عماد فؤاد

هوغو كلاوس"كلماتكَ الآن تلهو من دون خالقها/ أنتَ؛/ شحوب لونكَ الذي يفوق بياض سيجارتكَ؛/ الخط الفحمي الغامق لحاجبيكَ؛/ جسدكَ المضطرب،/ أصواتكَ المليئة بدخان صمتكَ/ تذوب كلها الآن في صمت البحر./ ونبقى نحن مع فُتاتكَ النقي المدفون/ في زمانكَ وزماننا/ على الأرض". هذه السطور التي ألّفها الكاتب والشاعر البلجيكي الأشهر هوغو كلاوس، وضعها في رثاء صديقه الشاعر البلجيكي هرمان دو كونين (1944 - 1997) إثر رحيله المفاجئ أثناء أحد المهرجانات الشعرية في العاصمة البرتغالية لشبونة عن ثلاثة وخمسين عاماً، يمكننا الآن أن نكررها كما هي ونحن نكتب عن رحيل كلاوس نفسه. فقد غادر هذا الشاعر الكبير دنيانا مساء الأربعاء الماضي (19 آذار 2008) في أحد المستشفيات البلجيكية عن عمر يناهز 78 عاماً، بعد سنوات أمضاها تحت رحمة داء الألزهايمر الذي محا من عقله كثيراً من ذكرياته وجعله يعاني الأمرّين في التعرف الى أفراد أسرته وأصدقائه والمحيطين به. هذا الداء دفع كلاوس إلى أن يطلب من أطبائه أراحته من العذاب بإعطائه مصلاً يعجّل بموته، وهذا ما كان.

في السنوات الخمسين الماضية، تربّع هوغو كلاوس بدون منازع على عرش الأدب الفلمنكي والبلجيكي، حتى صار أيقونته. فهو الكاتب والشاعر والفنان والروائي الذي احترف تسويق نفسه، تارة بصداماته العنيفة مع الكنيسة وطوراً بعلاقاته العاطفية التي جعلته يرتبط بفنانات وممثلات لا تخلو من صورهن وأخبارهن صحف الإثارة وملصقات الأفلام البورنوغرافية والإيروتيكية. ففي عام 1970 انتقل كلاوس إلى الإقامة في العاصمة الهولندية أمستردام مع ممثلة ناشئة، فكانت ثمرة تلك الإقامة طفله الأول توماس. علاقة غرامية مع ممثلة أخرى تدعى كيتي كوربوا، تطرق اليها في روايته "سنة السرطان" (1972)، أدى فشلها الى ان يهجر أمستردام ليقيم من 1973 حتى 1978 في باريس، حيث علاقة غرامية أخرى مع ممثلة ثالثة هي هذه المرة نجمة سلسلة الأفلام الإيروتيكية الشهيرة "إيمانويل"، سيلفيا كريستل، والتي أنجب منها طفله الثاني آرتور. على رغم ترشّحه سنوياً لنيل جائزة نوبل في الآداب، إلا أن كاتبنا لم يحظ البتة بالجائزة، وإن تكن كتبه في الشعر والمسرح والرواية جعلته يحصد العديد من الجوائز العالمية من مختلف بلدان العالم. بعيداً من الجائزة والضجة التي تثار حولها كل عام، صنع هوغو كلاوس صورة أخرى للأدب المكتوب باللغة الهولندية، والفن التشكيلي وكتابة الأغنية، في رحلة أوصلته مبكراً إلى إصدار عشرات الروايات والمسرحيات والمجموعات الشعرية التي ترجمت إلى أكثر من عشرين لغة.

من الكتابات الصحافية التي تتابعت غزيرة بعد رحيل كلاوس، بدا الرجل أنه قرر منذ عامين على الأقل اختيار "الموت الرحيم" هرباً من داء الألزهايمر، حيث تحدثت بعض هذه الكتابات وشهادات أصدقائه أنه كان حريصاً على سؤال أطبائه عن حقوقه في طلب هذا النوع من الموت. فهذا الذي أمضى حياته الطويلة يسخر من الموت ويسمّيه "الخاسر الأعظم" في حربه الطويلة معه، نراه استسلم له أخيراً، بل وطالب به، فكأنّه بهذا القرار الجريء يثبت للمرة الأخيرة أنّه هو الذي يحدد ساعة موته، وليس الموت نفسه. حملت وصية كلاوس الأخيرة طلباً واحداً؛ أن يحرق جثمانه وينثر رماده على شاطئ مدينة أوستنده على الساحل البلجيكي.

ولد هوغو موريس جوليان كلاوس في الخامس من نيسان من عام 1929 في مدينة بروغه البلجيكية. بدأ رحلته في الحياة بمدرسة داخلية ألحقته أمه بها وهو بعد ابن عام ونصف عام، هي كناية عن أحد الأديرة الكاثوليكية المتزمتة، وبقي هناك حتى بلغ من العمر أحد عشر عاماً. شكلت هذه الأعوام أول منبع للطفولة لدى كاتبنا، وكان لها أثر كبير في تشكل شخصيته الأدبية في ما بعد، مما جعله يستعيد تلك الفترة من حياته بعد سنوات عدة في روايته الشهيرة "حزن بلجيكا" التي صدرت طبعتها الأولى عام 1983 لتجعل منه أكبر كاتب فلمنكي وبلجيكي على المستوى العالمي.

لم يكن كلاوس أحد أهم الروائيين والشعراء الفلمنكيين فحسب، بل كان فناناً لا يحدّه فن ولا يقولبه إطار موحد. عاش تجربته في عالم الأدب كمغامر كبير. منذ التحاقه عام 1946 وهو ابن سبعة عشر عاماً بأكاديمية الفنون الجميلة في مدينة خنت البلجيكية دارساً النحت والفنون التشكيلية، غلب اتجاهه الأدبي عليه فبدأ بكتابة الشعر وأصدر مجموعته الأولى "سلسلة صغيرة" عام 1947. كانت أشعار كلاوس فيها مفعمة بالمشاعر الدافئة والأحاسيس المراهقة، لكنها أعلنت الموهبة الفذة للكاتب الشاب في اللعب باللغة الهولندية التي كانت توصف حتى ذلك الحين بالتحجر والجمود وعدم مناسبتها للشعر. تطور الحس الشعري لدى كلاوس في الخمسينات لينحاز أكثر فأكثر إلى الحداثة وليواكب الحركات الأدبية الأحدث في العالم، وقد بلغ هذا الإنحياز ذروته في مجموعته الشعرية "قصائد أوست أكرسه" (1955)، لكن كلاوس سرعان ما عاد لاحقاً في قصائده الأحدث إلى الحس الكلاسيكي، ولكن في قالب شخصي يمزج التفاصيل الشخصانية بالحكايات الأسطورية التي تمجّد الأنثى في شكل مضاد للبطريركية الذكورية.

بدءاً من عام 1993 عاد كلاوس إلى الاستقرار العاطفي من جديد، فتزوج هذه المرة من فتاة بلجيكية تدعى فيرلا ده ويت وأقام معها في مدينته الأحب خنت، وبعد عامين غامر بكتابة أول فيلم وإخراجه في حياته، كمشاغب كبير في عالم الفنون والأدب، فظهر عمله "الأعداء" من دون أن يترك إضافة ما إلى تاريخه الأدبي، اللهم إلا تأكيد روح الأديب البلجيكي غير القابلة للتصنيف. فهو كتب الشعر والرواية والمسرح والسيناريو إلى جانب الرسم والإخراج، حتى كتابة الأغنية لم تنج منه، حيث قدم عدداً من أشهر الأغاني التي غنّتها المطربة الهولندية المعروفة ليسبت ليست. على مدار تاريخه الأدبي قدّم كلاوس سبعاً وعشرين مجموعة شعرية، وستاً وعشرين رواية، وأربعاً وأربعين مسرحية، وقبل حلول عامه الخامس والسبعين، أصدر عام 2003 مجموعته الشعرية "تنهيدة البحر" التي أعلن بعد صدورها أنه لن يكتب الشعر مرة أخرى. وللمفارقة صدرت هذه المجموعة في 76 ألف نسخة بيعت بأكملها في الأسبوع الأول من صدورها.

برحيل هذا الكاتب الكبير، تضيع آمال البلجيكيين في وضع أدبهم المعاصر على لائحة جائزة نوبل للآداب، وهذا ما بدا واضحاً في المراثي التي ملأت الصحف البلجيكية الصادرة باللغتين الهولندية والفرنسية. فما من أحد إلاّ كتب متحسراً على رحيل كلاوس من دون أن يحصل على الجائزة العالمية، وبدت بعض الكتابات في حدّتها كأنما تدين الجائزة والمؤسسة القائمة عليها لأنها استعصت على كاتبهم الكبير في السنين العشر الماضية.

قصيدتان

كاليغولا

في هذا المكان
ستنمو الورود وزهور الفجل الأحمر
سيحدث في أيار
وفي بستان مزهر
وبجوار قضبان قطار ريفي
الآن
في ريح كانون الاول الباردة

في الريح
من دون ضوء
من دون رعاة غنم
من دون طيور
يموت مهر صغير متجمداً من البرد.
مهر آخذه معي إلى دفء البيت
ظلّت الساعات والأيام تمرّ في طريق الحياة الواسعة الى جواري

(الحياة التي صُنعتْ من خطيئةٍ طائشة)
وظللت أنتظر وأنتظر
كي يكون امتلاء المهر بالإمتنان
سبباً في انصهار الجليد عنه
قائلاً أولى كلماته
لي.
من مجموعة
"أكتبك" (2002)
حتى الآن

ما من شبيه لها بين النساء
ليس من بينهن من تمتلك هذا الفم المجدب الذي هزّني
لو تستطيع روحي المجنونة لحكَتْ عنها
لكنّ روحي دُمّرت تماماً.

***

حتى الآن
لا تزال ترتعش أمامي من التعب
همستْ: "لماذا تفعل ذلك؟
لن أتركك أبداً يا ملكي"
لم يكن هناك ملك طائش وفاقد للحس مثلي
جعلتها ترى كيف يبكي الملوك دموعاً
من عين واحدة.

***

حتى الآن
ترتعش ساقي
كلما فكّرت في حبيبتي الضائعة
كلما تذكرت أيّ شخص يقطفها الآن
زهرة الدفلى التي تتمشّى خفيفة في المروج
كي تنزع النبتات الشيطانية
التي زرعتُها بدأب
في حديقة الرغبة.

عن الهولندية:
عماد فؤاد
من نص شعري طويل بالعنوان نفسه سجله الشاعر بصوته وبيع على أسطوانات CD عام 1999 لمناسبة بلوغ الشاعر عامه السبعين.

النهار
مارس 208