبال
وأمحو الفندق
نزلت
لم أجد الشارع ولم أنتظر
تعلقت بطرف غيمة
حملتني إلى “الخان”
وهناك على الأمواج رمتني
قلت للأمواج:
يا أمواج لا تخافي
تقدمي واحمليني حتى “شارع العروبة” فحسب
إذ من هناك بإمكاني المناداة على جبال “خورفكان”
فتهب لملاقاتي
خذي قدمي عند جبلك المقدس
تتكاثر الدروب في دمي
خذي دمي في أفلاك غوايتك
فلا أصيب إلا الفراغ” .

ولكنني اكتشفت أن الجبال لا تنتظر أحداً، وأن الأمواج قد فرت هاربة . ثمة سوداوية هائلة تكتنف عوالم نصوص الشاعرة بالرغم من أنها تنتمي إلى فترات زمنية تكاد تكون متباعدة، ضمن الشريط الزمني لتجربته مع الكتابة، وهو تماماً ما يدعوه لتشويه الزمن في منظوره، بعد أن يخسر الرهان على دورته:

“أدعو الماضي
إلى الجلوس إلى الطاولة
وأنصح المستقبل
بالهروب
النهار ميت في نظري
وها أنا أدفنه
في الكأس” .

كل هذا ما يفقده الثقة بالجسد الذي يحتفي به، ويظهرأكثر من مرة:

“ الرائحة العفنة
للأحذية
دائماً تذكرني بمصيري” .

ويدعوه إلى “فرار/ وافر الوحشة”، وأن يفتقد الثقة بما يمكن أن يعول عليه، لأن “الحياة فكرة تعيسة/خطرت في ذهني”، وأن هناك “بصيص الألم”، لا الألم، بل تحتد لحظة اليأس إلى أن يقول “هذا أنا قبر قادم من الحياة”، “هذا أنا لامع/كخاتم في يد الفقدان”، وإن كان لا يكف عن أن يلهج بالتدخل، كي يتم استخدام بعض من البترول، لإنقاذ مركبته التي تغرق .

اذهبوا بقليل من هذا البترول/ إلى تلك السفينة/ واخرجوها من هذا الإسفلت/ دمي على الإسفلت/ يطارد الهواء/ دمي الميت/دمي الميت/ على الإسفلت/ يطارد الهواء الميت .

ويكاد الشاعر يخرج على مسار الجملة الشعرية، وهو يجسد تناول مدى حالة القهر التي تنتابه، لولا أنه يستدرك ذلك في ما بعد:

“مقهورون إلى الدرجة
التي نضع فيها اللذة
لذتنا
في جرار النسيان
كي تتعتق
مع السنين” .

تنتمي النصوص جميعها، إلى قصيدة النثر، وإن كانت تتوزع بين ما هو رؤيوي وشفهي، إلى جانب اعتماد تقنية التقطيع السينمائي في بعض منها . كما أن المفردات التي يتم استخدامها، هي الكلمات البسيطة التي تقطع أية صلة لها بضروب الإيقاع الخارجي، كذلك فإن الشاعر يتحرّر من أسر الهيمنة النمطية للجملة، إذ ينوع جملته بين ما هو اسمي منها، وما هو فعلي، معتمداً في بعض الأحايين على شبه الجملة، لاجئاً إلى الاستفهام الاستنكاري أنى تطلب ذلك، ولا سيما حين احتدام لحظة الألم واليأس .

وتعج النصوص بمفردات الطبيعة والحيوان، وذلك على حساب الأنسنة المرجوة التي يستعاض عنها بوساطة الضمير المتكلم، في صيغة الجماعة “نا” وهو ما يجعل نصوص الشاعر تشكل معجماً لهذه العوالم التي تقطع اتصالها بالآخر، إلا في ما ندر، ومن هذه المفردات: الرمل- الصحراء- المطر- الأرض- الكون- الشجرة- الهواء- الماء- النجم- الجبل- الموج- الشمس- الكون- الوديان- الغيم- الطحلب- المستنقع (وهذه المفردة الأخيرة تكاد تحتل مكانة الأولوية لتكرارها) العشب- الليل- النهار- ناهيك عن تكرار مفردات أخرى: الطير- النورس- بل الأفعى- العقرب، وتكاد كلمة المرآة تحتل الأولوية في تكرارها عموماً، وترد في سياقات عدة، بل إنها وردت ثلاث مرات في نص واحد لا يتجاوز عدد مفرداته الخمسين كلمة .

يميل النص، عادة، إلى ألا تكون هناك دهشة مركزية، في أحد مواقعه، ولاسيما في موقع النهاية التي يتم التركيز عليها من قبل بعضهم، كي تتوزع هذه الدهشة لديه النص، بكامله، وإن كانت بعض النصوص الشفهية لديه، تنصرف إلى الاحتفاء بالخاتمة، وشحنها بما أمكن من دهشة:

وحيدان على السرير ماذا بإمكانهما أن يفعلا
طوال الليل
وحيدان على السرير
فتى
وفتات

لأن الفتى يبدو على ضوء رسم مفردة “فتات” وحيداً مع فتات ما، من دون أن يتم تحديده، إلا أنه بقايا المشتهى والمرغوب فيه أياً كان . أجل، إن الدهشة تظهر في إهابها الطبيعي، في مواقع مختلفة من النص:

الليل أخي بالرضاعة
والغيمة موعدي مع الصدف

وبالرغم من أن النصوص تكاد بمجملها تكون مضغوطة، مكثفة، إلا أن هناك -في المقابل- نصوصاً مكتوبة بأقل ما يمكن من مفردات:

للأصابع ذاكرة وبصيرة
كلما تذكر أصبع سميناه
أعمى
أيها المجنون خذ رملاً كافياً
كي تبني السماء
أجلس البئر على جانبي وأعد الشاي للوقت

الخليج
05/02/2011

* * *

أحمد راشد ثاني.. عِشرة عمر مع الكتاب

أحمد راشد ثانيأحمد راشد ثاني: الكتاب مفردة يومية في حياتي. أرشيفية
للشاعر والباحث أحمد راشد ثاني مع الكتاب حكايا طويلة، تبدأ فصولها الأولى في سكيك خورفكان، حينما صادف الولد الصغير الذي كانه أحمد راشد أول كنوز المعرفة، وسط أكوام مهملات مدرسيه العائدين في الإجازات إلى بلدانهم، وتلقى هدية عمره من أبيه الذي كان يعود من رحلاته البحرية ببعض الأسفار التراثية ويظل يقرأ فيها.

ومنذ ذلك الحين في أوائل السبعينات من القرن الماضي، عاش أحمد برفقة الكتاب، وتحولت العلاقة بينهما إلى عشرة عمر طويلة، كان أول قطافها ديواناً شعرياً لشاب لم يكمل الـ20 من عمره، وتوالى حصاد الرحلة ليصل إلى أكثر من 16 كتاباً، مرشحة للمزيد في الأشهر المقبلة، منوعة بين الشعر والسرديات والدراسات المعنية بالتراث الشفاهي الإماراتي.

ويرى راشد ثاني أن الكتاب يعد أحد ملامح حياته اليومية منذ فترة طويلة، إذ يصاحبه كقارئ أولاً، ثم كمهموم بإيصاله إلى سواه ثانياً وكاشفاً عن نفائسه عبر عمله في عدد من المكتبات في إمارات الدولة، فقد أسس مع رفاق له مكتبة خورفكان، ثم مكتبة كلباء، وعمل في مكتبة الشارقة المركزية، ثم المجمع الثقافي في أبوظبي، لتستقر به الرحلة حالياً في دار الكتب الوطنية.

عن البدايات

ويروي راشد ثاني لـ«الإمارات اليوم» بداياته مع الكتاب وهو لم يكمل الـعاشرة في فريج خورفكان القرية المدينة، قائلاً «كان المدرسون عندما يهمون بالعودة إلى أوطانهم لقضاء الإجازة، أو انتهاء عقودهم ،يرمون في زبالة العودة الصحف والمجلات والكتب التي لا يستطيعون حملها معهم، كانوا يرمونها هكذا ببساطة، أما أنا فكنت أسبح في تلك الزبالة، جامعاً كل ما توافر لي من تلك الأوراق، وعائداً بها ركضاً إلى البيت أكدسها». وتكون تلك الأكوام من الأوراق التي جمعها الصبي في حوش بيته مؤنسه في محبسه، خصوصاً عندما كان أهله يحرمونه من الخروج خوفاً عليه، إذ فقدت الأسرة ولداً قبله وآخر بعده «هناك حين كنت ذلك وتحت الشريشة (شجرة) غالبا، تعرفت إلى أفضل إدمان أصبت به على الإطلاق وتمرنت على أفضل موهبة، أفضل قدرة، أفضل ما تعلمته في الحياة: قراءة الكتب، التفكير مع القراءة، الحياة في القراءة، والموت أيضاً».

وكما أتى بحر خورفكان بأمواج أساطير ترسخت في وجدان أحمد راشد ثاني، منحته ذلك أيضا بعض الكتب التي جلبها والده ـ من بومباي تحديداً ـ خلال أسفاره المتعددة، ومن أهمها «سيرة عنترة» في نسختها الشعبية، وٍ«فتوح الشام» للواقدي و«رياض الصالحين» و«تنبيه الغافلين والرحمة في الطب والحكمة» وغيرها. ويقول « كان أبي يقرأ كثيراً ويتهجد. ويرفع صوته منشداً الأدعية. هذا عدا عن تلاوته القرآن».

ومازال المبدع الإماراتي يحتفظ ببعض تلك الكتب التي جمعها من مهملات مدرسيه، إضافة إلى الفرائد ـ على حد تعبيره ـ التي ورثها عن والده، لاسيما «سيرة عنترة» التي صور نسخاً منها لبعض المكتبات في الدولة، ومخطوطة أدعية، وديوان الشاعر اليمني المتصوف عبدالرحيم البرعي الذي كان يحتفظ به والده من أجل ترديده في حفلات الموالد.

ويقرأ راشد ثاني ديوان البرعي، ويتعلق بسحر أشعاره، خصوصاً بعدما عاين وقعها على والده وأصحابه في حلقات الذكر، وكان ينشد تلك الأشعار للنساء اللاتي يجتمعن عند أمه في بعض الأماسي، يفصل ذلك قائلاً «قرأت ببطء في الديوان، وسمعت ورأيت أبي وغيره يتمايلون على وقع هذه الأناشيد، مطلقين بين الفقرات صرخات لا تصدر إلا عن روح مشقوقة، وكنت أتلوه وأتدرب على مسرحته بيني وبين نفسي، إذ اكتشفت أن للتدريب نتائج، وكثيراً ما كانت تجتمع النسوة عند أمي وكنت أقرأ لهن، فيبكين بمرارة، كنت أتلذذ بالبكاء المنهمر في أثناء إنشادي، وكأنه نوع من التشجيع والإعجاب».

بين الأول والجديد

أحمد راشد ثانيكان أول إصدار للشاعر ديوانه «سبع قصائد من أحمد راشد ثاني إلى أمه التي لا تعرفه» عام ،1981 ويعتبره صاحبه تجربة عامية متقدمة عن كثير مما يقدم حالياً في العامية الحديثة. وقال «لا أحكي ذلك ترويجاً لتجربتي الأولى التي أقدرها بكل ما فيها، لكنني أرى في بعض الأشعار المطروحة حالياً دليلاً على التراجع، والارتداد الثقافي لدى بعض المبدعين»، مشيراً إلى أن التجربة العامية الإماراتية القديمة تميزت بحداثة أكثر مما يطرح حالياً، مدللاً بشكل خاص على نضوج التجربة القديمة بقصائد الشاعر راشد الخضر الذي وصفه بـ«الشاعر العظيم».

وتوهجت بعد «سبع قصائد» وجوه راشد ثاني المتعددة، ليطل على قرائه بصور شتى، فبعد الشعر العامي، تتوالى مؤلفاته في أكثر من مجال، فمن دواوين لشعر التفعيلة إلى قصيدة النثر، مروراً بنصوص مسرحية ومقالات ودراسات وبحوث مشغولة بلملمة التراث الإماراتي، وصولاً إلى أحدث كتبه «على الباب موجة» الذي صدر العام الجاري. وكشف أحمد راشد ثاني عن أنه يعمل في الفترة الحالية على مجموعة من السرديات، تنتقل بين أكثر من عالم، يجمع بينها الهم اليومي وتفاصيل الحياة البسيطة بكل ما فيها، موضحا أن «على الباب موجة» يُعد مفتتحاً تتتابع فصوله في أعمال مقبلة.

حكاء

يضم كتاب «على الباب موجة» نصوصاً سردية، يرتحل فيها أحمد راشد آل ثاني إلى أبعد من أمواج الصبا على الساحل الشرقي، راسماً بخيال حر عالماً خاصاً، يجمع بين «ظلام الطفولة ونورها» وخشونة الواقع مغزولة ببراءة المكان، ويروي راشد ثاني في كتابه ذكرياته في خورفكان، عن الولد الذي كان «يتسكع مع البحر والجبل»، وعلى الرغم من البحر الملامس لشرفة بيته، لم يتعلم السباحة. وعن الصبي الذي كما قرأ الكتب، تأمل طويلاً في مفردات المكان، لتنقش في روحه، وتفتح مسالك ودروباً خاصة في وجدانه.

وتُعرّف موجات الكتاب الست «المعترض، المديفي، باب الجبل، باب البحر، غربان وملائكة وأفلام، وفي ذمة النسيان»، القارئ أكثر بأحمد راشد ثاني، وتقوده إلى حكاء مرهف، يسرد بشاعرية مرهفة، ويروي تجربة حية، قاسى فيها صاحبها واستمتع، من دون ادعاء، أو محاولة لإخفاء تفاصيل قد يخاف مبدعون كثيرون التحرج من التطرق إليها، بينما يحكيها راشد ثاني بجسارة مبدع حقيقي.

يقول راشد ثاني في «على الباب موجة» عن دراجة أرسلها له والده «هدية من أبي لي.. دراجة انطلقت بها.. تنقلب علي وأنقلب عليها في دروب الحي المتربة، دراجة هدية من أبي الغائب الذي تذكرني، والتي جعلتني مميزاً لأول مرة في حياتي، مميزاً عني وعن أطفال الحي، أطفال الغبار أقراني مرتفعاً عنهم بدراجة.

دراجة جعلت من لم يكن يتودد لي يتودد. وتركب البنات أمامي، فتشتعل انعطافات السكيك في عيني ويركبن خلفي ويحضنني أحضاناً كنت أبحث عنها، يحضنني خشية من السقوط، أما أنا فأنطلق.. إذاً ما أجمل السقوط، ما أروعه بين أحضان البنات».

نتاج

  • «سبع قصائد من أحمد راشد ثاني إلى أمه التي لا تعرفه» عام .1981
  • «أغاني البحر والعشق والنخيل» إعداد، .1982
  • «دم الشمعة» شعر .1991
  • «يالماكل خنيزي ويا الخارف ذهب» شعر عامي، .1996
  • «قفص مدغشقر» نص مسرحي .1996
  • «ابن ظاهر» بحث توثيقي .1999
  • «خافة الغرف» شعر، .1999
  • «العب وقول الستر» نص مسرحي، .2002
  • حصاة الصبر، إعداد، .2002
  • «دردميس» إعداد، .2003
  • «جلوس الصباح على البحر» شعر، .2003
  • «إلا جمل حمدان في الظل بارك» إعداد، .2005
  • «يأتي الليل ويأخذني»، شعر، .2007
  • «رحلة إلى الصير»، بحث، .2007
  • «أرض الفجر الحائرة»، مقالات، .2009
  • «على البحر موجة»، نصوص، .2009

المصدر:
محمد إسماعيل دبي
التاريخ: 09 ديسمبر 2009

* * *

الليل...

الكاتب :أحمد راشد ثاني

1

أحمد راشد ثانياليوم الخميس، والعادة في أكثر أيام الخميس أن يعود من العمل، يأكل مع العائلة، ثم ينام قليلاً، بعدها تبدأ الإجازة، فنجان من القهوة المرّة ثم استعداد للطيران على أغصان المساء.
في البيت أو في المحل الذي يرتاد، يجلس خلف أيقونة الرحيق، وفي الأغلب معه ورق، ورق للقراءة، ورق للكتابة. تعود الهواجس والأفكار، الرؤى والالتباسات، المزعجات وذكريات الزبد ومقدسات الريق. تعود الأوهام المكسورة، وما تبقى من أحلام الضوء، ما تبقى من خطوات الليل على طريق المدفون في النوم، تعود الخطط التي بعثرتها الأيام على طاولات النرد، واللحظات التي اقتحمت الغفلة وحققت الأمواج المستحيلة.

يعود كل ذلك للاجتماع على جبل الطاولة، كل السطور التي تقرأ تبدأ بالاتساع، طرق هناك، كانت نائمة في المجهول تستيقظ كي تحمل الرأس إلى غابات أخرى.

في الخلفية ظلال تلعب في ردهة الروح، في شروال الرغبة تين الجوع الشوكي.
يمتلئ الجسد باللحظة، تمتلئ اللحظة بالجسد، على الطاولة في البيت أو في المحل الذي يرتاد.

2

اليوم الخميس هو هناك على الطاولة، أو في المحل الذي يرتاد أما أنا فمريض.
المرض عطل في الحياة، تأجيل لها، جعلها هدفاً وأمنية، انتظارها على السلم المكسور خلف باب الحركة المغلق، المرض ثقل، حصاة تملؤ بئر اللحظة، صَلْبٌ على الكرسي، سماع صوت الأنفاس، والمرآة التي يظهر فيها النبض كالفقاعات.
مَنْ ثُقل غفا على سطح الوقت، من ثقل كبر ظلَّه وغطست أعضاؤه في سطل الغفوة، امتلأت خلاياه بالمياه الزرقاء، تكسَّر دمه إلى رمل، لا الألم الذي ينتظر، ولا أعراض السقم ستجعل من وقته وقتا.
كلُّه يرتصُّ على وحدته وينفصلُ. الطاولة وحيدة، الدواء، الحائط، الشجر الذي استمالت خضرته إلى مرارة، ابتسامة الطفل التي لم تعد قادرة على مسح الأحزان، هدير الروح المشاغب الذي صمت تحت غشاء التعب، الأمواج التي علت بالمفردات، وأظهرت الألق والزبد انسحبت وشجبت واختفت على لسان الارهاق.
لا طعم لهذا الازدراء المتوالي، حيث تتوجس الخلايا من الجفاف، والعروق من الضياع في صحراء العطش.
المرأةُ التي كمَسَت جعلتْ المرض يقشعر. المكالمة التي جرت في أسلاك المسافات وسألت، اختفت بلا ذكرى خلف ذبول الجسد، الصمت حكمة المرضى، الصمت الذي يتعب من الكلام، الصمت الذي لا يشاغبه كلام.

3

اليوم الخميس..
طاولته عامت في النشيد.
جاء الأول وتحدث عن أخباره، اغتاب من اغتاب، وأمعن في سرد بطولاته، بطولاته تحدثُ في كل مكان، في أي لحظة، بطولاته المستمرة منذ الولادة، وها هو الآن يمر في إحدى لحظاته المحررة، يشربُ كأسيه، ويُلقي نظرة على بقية المهزومين، حتى أولئك السياح يحسون بهزيمتهم أمام مرآته، الصبية الغضَّة التي استفردت بإحدى الطاولات، صحنها يشبه حديقة من وجهة نظر طير، كأسها الأشقر مُضاء في يد الليل.
تلك الصبية الغضَّة، حتى تلك الصبية الغضة تحلم بأن يرفع رايات انتصاره على أراضيها العطشى، لكنه لا يقوم من الكلام، وينتظر كل شيء هزيمته، فليتعذب من ذلك الانتظار، فالأبطال لا يحدثون بسهولة.
يطيب له هذا البطل، ومثل هذا البطل، وكلما ارتفع منسوب النشوة في دمه اتسعت أحداثه لأكثر من عاصفة، لأعمق من فراغ، ووقفت النوافذ على طاولته كي تدخل السحب وتجلس مع البئر، وتخرج الشمس من الباب كي يأخذ الليل راحته.
للبطل يأتي بطل آخر، يجلس البطل الجديد بلا كلام قبالة البطل السابق، الأخير ينظر إلى غريمه كما ينظر الأعداء عادة إلى الأعداء:
- من رأيت اليوم؟
يسألني البطل الجديد، فهل أقول هذا، وأشير إلى البطل القديم، لا، لن أجيب، اصمت، فتيل المعركة صُبَّ عليها الكيروسين، وسرعان ما سيشتعل الكلام، وتُسن الألسنة، أضحك، أبطال وتُكسِّر بعضها.
الجو المكفهر يعثر في الخرائب على المرح، هي كذا صراعات الحياة التافهة تشجع راقصات الغبار، وترفعُ من لهب الحماسة، وتربطُ أحذية الليل.
أحد الأبطال يهربُ، البطل الباقي يُغني، على الجميع أن لا ييأس، فلكل منا دقيقة من هذا المجد الكوني، والعراك وجلبة العراك غسلا ثوب السأم، وها هو الاستعداد واقف أمام المرآة يلبس قميصه كي يمارس السهرة.

4

اليوم الخميس هو هناك على الطاولة، أو في المحل الذي يرتاد، أما أنا فمريض..
يزورني من يزور ليتمنى الشفاء، هو تحرك وخرج وجاء وجلس وأنا عاجز، قمت لاستقباله بصعوبة، وأجلس معه بصعوبة..
ماذا حدث؟ كم مرة عليك أن تسرد القصة؟ انقبضت أسارير الدم، فأحسست بالتعب، ويا لها من لعنة، تلك العضلة التافهة التي تسمى: القلب.
قلبي، قلبي، يصيح البشر المتلوعون من الغرام، وفي الحقيقة فإن من يعاني في قلبه، فإنه يصيح ويندب مفارقته للحياة، أو قرب ذلك الفراق، أو إمكانيته، وهي إمكانية تحدث دوماً كما نعلم.

5

اليوم الخميس...
طاولته وقفت لاستقبال الأصدقاء، الصديق الذي تعتعته الحياة يدخلُ مقهى الليل صارخاً “زنقة، زنقة، دار دار”، معه صديقته الأثيوبية: لما لا تتزوجها، الوحدة وقواربها بانتظاره كي يبحر كل ليلة في محيط الثمالة الفتّان. سيرتج كرشه من الضحك وتنسدل الجفون على الوجه كستارة من بلل، ما الذي بإمكاننا فعله في هذه الحياة؟.. لاشيء، بإمكاننا اللعب، كل الكلمات قابلة للاستعمال وعندما ننتهي من مضغ علكة العالم، تبقى في فمنا عصارة الريق.
أين نخفي الوقت عن الخشب؟ أين نبدد التلال التي يبنيها نمل الدقائق على مدخل أرواحنا؟ على مَن نوزع أوراق الكلام؟
الصديق الذي حيّره العالم يحمل كأس السؤال: الجمال مُرٌ، والجلال رهبة، سأضع عصا الاستفهام في دولاب الاجابة، وبالتأكيد للصداع دور استراتيجي في توزيع العذاب على الطاولات.
لنا اللعنة، ولهم حلويات الطمأنينة، لنا اللعنة ولهن ورود النبض.
وهنالك كذلك الصديق الهادئ، الذي يخبؤ غفوة نهر في ياقة قميصه، وتقطر أصابعه دموع اللؤلؤ، فيا للفقدان، أخذوا مني دروب طفولتي وأخفوها، أين ذهبوا بها؟
لا أدري، بحثت عنها ولم أجدها، العصا الذهبية التي قالوا إنهم وضعوها في يدي لا تكشف لي شيئاً، كلما وضعتها على دلالة اختفت، بل إنني كلما أمسكت بها تلاشت يدي، أنا بلا يد، أنظروا، أشرب بلا يد.
إذن فلنطلب كأساً أخرى لهذا العطش، ونفتح على الطاولة منصة للضحك، الثقيل تحيله الحيلة إلى خفة والعميق إلى سطح، يبقى اللذيذ يسيل عسله بين فواصل العبارات، ويتشقق سقف مواخير الصدور، وتتمزق البلاعيم كمواسير مهترئة وتغرق العيون في فيضان القهقهات العظيمة، تلك التي ترج سكون السماوات، وتكسر عبوس الأرض.

6

اليوم الخميس.. هو هناك على الطاولة، أو في المحل الذي يرتاد، أما أنا فمريض..
أتَّكِئ على الكنبة، على الحائط، على الكرسي، على المساعدة، أغفو قليلاً وفجأة تتصادم القطارات في رأسي وتُفزعُ غفوتي قرصة في الدم. أصحو، الساعة تقترب من العاشرة، الليل في أوله، تنفسي هادئ ولكني لا أستطيع أن أفعل شيئاً، الرغبة ذابت في فنجان المرض، الإرادات هشَّة، واللسان ثقيل، وحدها العينين تدور في المحجر كفرخين غابت أمها في الظلام.
الساعة بطيئة، وفي الخارج، على الطاولة أو بدون طاولة، في المحال، في الشوارع تتسكع الحياة، الحياة المبتهجة بقمصانها المعطرة ووجوهها المثارة وأصابعها الهائجة، الساعة تتدحرج نحو منتصف الليل، متى سأنام من جديد، أحاول، أغفو قليلاً وفجأة ترتطم أنفاسي على أرضية السقم، وتقوم عيني من تلك الحفرة كظل سقط على حطام ضوء.
أقوم، الساعة ما زالت في الواحدة، وحتى الفجر سيظل جسدي ناتئاً وفجّاً. سيظل مُراً وصعباً، سيظل متكسراً ومتضعضعاً وفظاً يذيبه التعب ويطحنه الإنهاك، فيتكوَّم ويثقل وينسحق وينام.

7

اليوم الخميس...
طاولته امتلأت بهيجانات النبض، بوميض العروق، باهتياجات المفاصل، بحرقانات الأفكار، بالتهابات اللحظة، باضطرابات الأسئلة، بتفتقات الضحك، بوسامة الفراغ، بأسلحة الرغبة السرية، فمن يقوم معه من هذا الجلوس إلى الكلام، ويصعد إلى مرقص الخلايا، الرؤوس مكتظة بالنزق هناك، وتتدلى من الأجساد مفاتيح الأمواج، فلتضف إلى رأسك مزيداً من الجمر، وتلتهب نظراتك في ذلك الممشى الجارح، على أية قيامة تضع يدك، في يد أي صدفة، ومن سترافقك هذه الليلة إلى حديقة اللمس.
الأغنية استولت على مصب الرغبة، تمايلت جدائل الماء في تفكير الحوض، رقصت اللحظة مع نفسها، ودخل الكلام إلى غرفته، واستعد المفتاح كي يدور في باب المستحيل، الاهتزاز يبحث عن إيقاع والإيقاع يبحث عن اهتزاز، وحين وضعت المسافات في الجيب، واتفقت المرايا مع النوافذ، والأبواب مع الموسيقى، وجدوا المصاعد توصلهم إلى الفجر.
حاملون أنفسهم إلى السباحة في ماء الأسرة، متفتحة أجسادهم وكأنها قبور عادت من الموت. الآن سيحدث الخلود وتمتزج السماء بالبحر، والجسد بالروح، والرغبة بالنفض، وتلك الخلجات المتضاربة والمتصادمة حتى ينكسر النبع، ويمتلئ الحجر بنبيذ الهواء، تصبحون على خير أيها السعداء، المملوؤون حتى البهجة بماء الأبد، النائمون الآن كأمواج في المحيط.

* * *

أحمد راشد ثاني في روائح المكان القديم

المجموعة الجديده احمد راشد ثاني

في مجموعته الجديدة »يأتي الليل ويأخذني« لا نقرأ على الغلاف ما يشير إلى الشعر، أي أنه يترك الغلاف وما يليه بريئاً من أي صفة أو تحديد. ومع ذلك فهو يفتتح الكتاب بنص للشاعر الفرنسي إيف بونفوا يحيلنا إلى عالمه هو، عالم أحمد راشد الذي اختبرناه في نصوصه الشعرية خصوصاً والباحثة في التراث الإماراتي عموما.

أما نص بونفوا فهو ينطلق من الصحراء التي تشكل ـ مع البحر ـ أهم مفردات أحمد راشد. يقول بونفوا أمس في سيادة الصحراء، كنت ورقة وحشية/ وحرة في الموت/ لكن الزمن كان يُنضج، كمثل نُواح أودية ضيقة/ جرح الماء في حجارة النهار. مفردات تنتمي إلى عالم الصحراء، الوحشية، الموت، الجرح، والماء. صحراء الضيق والاتساع في آن. اتساع الأفق وضيق الرؤية في عز اللهب الساطع. لذلك سنجد في عالم أحمد راشد الكثير من المتناقضات التي تخلق شعريته وشاعريته معا. متناقضات تعبر عنها اللغة والموضوعات ـ المضامين والرؤى الغريبة لما يجري حوله من تحولات فاجعة تفتح أبواب الغربة والاغتراب. منذ بداية الكتاب، يقرر الشاعر أن الليل يأتي ويأخذه، إلى أين؟ لا نعرف. لكن سياقات النصوص ستعبر وتفصح وتفضح. فالليل هنا ليس سوى حالة مجازية تخفي رموزا وعلامات مهمة سنحاول رصدها، لنتعرف إلى هذا العالم بما ينطوي الليل عليه من ملامح وتفاصيل وأسرار. الليل بما فيه من عتمة وظلام وأشباح وغربان تصرخ عبر العصور.

في شعر أحمد راشد نبرة ألم تجاه ثنائية الزمان والمكان. محاولة لاسترجاع مكان وزمان لن يعودا إلا بالقصيدة والشعر، بالحلم يعني. وهو ما تحاوله قصيدة الشاعر منذ بداياته، كيف يسترجع خورفكان، المكان الأجمل والأبهى، مسقط الرأس وسط البساطة الريفية، وملعب الصبا كما كان يقول أجدادنا الشعراء، هذه القرية أو البلدة، ورغم الجوع الذي عاد إليها ليأكل التراب، فهناك ما تزال »مسرّة صبيانها بتناسل الأمواج/ ورقّة في الأشجار/ لا يصدقها أحد«.

وثمة ما تزال »في الوادي تركض أحجارها/ هاربة من الكذب/ الكذب على الليل/ الليل الواقف بين الأزقة/.../ في ذلك الحي الآفل/ تحت ارتفاع المنارة«.

لا يكتفي أحمد برصد تحولات المكان، فهو لا ينطلق من حنين أو نوستالجيا بكائية أو رثائية، بل يغوص في تحولات الشخص/ الفرد وما أصابه من تلعثم أمام التغيرات الصادمة، فيمسك بالإنسان في أشد لحظاته تمزقا، في العالم الذي انقلب من حياة البداوة البسيطة والشقية إلى حياة السوق المعولم بأدواته اللاإنسانية، حيث بات الشخص شخوصا، والمرآة مرايا.

وحيث »اضطراب شخوص الفرد« يولّد فيضان المرايا، فتترك الفكرة الرأس، ونرى كيف »يمشي السطر على الأمواج ويسقط/ يقوم من على الأمواج/ ويسقط«. إنها »لعثمة« الجسد والروح والعقل، وسقوط الفكرة والكتابة. وهذه إحدى دلالات الليل.

دلالة ثانية سوف تتبدى في حلم فانتازي ينتج كتابة الهلوسة، كتابة تنتقل بين »الحوش« و»الدريشة« في القرية وبين الفندق في دبي. أي بين عالمين غير متصالحين، بل متناقضين متصارعين، ما يجعل الشاعر/ شخص القصيدة يعيد حكاية التمزق والانكسار. فهو يعود إلى بداياته وبعدما أغلقت بوابة حياتي/ ودفعت من رحم أمي/ إلى هذا العالم/ كمطرود وناء/ جلست.. أجمع وجهي/ في ذياك الحوش/ تحت تلك الشريشة (نوع من الشجر ينمو في الصحراء).

ثم يعمق الشاعر مأساة الإنسان في هذا العالم، فتتحول من مجرد انتقال من القرية الحبيبة إلى المدينة القاسية، فينقلها إلى مأساة وجودية، واضعاً خط الموازاة بين الانتقال عبر المكانين وبين الانتقال من رحم الأم إلى العالم الخارجي، حتى أن عالمه القديم لم يعد هو العالم نفسه، يقول في معصمي يرن قيد الولادة/../ أنادي على جبال خورفكان فتهب لملاقاتي/ اكتشفت أن الجبال لا تنتظر أحدا/ وأن الأمواج قد فرت هاربة.

رحم الأم يعادل القرية، والخروج من الرحم هو إغلاق لبوابة الحياة، فهو خروج إلى عالم يعيش فيه الإنسان مطرودا ونائيا. إنه أحد أشكال الليل، وصورة من صوره.

وفي قصيدة كلب يعرج في مرآة ذات النفَس السوريالي، تتكثف سوداوية الشاعر والشعر، فيدخل في متاهات الحياة وسراديبها، حيث الكلب يبحث عن الشاعر ويقبض عليه واقفا عند فشل رائق، ويصف الشاعر الموقف لم يدعني أبكي/ خطف مني وقفتي/ وتركني في الليل/ يأتي الليل ويأخذني (عنوان المجموعة)، ليبدأ حوار بينهما، وننتهي بالقبائل التي خاضت حروبا مع الظلام وهزمت، فيطلب الشاعر من كلبه الأعرج العودة إلى الخوف حيث الحياة فكرة تعيسة خطرت في ذهني وأنا أمشي/ والوطن غبار تركته الذبابة/ وهي تركض خلف العصا.

وفي مقطع ليلي من قصيدة البحارة على حواف الملح يقول:

الليل الفادح
يملأ قربة العمر ويعرج
في ممرات المرايا
كذئب مكسور

فالليل هنا حالة نفسية ومعنوية وتحمل النقيضين، هو ليل فادح من جهة، لكنه يعرج في ممرات المرايا كذئب مكسور. لكن المقطع لا يكتمل، والصورة تظل ناقصة، إلى أن يفتح الشاعر قوسا على حالته النفسية والمعنوية، حيث يفتح المطر عينيه في غيابي/ تطير غيمة من الشارع إياه/ الشارع الذي ينحسر/ حين أمشي الآن/ جسدي في جيبي/ وروحي ظلام. فهو الظلام الذي يسكن الروح أو يشكل مادتها وكينونتها. الظلام الذي بدأ منذ الولادة والخروج من عتمة الرحم الدافئ إلى ضوء العالم البارد.

إضاءة

عتمة وضوء، بحر ويابسة، قرية ومدينة، وباختصار هي حياة وموت. هذه هي الثنائيات التي بها يؤثث أحمد راشد كيانه وعالمه الشعريين. العالم والكيان اللذين ينهضان على شعرية البساطة والرؤية والموقف من الكون والبشر والأشياء، وشعرية الابتعاد عن البلاغة المنفوخة، لكنها أيضا شعرية اللغة الطازجة والحارة التي تسمي الأشياء بأسمائها.

وتحفل بالأمكنة ذات الطبيعة الشعبية التي تحمل روائح المكان القديم، بكل ما تشتمل عليه من ذكريات وأحلام وكوابيس.. خصوصا والشاعر يشتغل في بحث التراث الإماراتي ـ الخليجي، وقد أصدر في هذا المجال عددا من الكتب تعد مراجع للبحث في هذا التراث.

عمر شبانه

* * *

أحمد راشد ثاني شاعر المناخات المتعددة

محمد علي شمس الدين

أحمد راشد ثانيربع قرنٍ من كتابة القصيدة وثماني مجموعات شاعرية، كافية لرسم ملامح صورة شاعر، إذ أن هذه الملامح من خلال هذه المساحة الزمنية وهذا العدد من الدواوين، لا بد لها أن ترتسم في حال وجودها، وعدد الدواوين والفسحة الزمنية للكتابة، يساعدان قارئ الشعر والناقد على تتبع الخيط الشعري للشاعر، ووضع ملاحظات حول مراحل نموه وتطوره. ومسألة تكون شاعر من الشعراء وامتلاكه لأسلوبه ولغته، ليست مشروطة بكم القصائد المكتوبة والفسحة الزمنية، بشرطٍ لازم، إذ قد يكتب أحدهم ديواناً واحداً أو اثنين، ويشكّل من خلال ذلك علامة شعريّة فارقة.
صدر للشاعر الإماراتي أحمد راشد ثاني (مواليد خورفكان - الإمارات العربية - 1962) ثماني مجموعات شعرية عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2010م، دفعة واحدة، بعنوان قصائد 1985 - 2009، مضمومة داخل مغلف أنيق، وهي دواوين متقاربة الحجم والشكل، مع تفاوت طفيف في عدد الصفحات، وتفاوت أسلوبي لا بد من ذكره، وغلاف كل ديوان يحمل صورة فنية من صُوَر الرسام السريالي الإسباني خوان ميرو. وهذه الصُور في نظري تناسب مناخ قصائد الشاعر، لجهة تقديم بصمة سريالية تتنقل كفراشة من نص الى آخر، حتى لكأن عنوان مجموعته الأخيرة «الفراشة ماء مجفّف» هي العنوان الموازي للصور الفنيّة المنتقاة.
والحال أن ديوان «الفراشة ماء مجفّف» قصيدة واحدة بـ 61 جملة شعرية مرقمة، تفصل بينها مساحات واسعة من البياض، فتظهر الجمل والكلمات كنمال أو سطور قليلة من كلمات تدبّ على صفحة كثيرة البياض. إن ثلاثة أرباع هذا الديوان مساحات بيضاء، والربع الباقي جمل وكلمات مرقمة، قد يكتفي منها الشاعر أحياناً بكلمتين أو ثلاث، تشكّل ما يشبه تعريفاً ما لفكرة، أو تحديداً لصورة، فتتردد جملة «الفراشة ماء مجفف» على امتداد صفحات الكتاب، ويختتم بها النص، وكأنها اللازمة المتكررة والملحة لترسيخ فكرة صُوَريّة لكيمياء النصّ الشعري، ففي الصفحة 88 على سبيل المثال، وفي أعلى الصفحة جملة: الفراشة ماء مجفف... من تحتها فراغ تام على مساحة الصفحة.
هل يرغب الشاعر أن يترك للإيحاء دوره في هذه المسألة؟ وفي الصفحة المقابلة 89، في أسفل الصفحة، جملة واحدة هي «الماء مقصورة النسيان» أعلاها أبيض تليها صفحة بيضاء تماماً (الصفحة 90). قصيدة «الفراشة ماء مجفّف» قصيدة تجريبية، بل هي سيناريو قصيدة، يستخدم فيها أحمد ثاني تقنية مسرحية وتشكيلية، وفيها شخصان يتكرران في مقاطع كثيرة: الراقص والشاعر. كما تنطوي على إحالات مثاقفة، ومعادلات لكيمياء فكريّة وفنيّة، بعضها قديم كقوله: «لهرمس تعود هذه المعادلة: الذهب خليط بين الماء والنار/ خليط جفّ كالفراشة/ في الكهف المضاء داخله» (مقطع 3 صفحة 8) - وثمة إحالة لرولان بارت (ص 12) ومثاقفة مع المسرحي والممثل والشاعر الفرنسي المعطوب وصاحب الكتابة المعطوبة، يقول أحمد راشد ثاني في ما يشبه استعادة لرأي آرتو في المسرح: «المسرح فن ناري الجوع»، ويشير الى عنوان فيلم زيتي للمخرج الشاعر لويس بونويل: «حل القطارات الطويلة» (ص 38) كما يكتب الجملة ما قبل الأخيرة عنده في الديوان من مارسيل دي ثامب «الفنّ سراب» (ص 100)... حتى كأن القصيدة هي كولاّج شعري لعدد من الإشارات من الفنون الأدائية. وهي قصيدة تجريبية على كل حال، يقطّعها بجمل وإحالات، ولا يجمع بينها سوى الرغبة في التشكيل، مثل: «ليلى كثيرة على قيس» (المقطع 42) «اشتعال الغيم شهوة» (المقطع 44) و «الهواء ومضة مبلولة» (المقطع 46)....
وديوان «الفراشة ماء مجفّف»، وإن كان الأخير على الأرجح، إلا أنه لا يمثّل أو يختصر تجربة الشاعر بكاملها، فإن من ميزاته المتواترة على امتداد أعماله الشعرية بعامة، روائح صعلكة حياتية وضيق بالأمكنة والأزمنة والأحوال. ففي ديوان «دم الشمعة» على سبيل المثال، الذي يبدأه في قصيدة «في المقهى» بسؤال حول شيخوخة الحياة: «هل تكبر الحياة في السن؟» يعبث بالمستقبل الذي يسمّيه «دابة»، ويعبث بجسده «حين أمشي الآن/ جسدي في جيبي» (من قصيدة البحارة على حواف الملح)، وينام على «فاحشة الصحراء» (أخته) كما يقول، وهو على أهبة الخروج دائماً «تحت كل طاولة تنتظرني قدماي كي نخرج» (من قصيدة تصعد قهوتي مُرّة)، وهو في موقع التشرّد الدائم، «الى أين أرجع والبيت عاصفتي؟» (من قصيدة المساء الميت)، وهذه الروح المتصعلكة والمشرّدة، تترك إشارة من إشاراتها، وعلامة تدلّ على أن الشاعر مرّ من هنا، على امتداد أعماله بكاملها، من ذلك الإحساس القاتل بالوحدة، وتقريع النفس «وحدي مع بومة نفسي» (من قصيدة لن أعود ثانية الى الحنين - ديوان «ها يداي فارغتان» والإحساس بفراغ الأرض والسماء، ثم الإحساس بأنه يتجرجر من روحه، الى الوراء، «كالتلفريك» كما يقول... وهذا الإحساس بالصعلكة، يتقدم من خلال صُوَر ضاربة وقاسية ومشرّدة.
في ديوانه «يأتي الليل ويأخذني» تستوقفك عناوين القصائد، وهي عتباتها: «كلب يعرج في مرآة» و «دمعة البيت» و «إني لفخور». وأبرز ما يلوح في أفق القصائد، معاناة الشاعر الوجودية، من جهة أنه جاء مدفوعاً دفعاً الى هذا العالم من رحم أمه... والقصائد أشلاء سيرة ذاتية، أو ومضات تأمّل وتحديق في شروطه الوجودية: «المياهُ تشرب من جمجمة الجبل، وفي معصمي يرنّ قيد الولادة» (من قصيدة «دمعة البيت»).
ففي مثل هذه الجمل القاسية، يسجل أحمد راشد ثاني، صُوَر حياة قاسية ومشرّدة، على شواطئ بحرية، وفي بلادٍ بين الصحراء والبحر، وغالباً ما يرد ذكر «خورفكان» كمكان للشاعر، ويرد البحر والموج، والقارب الذي يجدّف عليه، ويئن الماء من تحته، وفي سرد متواصل مسترسل وحكائي، وكابوسي أحياناً «من عشبٍ في الرأس تأكله قطط الفجر» (ص 84 من قصيدة وإني لفخور) يكتب الشاعر لذاته في ديوان «يأتي الليل ويأخذني» سيرة ذاتية تكشف عن التباسات علاقته بالأمكنة والأزمنة، وتقلبات الأحوال.
ديوان «وهنا اللذة» ديوان جميل، حيث البحر والسفينة التي تضرب البحر بتهديها، وحيث يتحوّل حذاء الشاعر الى سفينة يعبر بها «مضيق هرمز»... لكنّ ما يلفت الانتباه في قصائد الديوان، هذا القران الذي يعقده الشاعر بين الحب والبحر. فهناك قطع صغيرة كثيرة في الحب. لا تبعد عنها الصعلكة، ولا يبعد عنها الحسّ بالعذاب، يقول في قصيدة «قيل إنه يموت»: «وأنا ترفعني الأكتاف/ كنت أسمع صرخات عاشت/ قيل إنه يموت/ في امرأةٍ اسمُها مريم»
لكن أجمل ما كتب أحمد راشد ثاني في الحب، ديوان «الغيوم في البيت». وهو يبدأ القصائد بالجملة التالية: «تأتين/ فتبدأ السماء وتضحك».
هذه هي على العموم أبرز سمات أحمد راشد ثاني على امتداد دواوينه الثمانية. إنه يكتب سرداً شعرياً مسترسلاً وجميلاً ولا يفوته التجريب، وقطف ثمارٍ فنية وثقافية يدخلها في صلب تقنية الكتابة عنده، وهو في سير الذات وسير الحب، مسترسل وحكائي، ولكنه في أماكن أخرى، قادر على القطف والتكثيف واختزال الحال بكلمات قليلة، غالباً ما يصدر عنها إشعاع جوهرة الشعر الجميلة.

السبت, 12 يونيو 2010

* * *

شعر أحمد راشد ثاني يترجم إلى الألمانية

شعرصدر للشاعر أحمد راشد ثاني مختارات جديدة باللغة الألمانية لعدد من قصائده التي توزعت بين دواوينه المتفرقة، بترجمة سليمان توفيق وحملت الطبعة الألمانية كلمة «شعر» باللغة العربية و «Das meer gehorte einst mir» في اللغة الألمانية على غلاف الصفحة الأولى من الديوان، كما تضمنت الصفحة الأخيرة من الديوان قصيدة عن “خورفكان” وخلاصة لإبداعات الشاعر أحمد راشد ثاني 1962 وحياته العلمية والمهنية.

وصدر للشاعر أحمد راشد ثاني مؤخراً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت مجموعة شعرية كاملة ضمت 8 دواوين حملت عنوان “قصائد 1985 - 2009” وهي “ها يداي فارغتان” و”حافة الغرف و”حديثي عن الآبار يشرب” و”دم الشمعة” و”يأتي الليل ويأخذني” و”الغيوم في البيت” و”هنا اللذة” و” الفراشة ماء مجفف”.

وقد غطت المجموعة الكاملة “قصائد” بانوراما عامة لكل شعر أحمد راشد ثاني في هذه الفترة بما يقرب من 14 عاماً من التكوين
الشعري والتجربة النثرية في الشعر.

ويعد أحمد راشد ثاني من المؤثرين في خريطة الشعر الإماراتي، بل من بناة القصيدة الإماراتية الحديثة، هذا بالإضافة إلى أنه باحث دؤوب في ميدان الموروث وحكايات شعوب المنطقة، وله من محاولات التأصيل في هذا الإطار كتب وقراءات بحثية مهمة.

الاتحاد
الأحد 19 ديسمبر 2010

* * *

* * *

دم الشمعة بالقرب من مثواه الأخير
رحيل الشاعر الإماراتي أحمد راشد ثاني

أحمد راشد ثاني غيب الموت ظهر أمس الشاعر الإماراتي أحمد راشد ثاني عن 50 عاماً في مستشفى خليفة إثر أزمة قلبية مفاجئة، والشاعر الراحل ولد في 1962 في خورفكان وله ثماني مجموعات شعرية، واللافت في المجموعات الشعرية التي كتبها على مدى ربع قرن هو محاكاتها لكثير من تفاصيل تجربته الشخصية بحلوها ومرها، أما المستوى الشعري في هذه المجاميع فيتصاعد طردياً لمصلحة الجملة المختزلة، التي تنأى بنفسها عن الحشو يتضح ذلك في ديوانه الأخير (الفراشة ماء مجفف) وهو عبارة عن قصيدة واحدة ب 61 جملة شعرية مرقمة تفصل بينها مساحات واسعة من البياض، فتظهر الجمل والكلمات كسطور قليلة من كلمات، تدب على صفحة كثيرة البياض .

القريبون من أحمد راشد ثاني يؤكدون انخراطه في اللعبة الشعرية إلى آخرها، ليس بوصفها كتابة جديدة فقط، وإنما أيضا بوصفها ترجمة لحياة ذات نكهة تليق بعالم الشعراء الأصلاء، فرائحة الشعر عنده طازجة كما ينبغي للحظة أن تكون، مفارقة ومدهشة وقابلة للتأويل، وهذا يعني أن حرارة الشعر التي ستظل دافئة من بعده، لن تبخل عليه بقراء جديدين يحملون هم الشعر وينادون بنكهة أخرى تليق بالحياة .

يشار للشاعر الراحل بأنه أحد أعلام الإمارات وكتب إلى جانب الشعر بحوثاً في التراث، كما تتبع حياة شخصيات مؤثرة في تاريخ الإمارات .

كان لطفولته في خورفكان أثرها في شعره حيث تمتاز هذه المدينة بتضاريسها التي تتمدد بين البحر والجبل، ويصف طفولته فيقول عنها “تعرفت إلى أفضل إدمان أصبت به على الإطلاق وتمرنت على أفضل موهبة، أفضل قدرة، أفضل ما تعلمته في الحياة: قراءة الكتب، التفكير مع القراءة، الحياة في القراءة، والموت أيضاً” .

يروي الكثيرون عن أحمد راشد أنه تحدث عن والده الذي كان يعمل في البحر فأهداه أسفاراً تراثية في صغره، سرعان ما اصبحت زاده اليومي، ليكتشف في ما بعد انه منذور للكتابة والكتب .

من مجموعاته الشعرية نذكر: (دم الشمعة) و(يأتي الليل ويأخذني) الذي يصف معاناة الشاعر الوجودية و(هنا اللذة) الذي يزاوج بين عالمي الحب والبحر و(الغيوم في البيت) .

هل كان الحريق الذي شب في بيت الشاعر أحمد راشد ثاني قبل نحو خمسة أشهر بمثابة انذار وفاة، يقينا أن أحمد راشد ثاني الذي توفي بسبب أزمة قلبية ولم يكن يفكر على هذا النحو، بل كانت جوارحه معلقة في طيف قصيدة يراودها حتى تكتمل .

هو إذن في عمق مكيدة الموت، الموت الذي يذيب الضغائن، ويفرغ المتناقضات، ويذيب شحنات الأسى، ويفتت غمامة الحزن، ويكتب فكرته مجردة، ولا تشبه إلا نفسها .

الخليج
الثلاثاء ,21/02/2012

* * *

منزله الأول*

منزلك الأول، أين كان في خورفكان؟

أنا ولدت في فريج ملتبس، وهذه عتبة لالتباسات عديدة حدثت فيما بعد، هو فريج جديد، أبي وأمي وبعض الجيران هم أول سكانه، وهو يقع خارج خورفكان القديمة التي أحاطها البرتغاليون بسور، هذا الفريج يقع في الطرف، والأطراف في القرى القديمة تتمثل في أربعة معالم هي: المرعى ومصلى العيد والمقيظ والمقبرة .

أما الالتباس الذي أشرت إليه فيتمثل في أن للفريج الذي ولدت فيه اسمين، الاسم القديم هو “الفصيل”، والاسم الحديث “المديفي”، وهو اسم غامض لا أعرف معناه .

ما ترتيبك بين إخوتك؟

أمي أنجبت طفلاً مات قبلي، وأنجبتني، ثم أنجبت طفلاً مات بعدي، ثم كفت عن الإنجاب إلى الأبد .

هل حدثك الوالد رحمه الله، أين كان يسكن قبل مرحلة فريج “المديفي”، أو أين كان يعيش جدك من جهة والدك؟

أبي غريب في خورفكان، وهذا واحد من الالتباسات، هو فلاسي من دبي، كان يسكن في جزيرة اسمها “نيام”، صارت فارسية الآن، كانت له مزارعه في كنف جدي، وجدي غرق في البحر حسبما سمعت، وصار لي ثلاثة أعمام وعمة تعيش حالياً في دبي، أحد أعمامي كان بحاراً مغنياً، مات في دبي .

وذات مصادفة بحرية دخل أبي خورفكان بحاراً في صحبة نوخذة في المدينة نفسها، أثناء ذلك تزوج أمي، ومن ذلك اليوم تحكمت في حياته، وزوجت أخاه ابنة أختها، وتوطد لها منذ ذلك الحين “استعمارها” لهذين الشخصين المسكينين أبي وعمي .

* مقطع يلقي الضوء على طفولة الشاعر الراحل من كتاب “أول منزل” للزميل عياش يحياوي

اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات ينعى الشاعر الراحل

نعى اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات الشاعر الراحل أحمد راشد ثاني، وجاء في بيان النعي: “ببالغ الحزن وعميق الأسى، ينعى اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، ابناً من أبناء الإمارات الذين حملوا لواء الريادة في مجال الأدب، وأديباً من أدبائها الذين رفعوا راية التفرد، وروائياً من رواتها الذين حازوا قصب السبق، ومبدعاً من مبدعيها الذين تشربوا حب وطنهم فأخلصوا له، وحملوه بين حنايا قلوبهم، وتلافيف عقولهم، الأديب الإنسان، أحمد راشد ثاني، رحمه الله وجعل الجنة مثواه، الذي وافته المنية إثر مرض لم يمهله .

ويعبر رئيس وأعضاء مجلس إدارة اتحاد كتاب وأدباء الإمارات عن خسارة الاتحاد، وخسارة الإمارات لواحد من مؤسسي اتحاد الكتاب الذين أعطوا الكثير، ولم يطلبوا شيئاً، بل ولم ينتظروا شيئاً، وكان من السباقين في السعي نحو رفع راية وطنه في مجالات الأدب والرواية والمسرحية والشعر، وكان شغوفاً بالتجريب والتحديث والإبداع، وصولاً إلى ما يحقق طموحه نحو وطنه وأدب هذا الوطن .

لقد كان أحمد راشد ثاني، رحمه الله، أنموذجاً للأديب الصادق مع نفسه، واحتفظ لنفسه بمكانة فريدة بين أقرانه، واشتغل على مشروعه الثقافي بقدر ما أوتي من جهد، وبكل ما أعطي من موهبة، الأمر الذي سيجعلنا نذكره بالخير ونترحم عليه دائماً .

وإن اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، وهو يدرك حجم خسارته، وخسارة الساحة الثقافية في الدولة بفقد هذا الأديب المتميز ليؤمن في الوقت نفسه بقضاء الله، ويسلم بحكمته، وبأن كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام .

فللفقيد الرحمة، ولأسرته وأحبته ولكتاب وأدباء الإمارات كافة الصبر والسلوان” .

“إنا لله وإنا إليه راجعون”

اتحاد كتاب وأدباء الإمارات

كتّاب إماراتيون: شريك ثقافي مثابر مدفوع بموهبة نقية

أعرب عدد من الشعراء والكتّاب الإماراتيين عن حزنهم على رحيل الشاعر أحمد راشد ثاني مشيرين إلى أهمية مشروعه الثقافي الذي راوح بين الشعر والمسرح والبحث في الثقافة الشعبية .

وقال الشاعر حبيب الصايغ رئيس مجلس إدارة اتحاد كتاب وأدباء الإمارات “كأن الذين يحيون شعراء يأبون إلا أن يموتوا بطريقة شعرية أيضاً” .

وأضاف الصايغ “أنا من القلائل الذين سيشعرون الآن بمرارة فقد أحمد راشد ثاني فقد نشأنا معاً وكنت شاهدا على أيامه الأولى في الكتابة منذ أن كنا نصدر الملحق الثقافي في جريدة الفجر الإماراتية الذي كان أول ملحق مختص بالثقافة في حينها، وبالرغم من صغر سنه إلا أنه كان محملا بالوعد والموهبة والإصرار” .

وأضاف الصايغ “في تلك الأيام التي كنت أشغل فيها منصب مدير تحرير الصحيفة وأسسنا معا الملحق الثقافي فيها، وكان أحمد يصغرني سنا، كنت أتابع ما يكتبه وأرى فيه صاحب موهبة حقيقية وواعدة، وبعد ذلك استمر معنا في اتحاد كتاب وأدباء الإمارات وكان عضواً مؤسساً واليوم نشعر بأن لقاءاتنا كأسرة أدبية وثقافية في الإمارات ليست بحجم المأمول، فقبل دقائق من سماع خبر رحيل أحمد كان الصحفي عبده وازن يسألني عنه، ومن المؤلم حقا أن تكون أخبارنا عن بعضنا ليست بالحجم المرغوب، فليس من المحمود أن نصحو فجأة لنعرف أن أحدنا قد رحل عنا، وفقدناه إلى الأبد” .

وقال الصايغ “أنا حزين لأننا فقدنا شاعراً بحجم أحمد راشد ثاني وحزين أيضا لأن المقبل من تجربته لم يأت بعد بالرغم من أن ما أنتجه من شعر مسرح ورواية يعد إضافة مهمة لمشهدنا الثقافي، وكل ذلك النتاج كان مرشحاً أن يكون أكبر لو عاش فترة أطول ولكنه قضاء الله وقدره ونحن نؤمن به” .

وتمنى الصايغ أن تخلّد تجربته لما تمثله من أهمية وحضور، مشيراً إلى أن هذه مهمة لا بد أن يتابعها اتحاد كتاب وأدباء الإمارات و”سنتصدى لهذه المسؤولية، ونحن كأسرة إماراتية خسرنا اليوم مبدعاً مهماً على مستوى الكتابة والأخلاق والوطنية، وما يسجل لأحمد راشد ثاني أنه أمضى حياته مبدعاً ومخلصاً لثقافته وأدبه ووطنه” .

وقال الشاعر إبراهيم محمد إبراهيم “لقد فقدنا واحداً ممن شاركنا الهم والموهبة، وكان مثالاً في العمل والخلق والكتابة، وشريكاً ومثابراً ومدفوعاً بموهبة نقية”، وأضاف إبراهيم إن فقد شاعر كأحمد راشد ثاني هو خسارة ليست عادية لنا كشعراء وأسرة أدبية وثقافية، ونسأل الله أن يرحمه ويسكنه فسيح جنانه .

وقال الفنان محمد المزروعي خسرنا مبدعاً كان على الدوام مشغولاً بالقراءة والثقافة والتراث، وهو واحد من رواد الحراك الأدبي في الإمارات الذين أخلصوا لثقافة الإمارات واشتغلوا على تطوير المفاهيم والأسس التي من شأنها أن ترتقي بمشهدنا الثقافي والأدبي .

وأضاف “عندما نؤرخ الحياة الثقافية، فلابد من الإشارة إلى أن أحمد راشد ثاني هو من أصحاب الريادة الحقيقية في العمل الأدبي” .

وقال الفنان السوداني علي الجاك: أحمد راشد ثاني خدم المشهد الثقافي الإماراتي بإخلاص ووفاء، وكان دقيقاً دائماً في هذا الشأن، وكان دائم البحث عن كل ما يقدم إضافة لهذا المشهد، ورحيله اليوم يشكل لنا خسارة كبرى ولابد أنه ترك لنا قيمة إبداعية لا تنسى .

وقال الشاعر والباحث الجزائري عياش يحياوي “يأتي خبر الموت مثل البرق صاعقاً، مدهشاً، ماحياً المسافة بين اليقين والشك، ومثبتا لحقيقة واحدة، هي انتهاء رحلة حياة إنسان على الأرض . وحين يكون المفقود شاعراً وباحثاً ومسرحياً يتضاعف معنى الموت، ورغم أن الحياة تعبت كثيراً في تدريبي على استيعاب تراجيديا الفقدان إلا أني خيبتها كثيراً، إذ لايزال الموت يشعل في ذاكرتي الحرائق والأسئلة . وها هو خبر رحيل الصديق الشاعر الباحث أحمد راشد ثاني يأتي قاسياً مثل طعنة خنجر صدئ قديم لفداحة الرحيل، فهو شاعر مجدد في النص الشعري الإماراتي، وأهم ناثر على الإطلاق في الثقافة الإماراتية، تتداخل في نصه النثري - وهنا أشير إلى مذكرات طفولته التي نشرها في الملحق الثقافي ب”الخليج” حدة مزاجه الشعري وقدرته على ربط الأفكار والمعاني بطاقته الحيوية المستمدة من قراءاته للمتن الحداثي المسطور، وتتجلى في نثره قدرة عجيبة على السخرية من الحياة وتناقضاتها، وآمل أن يهتم النقاد مستقبلاً بهذه الملكة التي لا تقل عن ملكته الشعرية، يُضاف إلى ذلك أن أحمد راشد ثاني يتسم بصفة معرفية جديرة بالتنبيه إليها هي أنه طارح أسئلة من الطراز العالي في الشأن الثقافي .

بدأ أحمد، رحمة الله عليه، رساما ينقل ملامح الطبيعة في بيئته البحرية والجبلية على خورفكان إلى لوحاته، حتى إن إحدى لوحاته نالت الجائزة الأولى في مسابقة تشكيلية بالمنطقة الشرقية لإمارة الشارقة وهو بعدُ في المرحلة الإعدادية . ولتأثره بحادثة رواها لي في كتاب “أول منزل” ترك الفرشاة والألوان واتجه إلى الشعر، ثم إلى المسرح في المرحلة الجامعية حيث كان من مؤسسي “المسرح الحر” في جامعة الإمارات يوم كان طالباً . وقد ترك الفقيد مسرحيات عديدة ومجموعات شعرية وكتبا بحثية في التراث الشعبي الإماراتي أسهمت في ثراء المكتبة الثقافية والإبداعية المحلية .

منذ فترة قصيرة، هتفت له وسمعت صوته متعباً، لكنه أكد لي أنه بخير وقد بدأ يتعافى، غير أن إرادة الله فوق الجميع . غداً، حين يهترئ حجاب المجايلة ولا تبقى سوى النصوص ستخضر شجرة أحمد راشد ثاني في ذاكرة الأجيال الإماراتية والعربية، وقريباً منها لافتة مكتوب عليها: “هذا رجل مختلف يحتاج إلى الإنصات لمخزون كتاباته” .

وقال الشاعر أحمد المطروشي “قبل شهرين من الآن كنت جالسا مع أحمد راشد ثاني والشاعر أحمد يعقوب حيث تبادلنا الكثير من الحديث الشعري في الساحة الإماراتية والعربية بشكل عام، توقفنا كثيراً عند موضوع ترجمة الشعر الإماراتي إلى الإنجليزية وقد كان لراشد ثاني تعليقاته المثيرة للجدل في هذه الجلسة، يتساءل المطروشي هل كانت هذه العبارات التي نطق بها أحمد خير مثال على حياته الاستثنائية التي لم تكن تقبل أنصاف الحلول في القصيدة التي كان يريدها أحمد ثاني مغايرة تماماً وعلى صورة الحياة في نسغها الشفاف، كما هي عند لحظة الولادة، وكما هي عند يقظة الموت التي هي اليقظة الجريئة المحزنة التي فاجأتنا كثيراً، لكنها برغم خسارة الفقد الكبيرة ستجعلنا أحرص على تذكر قصائده ومعانيها ودلالاتها، “ستبقى هذه القصائد نابضة بالحياة” .

الشاعر خالد الظنحاني وصف الراحل بأوصاف كثيرة، ومثل هذه الشخصية التي تمتع بها الراحل كانت حديث الوسط الشعري في الإمارات فأنت نادراً ما تلتقي مع أحمد راشد ثاني ولا يبادرك بنكتة تلخص مرارة اللحظة وتهز كلماتها أعماق أصدقائه فينبشون في مراميها ودلالاتها .

لقد كان الراحل بحسب خالد الظنحاني ينأى بنفسه عن الشهرة، “وكثيراً ما هاتفته ودعوته ليشارك في أمسية شعرية وكانت إجابته في كل مرة هي الرفض الذي ينبئ عن تصور خاص للحياة التي عاشها على نحو شعري، كما يتفق جميع محبيه” .

وقال الشاعر عبدالله السبب: رحيل أحمد راشد ثاني خسارة فادحة على المستويات كافة الإنسانية والشعرية، علاقتي به تعود إلى عام 1989 وجدت فيه الإنسان الصادق والودود والجريء في الرأي، تميزت أشعاره بالجدة فضلاً عن اهتماماته البحثية وكتاباته الجيدة في المقال النثري، الآن تواجهنا مشكلة العزاء، فآخر بيت لأحمد احترق منذ فترة وجيزة ونحن لا نعرف كيف نقدم واجب العزاء فيه، ولذا أقترح أن يتبنى اتحاد الكتاب هذه الفكرة .

وقال الباحث والشاعر أحمد محمد عبيد: جمعتني بالراحل صداقة عميقة وكنا نجتمع بصورة شبه يومية تقريباً للحديث في شؤون الثقافة المختلفة، أحمد راشد ثاني باحث قلق اهتم بالتراث الشعبي وكان ينوي في الفترة السابقة لرحيله إعداد كتاب عن تاريخ وعادات الطعام في الإمارات .

أخيراً

يسألني عن دوافِعِ الموجِ
وأخبرُهُ عن حذاءِ البحرِ
يسألني عن أسباب السماءِ
وأخبرُه عن قبعةِ القَمرِ
أخيراً صَمَتَ،
فأخذتُ أجمعُ الحصَى
من على شطآنِ الكلامِ
وأضعُهُ في كأس القصيدةِ
أخيراً توقفَ عن رثاء المرآةِ
ونامَ على الماء
كظل وردةٍ
أخيراً شُفيَ من الدّم

أي موجة

يصفونَ لي الصحراءَ
وينسونَ حبةَ رمل
في موجةٍ مازالت تركضُ
على البحرِ
يصفونَ خطواتي الكثيرة
على شاطئ البحر
بينما لا يعرف البحر
في أي موجة غَرِقْت

الطائر الذي أكل

أنهضُ وأرحلُ
عن البيتِ
في البيتْ
أكتبُ موجةً
وعليها ظل غيمةٍ
كان يَظُنها سمكةً
الطائرُ الذي أكلْ

ابن الحياة

لم يكمل السطر الأخير على ورقته البيضاء . .
الجملة الفعلية القصيرة، الجملة الشعرية النقية مثل نقاء بحر خورفكان . . لم تكتمل .
القصيدة التي لم تكن الأخيرة . . لم تكتمل أيضاً .
هكذا رحل الشاعر أحمد راشد ثاني أمس، بعدما خذله جسده، ولم ينفع الطب في إعادة الشاعر إلى الهواء الطلق، وإلى جلوسه الفضيّ على حافة البحر .
رحل أحمد راشد ثاني، وهو يتألق شعراً وحياة ومرحاً حتى في ذروة مرضه .
هذا الرحيل خسارة للمشهد الثقافي في الإمارات، وفي منطقة الخليج العربي . الرحيل الذي ختم ببياض الموت وجلاله على سيرة شاعر كلّه قصيدة .
صباح أحمد راشد شعر . ظهيرته شعر . مساؤه شعر . كتب الشعر الشعبي وأبدع في هذا النوع من الفن القريب من وجدان وذاكرة الناس في الإمارات وفي الخليج العربي .
كتب قصيدة التفعيلة، ثم وجد أن روحه تتحرّر أكثر فأكثر بالخروج على الوزن، فذهب إلى قصيدة النثر .

أحمد راشد ثاني من روّاد قصيدة النثر في الإمارات وفي الخليج العربي . كتبها عن ثقة وعن ثقافة عميقة، وهو القارئ النهم . القارئ المتذوّق لما يقرأ . . هذا التذوّق الرفيع الذي من شأنه أن يعيد إنتاج القراءة في عمل شعري أو في عمل نثري يظهر فيه ذكاء كاتب يعرف من أين يسقط ماء الشعر .

في قصيدة النثر، انفتح أحمد راشد ثاني على نوع من الكتابة يمكن أن يطلق عليها الكتابة الأفقية . إنه تأملي بالدرجة الأولى . غنائيته لا تستولي على شعريته، قليل الإنشاء البلاغي . ولا يذهب إلى الكثير من التوريات والكناية والمجاز . يغرف من الحياة، وبالأحرى، يغرف من ذاكرته ومن طفولته ومن مرجعيات ثقافية محلية، إضافة إلى مرجعيات مشهدية، وأقصد بالمشهدية هنا، تلك الصور، وتلك الحياة، وذلك الولع بالحياة والاحتفاء بها الليل كلّه والنهار كلّه .

لذلك، فمن الطبيعي أن نلاحظ، وهو بكل هذه المحمولات الحياتية والثقافية، كيف أنه كان غزير الإنتاج الشعري في السنوات الأخيرة، هذا النتاج الذي أشاد به شاعر كبير مثل أنسي الحاج .

بين الشعر والحياة، ذهب أحمد راشد ثاني إلى اهتمام آخر، وبالولع نفسه المعروف عنه تجاه الشعر، فهو عاشق كبير للمسرح، كتب للمسرح، وغالبية العناصر المسرحية الإماراتية والخليجية تعرفه عن كثب . تعرف ثقافته المسرحية وتعرف لغته المسرحية . . تلك اللغة المشدودة إلى شعريته الغنية بكل مفردات الحياة المرحة والمملوءة بالمسرّات .

لم يكتف بكل ذلك . .

ذهب أحمد راشد ثاني في السنوات الأخيرة إلى البحث بل السفر في الثقافة الشعبية الإماراتية والتراث الشعبي الإماراتي، لقد عمل مسحاً ميدانياً واسعاً في هذا الحقل، وأغنى المكتبة الإماراتية بعناوين محلية حيوية يعود إليها كل من يريد أن يفهم ويدرك جيداً ثقافة المكان .

أحمد راشد أكثر من ذلك . . إنه أولاً وأخيراً ابن الحياة . . حياته التي تذرف عليه دمعة اليوم .

المحرر الثقافي

* * *

رحيل الشاعر الإماراتي أحمد راشد ثاني.. قطّر وجوده واستنزفه كلمة كلمة ودمعة دمعة
منذ أمد أو ربما منذ أبد

عباس بيضون

أحمد راشد ثانيأحمد راشد ثاني لا يفاجئنا خبر وفاته، فهذا الشاعر الذي جعل من الشعر لحظة تفان وإفناء وجعل منه سيرة حياة تبقى دائماً في معادلة الموت، وجعل منه استنزافاً للوجود تكاد كل لحظة فيه أن تكون ملاعبة للغز وملاعبة للنهاية.

كان أحمد راشد ثاني من هؤلاء الذين يحملون الوجود والعدم في كفتين متوازيتين، ومن الذين من فرط إصغائهم للوجود تحولت حياتهم الى نشوات إلى الأعلى وخيبات إلى الأدنى، وليس بين الأعلى والأدنى سوى أجسادهم الشبحية، ليس بين الأعلى والأدنى سوى مرورهم كظل عابر، كنسمة وكزفرة وكسؤال. كنا نلتقيه فنجده مترنحا ونجده في أبهة عذابه ونشوته. نجده وهو يسير على الخيط أو الوتر المشدود وهو في سكره يصغي فتصل إليه أنات لا ندركها، وتصل إليه تنهيدات لا نشعر بها، تصل إليه لحظات من التكوين، تكوين البحر وتكوين الجبل وتكوين الإنسان، كنا نراه في ثمله وقد تحول الكون بالنسبة إليه إلى رادار ضخم وقد تحول هو إلى شاشة لاقطة. ما كنا نفهم أن الوجود يتقطر لدى هذا الشاعر. ما كنا نفهم إلا حين يترك لنا وللحانة قصائد هي ما استرقه من تجليات العالم وظهوراته. كان أحمد راشد ثاني في كل أحواله ما يكونه الشاعر. منفرداً كان ورائيا وسارقا للضوء وفانيا في الملكوت وواقفاً على الحد وعلى الشعرة وعلى الهشاشة وعلى الوتر الحساس وعلى الدمعة أحياناً وعلى النقطة وعلى الكلمة وعلى الحرف.

كانت حياته بالتأكيد قصيرة لكنها مديدة ومفعمة لأنه عاشها تمـاماً كقصيدة وعاشها كضوء متكرر وكأمر كوني معاد وكدقيقة أبدية متواليه، إذا كان يعيش على حد الشعر فهو في الغالب حد الموت وهو في الغالب شوكة الوجود وهو في الغالب خيط الروح.

أحمد راشد ثاني. لا يفاجئــنا خبر وفاته منذ وقت طويــل يكلمنا من الغيب وهو منذ وقت بعيد يستنزف نفسه ويقطرها لحظة لحـظة وشعــاعاً شعاعاً، وهو منذ أمد يوازن بين المصباح والظل، بين العبور والاختراق، بين الوجــود والعدم، وهو منذ أمد وربما منذ أبد يدخـل في وردة العـالم، في وردته الكبيرة وفي محرقته وناره، وهو منذ وربما منذ أبد يرمي العــاديات ويرمي التفاصيل ويرمي الأشياء ليعود فيجدها في حلمه. هو منذ أمد وربما منذ أبد يتبع بعينيه تلك الكأس العالية، يتبعها بعينيه ويتبعها بأنفاسـه ويتبعها بنبض قلبه. هو منذ أمد وربما منذ أبد يتلقى أسراراً أكبر من هيكله وينــهار تحت نبضه أقوى من قلبه ويلم هيكله كل مساء قطعة قطعة ليودعه في خزانة الكــون ويستخرجه في الصبــاح أجـزاء وتفاصيل، تفاصــيل كانت حبات شعره وكانت نثراته وكانت أنفاسـه وبحوره وأوزانه. تفاصيل هي أيضاً جزئيات العذاب وأوتاره وكسوره وزواياه. كان هو الشاعر والعالم يقصف الشعراء، الشاعر والعالم يتقطر أحياناً في قصيدة.

* * *

من مقدمة طويلة لديوانه «الغريق الشرس» الذي لم ينشر بعد
عالم مختصر

من هُنا قُدَّر لقصيدة «الغريق الشرس» أن تكون القصيدة الأولى في مجموعة المختارات هذه، أما أن يكون عنوانها عنوانا للمجموعة فذلك قد يعود إلى الطفولة التي قضيتها في خورفكان، وهي طفولة حدثت على قارعة الأمواج، ولعلَّ الغرق والنجاة من الغرق ثنائية تتبادلانها مقاطع لا حصر لها في مجمل تجربتي الشعرية.

* * *

موت، أو ولادة ظننتها باستمرار «مصادفة بحرية». جاء ابي من البعيد كبحَّار وتزوج أمي سليلة المزارعين، سكان الجبال. موجة وغَصَّ بها فم الوادي، بحر وضاع في مرآة الجبال الكالحة.
البحر صلاة، هو كذلك، لكنه أيضا جوع هائل. والبحر ضياع، زبد مشجع على الضياع، و«قصيدة في الهواء الطازج» كذلك.
البحر ذكر، أنثى، خنثى. البحر مقبرة الأنهار والأمطار، والبحر جيشان الماء من الأعماق، وانتفاضة الموج على جيش الرمل المهزوم، واستقبال العواصف باحتفال تختلط فيه الفرحة بالغضب، كاختلاط المشاعر حين العشق، أو كما يُعجن الطمي... أو كل هذا وهم. فالبحر ماء مالح مسجون، بل هو، كما أراه، الجني الذي أُغلق عليه القمقم، والذي لا يكف عن استدراج البسطاء من طلاّب الرغبات كي يخرجه من ذلك السجن، وعندما يخرج يأكل اليابسة كما يلتهم البشر الشوكولا...

* * *

رغم ذلك، يبقى شيء لا مفر من اعترافي به، وهو أن طفولتي أصيبت بالدهشة من البحر تماماً كما لو أنني بدوي قطن الصحراء طوال حياته ويحلم بالماء، وها هو الآن واقف على الساحل، ويرى كل هذا الماء الكثير. ماء كثير، لكنه لمفارقة العطش العظمى، لا يُشرب بسهولة، ثم ان ركوب موجة، أو تقمصها، أو مرافقتها، والذهاب بها بعيداً عن البحر، ناهبة الصحراء، ومستقبلة بحفاوة من آلاف الآبار المدفونة في العطش، تبدو لي عملية تخييلة فاتنة، وقد تساعدنا جميعاً على تغيير وجهة نظر السماء تجاه الأرض. أو بصراحة تغيير كل سماء ثابتة تقبع فوق رؤوسنا. وتحطم المخيال الذي نشرب منه مياه أعماقنا العذبة.

* * *

بالنسبة لطفولتي، كان البحر وأمواجه في الشرق، وفي الغرب يقف الجبل يلتهم الشمس، أو في أحسن الأحوال يرميها خلف ظهره.
وكان الجبل من الألغاز الكبيرة لتلك الطفولة. فهذه الجثة الضخمة من الصخور، كيف ماتت إلى هذه الدرجة من القسوة، ثم كيف تبعث من جديد على اثر كل مطر، فما بين الجبل والبحر في جغرافيا طفولتي تلك، صلات ظاهرة وخفية، فالظاهر منها الوادي الجاف، ما ان تسقط الأمطار حتى يركض بجنون واحتفال إلى البحر حافراً أعماق الأرض، ثم بعد ذلك عندما تكف السحب عن الضحك، تتحول ركضته واحتفاله إلى جروح من أخاديد، أو أخاديد من جروحٍ، أما عن الصلات الخفية فتلك سيرة ليس بمستطاع أحد أن يرويها إلاّ الآبار والبحر، أو أن هذه الصلات بين الجبل والبحر هي ما يشيَّد «خورفكان» في ذاكرتي، تلك الذاكرة التي أحب إعادة صياغتها باستمرار، وكتابتها كفردوس مستحيل.

* * *

لقد لقيتني مسجوناً ووحيداً وطفلاً في بيت واسع، تتوسطه شجرة، بعد بابه بقليل يضحك البحر، واذهب من بابه الغربي إلى الجبل كي أشهد على وقفته التليدة.
بحر جالس وجبل واقف وروح تستكشف نفسها وتتمزق تحت الشجرة.

* * *

ورغم أنني «بحثت» في علاقتي بالآخر، وخاصة بتجلي الآخر الأنثوي، متمثلاً بشكل جسدي وروحي بالمرأة، إلا أنني لربما إلى الآن لم أصل إلى فهم واضح لتلك العلاقة، على الأخص لم أصل إلى فهم ما يجعل تلك العلاقة ملتبسة، ورغم أنني اعرف أكثر من أي وقت سابق مظاهر وتجليات ذلك الالتباس ... وحدة الطفولة، تشقق الذات، حيرة الأنا.

* * *

من يصل. لا أحد يصل فالعشق والتعلق كالشبق من الأمور اللانهائية. لا أحد يشبع من التهام الغيوم، كما لا أحد يرتوي من التدحرج بين الأمواج أو عليها أو فيها. ولعلَّ هذا الجوع المقيم، وذلك العطش المستمر، هو وحده ما يجعل لأي لحظة قادمة مغزى وأهمية، فالأفواه، أكثر من غيرها، هي من تقدر جيداً معنى الحركة.

* * *

وهكذا فللفنادق في تجربتي الحياتية معنى آخر. إذ انه لا توجد حانات تقدم الخمر في الإمارات خارج الفنادق. وعند خروج الهارب من قريته، أو صَاحَبَ ذلك الخروج، تعرفه الى الخمر وتذوقه لأول كأس في الوجود. ومنذ تلك الكأس والهارب لم يكف عن الغرق في هذا اليم الهادر.
ورغم التكاثر الرهيب للفنادق، إذ في كل بقعة عشرات الفنادق، وفي كل فندق عشرات الحانات، وفي كل حانة عشرات الكؤوس الشاردة، رغم ذلك فما زالت القوانين المحلية تجرم الشاربين وتسجنهم وتجلدهم وتفصلهم من وظائفهم، في نوع من التناقض المحير للألباب، الذي لا تكفي مئات الصفحات لروي احداثياته المفصلة، ولا حكاياته المريرة، ولا اعتداءاته الغاشمة على الخيار الإنساني. ولعلي في «ثلاثية الحانة» حاولت كتابة «خمريات» حديثة، وأوصفها هنا بالحديثة، كي أميز بينها وبين «الخمريات» العربية التقليدية تلك التي في أفضل نماذجها، كانت باخوسية بامتياز، وشعرنة العلاقة مع الخمر، لكنها كذلك قدَّسته.

* * *

إن تجربة الخمر، هي تجربة رحلة كذلك، بل انها رحلة محفوفة بالمخاطر، وصديقة مباشرة للموت، إذ لطالما غرق الكثيرون «من مجرد كأس».
ثم إنها رحلة لا تُقال. وصعب نقلها، ولهذا ربما استحضرَ المتصوفة «الخمريات» الكلاسيكية، إذ ان كلتا التجربتين، مع الفارق، تنتمي إلى ذوقين، يستحيل عندهما وحولهما القول. فالسكر، صوفيا كان أو خمريا، يستعصي على القول.

* * *

هناك إذاً في الحانة، وهي طبعاً هنا من أفعال المدينة، سيجد الهارب المعادل الروحي لحياته الضائعة.
إن «الكأس» ستقوده إلى داخله المفقود الذي هرب منه أو عنه، والذي قطع معه أو ظلَّ يراوده. وبديلاً عن العالم المرمي في الخارج، سيعثر فيها على عالم مختصر، أو عالم موازٍ...
أ. ر. ث

* * *

رحيل الشاعر والكاتب الاماراتي أحمد راشد ثاني

أحمد راشد ثاني أبو ظبي 'القدس العربي' نعي اتحاد كتاب وأدباء الإمارات الشاعر والكاتب المجدد أحمد راشد ثاني الذي وافته المنية يوم أمس.
وأعرب رئيس مجلس إدارة اتحاد كتاب وأدباء الإمارات في بيان صدر يوم أمس عن حزنه لخسارة 'واحد من مؤسسي اتحاد الكتاب الذين أعطوا الكثير وكان من السباقين في السعي نحو رفع راية وطنه في مجالات الأدب والرواية والمسرحية والشعر'.

ووصف البيان.. الأديب الراحل بانه ابن من أبناء الإمارات الذين حملوا لواء الريادة في مجال الأدب وأديب من أدبائها الذين رفعوا راية التفرد وروائي من رواتها الذين حازوا قصب السبق ومبدع من مبدعيها الذين تشربوا حب وطنهم.

وأضاف البيان ' لقد كان أحمد راشد ثاني، رحمه الله، أنموذجاً للأديب الصادق مع نفسه، واحتفظ لنفسه بمكانة فريدة بين أقرانه، واشتغل على مشروعه الثقافي بقدر ما أوتي من جهد، وبكل ما أعطي من موهبة، الأمر الذي سيجعلنا نذكره بالخير ونترحم عليه دائماً'.

ولد أحمد راشد ثاني في مدينة خورفكان التابعة لامارة الشارقة عام 1963. بدأ كتابة الشعر في أواخر السبعينات من القرن الماضي، و نشر بعض قصائده في الصحف والمجلات المحلية و العربية. أصدر في عام 1981 كتيباً شعرياً باللهجة المحلية، ثم أعاد نشره في التسعينات تحت عنوان: 'يالماكل خنيزي .. ويالخارف ذهب '. تواصلت بعدها إصداراته الشعرية ومنها: 'حافة الغرق' و'جلوس الصباح على البحر' و'يأتي الليل ويأخذني'، وقد تُرجمت بعض قصائده إلى الفرنسية والألمانية.
وقد اهتم الشاعر الراحل بالموروث الشعبي الاماراتي وحقق اكثر من عمل في هذا الخصوص فضلا عن كونه أحد رواد ما يسمى قصيدة النثر في الامارات واحد ابرز الاصوات الشعرية في منطقة الخليج العربي.

تجربة نقدية

وكان الشاعر والكاتب الراحل من المثقفين النقديين في منطقة الخليج العربي وخصوصا في بلده الامارات وفي حديث اجراه معه الشاعر الاردني يوسف ابو لوز قال احمد راشد ثاني عن التجربة الادبية في الامارات:
التجربة الأدبية سواء كانت الشعرية أو القصصية في الإمارات تبدو ملتبسة ولربما إذا صح القول متأخرة عن التجربة التشكيلية والسينمائية بالذات في الإمارات، وأحياناً عندما أطرح على نفسي مثل هذا النوع من الأسئلة كثيراً ما ألاحظ ان التشكيليين والسينمائيين أكثر احتكاكاً وقرباً من أسئلة المشهد التشكيلي والسينمائي مما هو الحال عليه عند الأدباء.. إذ أغلبنا لا يعرف لغات أخرى ويبدو في كثير من التجارب الشابة خصيصاً بأن قراءتها الأدب العالمي وفكره هي قراءة مزاجية أكثر مما هي قراءة لتشييد أفق ابداعي ونقدي، لهذا ربما تلاحظ معي ان الأدباء المتسمين بثقافة ومتابعة عميقة في التفكير الانساني هم قلة ويعرفهم الجميع، إذ لا يكفي لكتابة قصيدة التعبير عن هذه الخاطرة أو ذلك الانطباع الذي يراود الكاتب. عليه ان يحول ذلك الانطباع وذلك الخاطر إلى شيء آخر. عليه بمعنى آخر ان يؤبد الزائل وينظم الفوضى ويشيع الفوضى في النظام. وكل هذا هو في حاجة إلى تكوين معرفي متلاحق.

2012-02-20

* * *

الإمارات تودّع شاعرها

هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة وأكاديمية الشعر في أبوظبي تنعيان الشاعر أحمد راشد ثاني عن عمرٍ يناهز الخمسين عاماً.

ميدل ايست أونلاين

كان شغوفاً بالتجريب والتحديث والإبداع

أحمد راشد ثاني أبوظبي ـ بعد صراعٍ طويل مع المرض، توفي الاثنين الشاعر الإماراتي أحمد راشد ثاني. وهو من رفع اسم الإمارات عالياً في عالم الأدب والشعر.
الراحل من مواليد 1962 في الشارقة. وقضى معظم أعومه الخمسين في مجال التفرد الروائي والشعري وتجديد القصيدة الإماراتية.
ونعت هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، وأكاديمية الشعر في أبوظبي الشاعر الكبير. الذي لاقت نجاحاته وإصداراته أصداءها على المستوى المحلي والعربي. فقد نُشرت أعماله في عدة صحف ومجلات داخل الإمارات وخارجها، وترجمت إلى اللغتين الفرنسية والألمانية. إضافةً إلى أنه شارك في مهرجانات شعرية وأدبية كثيرة، عربية وعالمية.

وفي بيانٍ أصدره اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، نُعي الشاعر الراحل بجملٍ تعبّر عن مدى الحزن والفجيعة لفقدانه، وعن الأسى المرافق للفراغ الذي تركه في الوسط الأدبي.
وقال الاتحاد في بيانه: "يعبر رئيس وأعضاء مجلس إدارة اتحاد كتاب وأدباء الإمارات عن خسارة الاتحاد، وخسارة الإمارات لواحد من مؤسسي اتحاد الكتاب الذين أعطوا الكثير، ولم يطلبوا شيئاً، بل ولم ينتظروا شيئاً، وكان من السباقين في السعي نحو رفع راية وطنه في مجالات الأدب والرواية والمسرحية والشعر، وكان شغوفاً بالتجريب والتحديث والإبداع وصولاً إلى ما يحقق طموحه نحو وطنه وأدب هذا الوطن."

يذكر أن الراحل أحمد راشد ثاني بدأ كتابة الشعر في الفترة الأخيرة من السبعينيات. وبعد ذلك طوّر نفسه في مجال القصيدة النثرية. محاولاً محاكمة كل القضايا الشعرية والأدبية بوجهة نظر نقدية متعمقة.
وإلى جانب كتابة الشعر، كتب عدة مسرحيات، وألّف أبحاثاً اختصاصية في التراث الأدبي المحلي.

* * *

اتحاد كتاب وأدباء الإمارات ينعي الأديب أحمد راشد ثاني

اتحاد كتاب وأدباء الإمارات/نعي .

الشارقة في 20 فبراير / وام / نعي اتحاد كتاب وأدباء الإمارات الأديب أحمد راشد ثاني الذي وافته المنية اليوم .

وأعرب رئيس وأعضاء مجلس إدارة اتحاد كتاب وأدباء الإمارات في بيان اليوم عن حزنه لخسارة واحد من مؤسسي اتحاد الكتاب الذين أعطوا الكثير وكان من السباقين في السعي نحو رفع راية وطنه في مجالات الأدب والرواية والمسرحية والشعر .

ووصف البيان.. الأديب الراحل بانه ابن من أبناء الإمارات الذين حملوا لواء الريادة في مجال الأدب وأديب من أدبائها الذين رفعوا راية التفرد وروائي من رواتها الذين حازوا قصب السبق ومبدع من مبدعيها الذين تشربوا حب وطنهم فأخلصوا له .

وام/ ط / لب
Feb 20, 2012

* * *

وداع ثاني الأخير
محمد عيسى

ودعت الإمارات أمس أحد أبنائها البررة، وروادها في الشعر والأدب، أحد أبنائها المخلصين الذين أعطوا الوطن وأجزلوا العطاء، ومثلوه أحسن تمثيل، فكانوا خير سفراء للوطن.

يوم أمس بكى الأدب والفن والشعر رحيل أحد الرواد المبدعين، وودعت خورفكان الساكنة في أحضان الجبال والبحر ابنها الشاعر والأديب والباحث أحمد راشد ثاني بالدموع، بعد صراع طويل مع المرض، استمر سنوات، ينتصر عليه تارة بعزيمته وقوته، وتخور أمامه قواه تارة، ليقضي الله أمراً كان مفعولا، ويتوقف قلبه المتعب عن الخفقان، ويفارقنا عن عمر ناهز الخمسين عاماً.
مسيرة “ثاني” قصيرة بعدد سنينها، لكنها حافلة بالعطاء المتنوع الزاخر، الأدبي والبحثي التراثي والشعري بما يفوق إنجازات الكثيرين، فقد انكب بكل ما أوتي من وقت وإصرار وعزيمة وكفاح، على العمل ليل نهار، دائب الحركة، قاطفاً زهور الشعر، والتراث الشعبي الإماراتي ، وعيون الأدب والمسرح.
يعد الراحل الشاعر والأديب أحمد راشد ثاني، أحد الشعراء المجددين في القصيدة الإماراتية، وصاحب البحوث في التراث المحلي والنصوص المسرحية.
ولد أحمد راشد ثاني في مدينة خورفكان بإمارة الشارقة عام 1962م ، وبدأ كتابة الشعر في أواخر السبعينات.
خرج الراحل من خورفكان في بداية حياته، ليظل طوال السنوات على صلة بالشعر والمسرح والبحث من دون توقف.
ونشرت قصائده في الصحف والمجلات العربية والمحلية وترجمت إلى الفرنسية والألمانية.
بدأ كتابة الشعر في أواخر السبعينات من القرن الماضي، ونشر بعض قصائده في الصحف والمجلات المحلية والعربية.
أصدر في عام 1981 كتيباً شعرياً باللهجة المحلية، ثم أعاد نشره في التسعينات تحت عنوان: “يالماكل خنيزي .. ويالخارف ذهب !”. تواصلت بعدها إصداراته الشعرية ومنها: “حافة الغرق” و”جلوس الصباح على البحر” و”يأتي الليل ويأخذني”، “قفص مدغشقر”، نص مسرحي”، ابن ظاهر”، بحث توثيقي، “خافة الغرف” شعر، “العب وقول الستر” نص مسرحي، “حصاة الصبر” إعداد ، “دردميس” و”جلوس الصباح على البحر” و”إلا جمل حمدان في الظل بارك” و”رحلة الصبر” و”أرض الفجر الحائر” وغيرها من الأعمال الرائعة.
ونظراً لقيمة أعماله الإبداعية تُرجمت بعض قصائده إلى الفرنسية والألمانية، كما شارك الراحل في العديد من الاحتفاليات والمهرجانات الشعرية في الإمارات والعالم العربي كان آخرها في مهرجان الشعر في فرنسا 2011.
وكان آخر ظهور للشاعر الراحل أحمد راشد على الساحة الأدبية من خلال احتفالية جامعة نيويورك أبوظبي للأدب والشعر، في شهر ديسمبر الماضي.
كما كان أحد مؤسسي اتحاد كتاب وأدباء الإمارات الذين أعطوا الكثير، وسخروا أنفسهم لخدمة الاتحاد طوال السنوات الماضية، وبلا شك هو علم من الأعلام الذين لم يدخروا جهداً في سبيل رفع راية وطنهم، متسلحاً بالجرأة شغوفاً بالتجريب والتحديث والإبداع..
تغمد الله الفقيد، الشاعر الراحل أحمد راشد بواسع رحمته، وأسكنه فسيح جناته، وألهم أهله وذويه الصبر والسلوان.

الثلاثاء 21 فبراير 2012

* * *

الجمعية العمانية للكُتّاب والأدباء تنعي الشاعر أحمد راشد ثاني

نعت الجمعية العمانية للكتاب والأدباء الشاعر والكاتب الإماراتي أحمد راشد ثاني، والذي وافته المنية مساء أمس الأول بعد صراع طويل مع المرض، عن عمر ناهز الخمسين عاما.
وبعثت الجمعية برقية تعزية لاتحاد كتاب وأدباء الإمارات؛ جاء فيها: "ببالغ الأسى والحزن العميق، تلقت الأوساط الثقافية في السلطنة، نبأ وفاة الشاعر والكاتب الإماراتي المعروف أحمد راشد ثاني، وإذ تشاطر الجمعية العمانية للكتاب والأدباء، اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، وجميع مبدعي العالم العربي، حزنهم في الفقيد الراحل، فإنها تؤكد أن أحمد راشد ثاني باق بإبداعه، وبما خلف من أدب راق في قلوب محبيه ومتابعي كتبه الأدبية المتمثلة في الشعر والمسرح والبحث الأدبي، داعية المولى عز وجل أن يتقبل الفقيد في جناته مع الصابرين والصادقين، وأن يلهم أهله وذويه وأصدقاءه الصبر والسلوان".
وكان الموت قد غيّب الأديب الإماراتي بعد معاناة طويلة مع مرض القلب، دخل على إثرها المستشفى مرات عدة، وكان على تواصل دائم وعلاقة وطيدة مع كثير من أدباء ومثقفي وشعراء السلطنة. ويعد الشاعر أحمد راشد ثاني أحد أبرز الشعراء المجددين على الساحة الشعرية في الإمارات، وهو أيضاً باحث له العديد من البحوث في التراث المحلي والنصوص المسرحية. ولد ثاني في مدينة خورفكان بإمارة الشارقة عام 1963 وبدأ كتابة الشعر في أواخر السبعينيات.
وخرج أحمد راشد من خورفكان في بداية حياته؛ ليظل سنوات على صلة بالشعر والمسرح والبحث دون توقف، وفي الشعر تحديداً أصبح خياره في تجارب لاحقة خيار قصيدة النثر، ويمتلك رؤية نقدية لكل شيء حوله، بجانب تجاربه في الكتابة للمسرح.
وأصدر الشاعر في العام 1981 كتيباً شعرياً باللهجة المحلية، ثم أعاد نشره في التسعينيات تحت عنوان: "يالماكل خنيزي.. ويالخارف ذهب!". تواصلت بعدها إصداراته الشعرية؛ منها: "حافة الغرق"، و"جلوس الصباح على البحر"، و"يأتي الليل ويأخذني"، و"السلام عليك أيها البحر"، وقد تُرجمت بعض قصائده إلى الفرنسية والألمانية، كما اهتم بجمع التراث الشفاهي وتدوينه، وكان يرى أن منطقة الجزيرة العربية تطفو على كنز من التراث الشفاهي.

الأربعاء, 22 فبراير 2012


إقرأ أيضاً:-