د. محمد عبده يماني

ورحل الأديب الفذ والرجل الصادق الأديب والروائي الرائع والرجل الذي تعدت بصماته الأدب السوداني والعربي, وأوصلت أصواتنا إلى العالم الغربي والشرقي حتى قلت يوماً وأنا أتحدث إلى مجموعة من الأدباء في فندق الدوشستر في لندن إن هذا الرجل حملنا قلمه وتخطى بنا الإطار العربي, حتى قرأ له بعض الأدباء في الغرب بعضاً من إنتاجه الأصيل وخاصة (موسم الهجرة إلى الشمال). ولقد جلست إلى هذا الرجل الإنسان كثيراً وفرحت بخلقه وأدبه وقدرته على العطاء وعمقه حتى شعرت في وقت من الأوقات ـ وقلت هذا لمجموعة من الأدباء حضروا معنا ـ أن الطيب صالح كان يستحق لو أننا خدمناه وروجنا لعطائه لينال جائزة نوبل للآداب التي فاز بها أديبنا المبدع الأستاذ نجيب محفوظ, فكلاهما فارس هذا الفن, ولكن الطيب صالح لم يعبر عن الرواية السودانية كما فعل الأستاذ نجيب محفوظ في إبداعه في مجال القصة والرواية المصرية, ولكنه نقل صوراً عميقة وعبر عنها في لغة أدبية سامية ومعالجة روائية بديعة أعجب بها الناس, كما أعجبوا بكتابات الروائي الكبير الأستاذ نجيب محفوظ ورفاقه. لكن أحداً لا ينكر أن الطيب صالح كان هو نافذة من هذه النوافذ الواسعة والمضيئة والتي أطل بها أدبنا فيما بيننا وبين بعضنا وفيما بيننا وبين الغرب, والطيب صالح الذي ولد في كرمكول على ضفاف النيل وكانت ثقافته قرآنية ثم صار حتى درس وتخرج في كلية العلوم بجامعة الخرطوم, وعاش جوانب من قسوة الاستعمار الإنجليزي وعنفه وكانت ميوله كما يقول عنه أساتذته ومعاصروه هي ميول أدبية جريئة, وكان يتابع بكل إصرار جهوده للتعبير عن مكنونات نفسه, وعمل بالقسم العربي بالإذاعة البريطانية, وكان قد عمل بالإذاعة السودانية والتحق بهيئة اليونسكو بباريس, ولست هنا في مجال استعراض لتاريخه, ولكني أوافق على أن هذا الرجل الطيب صالح كان أمة أدب وأدب أمة وكاتباً عبّر عن الأمة بصدق ورحل إلى نهاية رحلة الشمال, فغادر بعد أن أدى واجبه كاملاً واحترمه كل من تعامل معه. وقد شكرت للأخ الرئيس عمر البشير ورجالات السودان عنايتهم بتكريمه ونقله ليدفن حيث كان يتوق دائماً إلى مسقط رأسه, فجزاهم الله خير الجزاء. وأحسب أن الطيب صالح بلا شك هامة من هامات أدبنا العربي ورجل مبدع حتى تم اختيار روايته (موسم الهجرة إلى الشمال) ضمن أفضل مائة عمل روائي في تاريخ الإنسانية, وكنا نستغرب ونحن نجلس إليه عدم اكتراثه بكل تلك الجوائز والمقولات, فقد كان دائماً يعبر في تواضع (أنا لا أعتبر نفسي مهماً وأرجو ألا تنظروا إلى هذا كتواضع ولكنها الحقيقة) وعندما أقول إن الطيب صالح كان نافذة مضيئة للأدب العربي على الغرب, قصدت أن نتذكر أن بعض إنتاجه وخاصة (موسم الهجرة إلى الشمال) قد ترجم إلى عشرين لغة وحتى أقدم أدباء في إسرائيل على ترجمة هذا العمل إلى اللغة العبرية وربما لا يعرف ذلك إلا قلة من الناس المتابعين لقضية انتشار الأدب العربي في العالم. وهو رجل كله خير وبركة ومن حسن حظه أن اختارت له أمه اسم الطيب فهم يتفاءلون هناك بأن هذا الاسم يعني أنه رجل بركة ووالده محمد صالح صحبه ابنه كمزارع, وقد أثّرت فيه حياته؛ حياة القرية وبيئتها, ونقل طيبته وأصالته عن أبيه. رحم الله الطيب الإنسان, فقد كان يملأ قلبه وعقله هاجس الأدب, وحرص في مراحله الأولى على أن يصارع لدخول كلية الآداب ولم تساعده الظروف ولم يتمكن من ذلك ولكنه عبر عن هذه الرغبة بطرق أخرى, وعندما كنت ألتقي بالحبيب الطيب صالح في لندن, أشعر بعدم راحته ولا رغبته في الاستقرار بها وأنه دوماً يحن ويتوق إلى ضفاف النيل, وكنت أشعر بارتباط هذا الإنسان ببلده ووطنه وهذا الوطن العربي الكبير, وكنت كلما أجلس إليه أفاجأ بكمية القراءة التي يقرأها وبحثه الدائب عن الإنتاج الجديد في الأدب والرواية, وقد ذكر لي أنه في بداياته كان يرتبط بالمسرح. رحمه الله فقد خلف زينب وسارة وسميرة, وكان الطيب قد تزوج من زوجته السيدة جولي وأنجب منها البنات. ومن ظواهر بروزه المبكر أنه كتب قصته (نخلة على الجدول) ولم ينشرها ثم كتب (حفنة تمر) و(دومة ود حامد), وكما يقول الأستاذ طلحة جبريل في حديثه عنه إن هذه كانت بمثابة الميلاد الحقيقي لأديب عالمي, ثم (عرس الزين) التي ظهرت عام 1966م. وفعلاً اتفق مع كل الذين نظروا إلى رواية موسم الهجرة إلى الشمال بأن البطل فيه ملامح الطيب وكأنه لجأ إلى صور حقيقية عبر فيها عن التيه الذي كان يعيش فيه. ونحن هنا في السعودية كما يقول صفوة من الأدباء عن هذا الإنسان إنه كان له عناية بالأدب والأدباء في السعودية وكان يأنس لهم وله بصمات ولقاءات جادة في الخليج في الاحتفالات الثقافية, وقد ضحكت وأنا أقرأ تعابير الأخ الدكتور تركي الحمد وهو يشاغب كعادته, ولكنه يقول الحق في أننا لا نكرم أدباءنا ولا مفكرينا إلا بعد أن يموتوا. وأكرر أن هذا الرجل كان ممن يستحق فعلاً أن ندفعه ونقدمه للعالم, ولا يزال في عالمنا العربي رجال يستحقون التكريم قبل فوات الأوان. رحم الله الصديق الأديب الطيب صالح وتغمده برحمته وأسكنه فسيح جناته, وأنا أشهد أنه كان رجلاً يحب الله ورسوله ويحترم الناس ويحترم الحوار, وقد كانت لقاءاتي في الأشهر الأخيرة معه في لندن والتي أدركت فيها جوانب مما يعانيه, وكأنّ المنية قد أنشبت فيه أظفارها, ورغم معاناته فقد كان صابراً على مرضه ومحتسباً الأجر عند الله تعالى.

جريدة الأيام - البحرين
3-3-2009