77 عاماً من الكتابة والجنون والولع بالنّساء

ترجمة وتقديم: عماد فؤاد
بروكسيل

هوغو كلاوسفي عام 2004 قامت هولندا وبلجيكا بتنظيم احتفاليات ثقافية ضخمة لمناسبة مرور خمسة وسبعين عاماً علي مولد الكاتب والشاعر والروائي البلجيكي الأشهر هوغو كلاوس HUGO CLAUS، هذا الكاتب الذي يوصف بأنه أبو الأدب الفلمنكي، ومجدد اللغة الهولندية القديمة، وصاحب أكثر الكتب مبيعاً في البلدين بلجيكا وهولندا، وعلي الرغم من ترشيحه سنوياً لنيل جائزة نوبل في الآداب، إلا أن كاتبنا لم يحظ بها حتي الآن، وإن كانت كتبه ومؤلفاته في الشعر والمسرح والرواية جعلته يحصد العديد من الجوائز العالمية من مختلف بلدان العالم.

ولد هوغو موريس جوليان كلاوس في الخامس من نيسان (أبريل) سنة 1929 بمدينة بروغه Brugge البلجيكية، ألحقته أمه وهو ابن عام ونصف بمدرسة داخلية في أحد الأديرة الكاثوليكية حتي بلغ من العمر أحد عشر عاماً، هذه الأعوام كان لها أثر كبير في تشكل شخصية كلاوس الأدبية، مما جعله يستعيد هذه الفترة من حياته بعد سنين عدة ويضمنها أحداث روايته الشهيرة حزن بلجيكا Het verdriet van Belgi‰ الصادرة في عام 1983.

في عام 1946 يلتحق كلاوس وهو ابن سبعة عشر عاماً بأكاديمية الفنون الجميلة بمدينة خنت Gent البلجيكية دارساً النحت والفنون التشكيلية، لكن اتجاهه الأدبي يبدأ في السيطرة عليه شيئاً فشيئاً، فيبدأ في كتابة الشعر ويصدر مجموعته الشعرية الأولي سلسلة صغيرة Kleine reeks 1947، في هذه المجموعة كانت أشعار كلاوس كعادة الشعراء الصغار مفعمة بالمشاعر الدافئة والأحاسيس المراهقة، لكنها جاءت معلنة عن موهبته الفذة في اللعب باللغة الهولندية التي كانت توصف حتي ذلك الحين بالجمود وعدم مناسبتها للشعر! يتطور الحس الشعري لدي كلاوس في الخمسينيات لينحاز أكثر فأكثر إلي الحداثة وليواكب الحركات الأدبية الأحدث في العالم، هذا الإنحياز الذي بلغ ذروته في مجموعته الشعرية قصائد أوست أكرسه Oostakkerse gedichten 1955، يعود كلاوس في قصائده الأحدث لاحقاً إلي الحس الكلاسيكي ولكن في قالب شخصي يمزج فيه التفاصيل الشخصانية بالحكايات الأسطورية التي تمجد الأنثي في شكل مضاد للباترياركية.
في عام 1950 يصدر كلاوس أولي رواياته صائد البط De Metsiers، أما في مجال دراساته التشكيلية فيصبح أحد أبرز أعضاء حركة كوبرا الشهيرة في الفن التشكيلي العالمي، شجعه علي الالتحاق بهذه الحركة الرسام البلجيكي دوترمون لما لاحظه علي الفنان الشاب من موهبة ميزته عن أقرانه، لكن هذا الاحتكاك بعالم الحركات الفنية في التشكيل لم يثنه عن ولعه بالأدب، فيبدأ في العمل بالصحافة وهو ما جعل اسمه يتردد في الأوساط الأدبية بفضل كتاباته المنتظمة في عدد من الصحف البلجيكية والهولندية. في مجال الكتابة المسرحية يشتهر كلاوس دولياً بمسرحيته عروس في الصباح Een bruid in de morgen 1955، ثم يصدر مسرحيته سكر Suiker 1958، في هذه الفترة تميزت عوالم مسرحياته باعتماد أجوائها علي عوالم الروايات والأدب القديم كما في أعمال وليم شكسبير وسيرفانتس وغيرهما، لكن تظل مسرحيته الجمعة Vrijdag 1969 أشهر مسرحياته وأكثرها نجاحاً، والتي تحولت إلي فيلم سينمائي في عام 1980.

في الروايات التي كتبها كلاوس نجد ولعه بالأساطير كما في روايتيه أيام الكلب De hondsdagen 1952، و الخجل Schaamte 1972، ولكن إلي جوار هذه الروايات التي تتخذ من الأسطورة قالباً لها، نجد أن كلاوس يصدر في عام 1978 روايته الواقعية الرغبة Het Verlangen ورواية حزن بلجيكا Het verdriet van Belgi‰ 1983 والتي ضمنها أحداثاً تسجيلية عن تاريخ إحدي العائلات البلجيكية، لكنه في الوقت نفسه يضمنها أحداثاً اجتماعية وسياسية وقعت إبان الحرب العالمية الثانية، وبفضل النجاح الكبير الذي حققته حزن بلجيكا يتم تحويلها إلي مسلسل تليفزيوني في عام 1994 لاقي نجاحاً مذهلاً سواء في بلجيكا أو هولندا، ولن نجاوز الحقيقة حين نقول إن روايته هذه هي التي نصبته أباً للأدب البلجيكي المكتوب باللغة الهولندية، حيث ظلت أعواماً تحافظ علي موقعها في قائمة الأفضل مبيعاً في هولندا وبلجيكا، وترجمت إلي أكثر من عشرين لغة، وأصبحت اللغة الهولندية حين تتباهي بكتابها الكبار تذكر اسمين لا ثالث لهما: الهولندي "هاري موليش Harry Mulisch 29 يوليو 1927- ..... ، والبلجيكي هوغو كلاوس نيسان (أبريل) 1929- ......

في عام 1969 يكتب هوغو كلاوس مسرحية الجمعة Vrijdag ويتم افتتاحها في العاصمة الهولندية أمستردام، وربما كانت هذه المسرحية هي أول عمل أدبي يتجلي فيه وبوضوح الأسلوب الذي سوف يشتهر به كلاوس أدبياً فيما بعد، ألا وهو مزجه السحري بين اللغة الهولندية الفصحي ولهجاتها المتعددة في بلجيكا وهولندا، وبدءاً من عام 1970 ينتقل كلاوس للعيش في العاصمة الهولندية أمستردام ويقيم هناك - وبعيداً عن عش الزوجية الذي جمعه بممثلة ناشئة وكانت ثمرته طفله الأول توماس ـ علاقة غرامية مع ممثلة أخري تدعي كيتي كوربوا ، وهي العلاقة التي يتناولها في روايته سنة السرطان Het jaar van de kreeft 1972، وعلي أثر فشل هذه العلاقة الغرامية يهجر الكاتب المولع بالنساء أمستردام ليقيم في الفترة من 1973 وحتي 1978 في باريس، حيث علاقة غرامية أخري مع ممثلة ثالثة هي هذه المرة نجمة سلسلة أفلام الإيروتيك الشهيرة إيمانويل Emmanuelle سيلفيا كريستل Sylvia Kristel والتي ينجب منها طفله الثاني آرتور .
بدءاً من عام 1993 يعود كلاوس للاستقرار من جديد عاطفياً، ويتزوج هذه المرة من فتاة بلجيكية تدعي فيرلا دو ويت ويقيم معها في مدينته الأحب خنت . بعد عامين من هذا الاستقرار العاطفي والنفسي يغامر هوغو كلاوس بكتابة وإخراج أول فيلم في حياته كمشاغب كبير في عالم الفنون والأدب، فيظهر عمله الأعداء De Vijanden دون أن يترك إضافة ما إلي تاريخه الأدبي اللهم إلا التأكيد علي روح أديب بلجيكا الغير قابلة للتصنيف، فهو يكتب الشعر والرواية والمسرح والسيناريو إلي جانب الرسم والإخراج، حتي كتابة الأغنية لم تنج منه، حيث قدم عدداً من أشهر الأغاني التي غنتها المطربة الهولندية المعروفة ليسبت ليست Liesbeth List علي مدار تاريخه الأدبي قدم هوغو كلاوس إلي الأدب المكتوب باللغة الهولندية سبعا وعشرين مجموعة شعرية، وستا وعشرين رواية، وأربعا وأربعين مسرحية، وقبل حلول عامه الخامس والسبعين، أصدر كلاوس في عام 2003 مجموعته الشعرية تنهيدة البحر Zeezucht التي أعلن بعد صدورها أنه لن يكتب الشعر مرة أخري، وللمفارقة صدرت هذه المجموعة في 76 ألف نسخة بيعت بأكملها في الأسبوع الأول من صدورها.

مختارات شعرية لـ هوغو كلاوس

1917

لو تصمت المدافع ـ وقت القداس ـ في الجبهة الأخري
لسمعنا صمت الميتين الذين يئنُّون.

حينها سوف نسنُّ رؤوس رماحنا.
فبعد قليلٍ لن يتبقي سوي أمواس الحلاقة.
يستطيع المرء أن يشوِّه نفسه بسهولةٍ.

يدور الكونياك.
كُتِبَتْ الخطابات إلي البيت.
واطَّلع عليها ضباطنا أولاً:
عزيزتي ماجدة
حانت اللحظة
علينا مراعاة الوصول هناك قبلهم
قال قائدنا:
كما في الكرة
الهدف الأول يضعف معنويات العدو .

ماجدة العزيزة
قناع الغاز بدأ في التراخي علي وجهي
ألا زلت تذكرين،
في الغابة؟ .

من مجموعة سعادة قاسية 1999.

مرثية لهرمان

سيأتي الحاضر مثل البحر قلتَ
والحاضر هناك الآن
وأنتَ هنا.

كل جملة منكَ نبوءة
ستصبح الأشكال ديدانا قلتَ **

سرتَ بجانبي وسألتُكَ:
هل استطعتَ النوم؟
نعم، في الحقيقة لا ، أجبتَ
وحين أمسك شخص ذراعي
لم ألتفت ورائي
كنتَ ملقي علي الرصيف ذي الأحجار البرتغالية الصغيرة
سمعتُ موتكَ
حين وضع أحدهم ثلاث أزهار قرنفل فوق صدركَ

كلماتكَ الآن تلهو دون خالقها
أنتَ،
شحوب لونكَ الذي يفوق بياض سيجارتكَ،
الخط الفحمي الغامق لحاجبيكَ،
جسدكَ المضطرب،
أصواتكَ المليئة بدخان صمتكَ
تذوب كلها الآن في صمت البحر.

ونبقي نحن مع فُتاتكَ النقي المدفون
في زمانكَ وزماننا
علي الأرض.

* كتب هوغو كلاوس هذه المرثية في صديقه الشاعر البلجيكي هرمان دو كونينك (Herman de Conick 1944ـ 1997) الذي مات فجأة أثناء أحد المهرجانات الشعرية بالعاصمة البرتغالية ليشبونة عن 53 عاماً، هنا يستعيد كلاوس إحدي أشهر القصائد التي كتبها هرمان دو كونينك وهي بعنوان مثل البحر .

إلي العمة إميلدا

من نِعم الحروب
أن تشح حصص الطعام
وتجعلك تفقدين الكثير من الوزن.

العمة إميلدا
تستطيع الآن أن ترتدي ملابس السنة الماضية
بل وتتجرأ علي الغناء أمام الملأ.

في النور المغبَّش لقاعة احتفالات القرية
وسط باقات أزهار البلاستيك
تصبح العمة إميلدا
الكونتيسة ماريتزا *

*من مجموعة أكتوبر 43 (1998).

أكتبكِ

امرأتي، مذبح قرابيني الكافر
الذي أداعبه عزفاً بأصابع من نور
غابتي الصغيرة التي أبيت فيها شتائي
آيتي، مريضة الأعصاب، المدنسة، العطوفة
أكتب تنفُّسكِ وجسدكِ
في نوتات الموسيقي.

لأذنيك أزفُّ وعدي بأبراج فلكية
لم يستعملها أحد من قبل
وأعدُّ لك من جديد رحلات إلي بلاد العالم
خوفاً من توقف إجباري في بقعة ما.

ولكن لدي الأرباب ومجرَّات النجوم
تصبح السعادة الأبدية أيضاً مميتة تعباً
وليس لديَّ منزل، ليس لديَّ فراش
حتي أنني لا أملك الرغبة في إهدائك زهوراً لعيد ميلادك.

أكتبكِ علي الورق
فيما أنتِ
تنتفخين وتتبرعمين
كبستان مثمرٍ في يوليو.

* من مجموعة أكتبك 2002

سمّ

في هذه اللحظة
تكسَّر صوتي إلي قطع صغيرة
كما لو أنَّني بحثتُ عن طريقة أتحدث بها عالياً
كما لو أنَّني أصبحتُ عطشاً، وكسرني العطش
أصبحتُ غضوباً، شجياً
وتخثرتُ في ماء هذا العالم الصعب
سمٌ هو الغفران البشري
أعيش بداخل هذا العالم
كوسط الفاكهة وقشرتها
صانعاً أسرار الحياة السرية الخاصة بالإنسان في مداره.

* من مجموعة قصائد أوستاكرسه (1955)

ترقص الأرض فوق سحابها

ترقص الأرض فوق سحابها
بصحبة طنين الطبقة المتوسطة
الأمواج العالية لم تعد تطولني
ولا حتي موجة اسمها الرحمة

هل تستطيع القصيدة أن تفكر؟
بأي طريقة؟
الأرض موجودة
ولأجل العناية بالطين
لأجل نحت الأفكار
أنظر في عيوني!
لا تبقَ منتظراً ولا تبقَ مستخفاً!

بالحثِّ علي التطهر فقط
يمكن للشعر أن ينقذ نفسه
تنمو الجملة، تتبرعم وتتناثر.

* من مجموعة صارخ 2004

كاليغـولا

في هذا الموضع
ستنمو الورود وزهور الفجل الأحمر
سيحدث في مايو
وفي بستان مزهر
وبجوار قضبان قطار ريفي
الآن
في ريح ديسمبر الباردة
في الريح
دون ضوء
دون رعاة غنم
دون طيور
يموت مُهْر صغير متجمداً من البرد.

مُهر آخذه معي
لأضعه في دفء البيت
ظلَّت الساعات والأيام تمرُّ في طريق الحياة الواسعة جواري
(الحياة التي صُنعتْ من خطيئةٍ طائشةٍ)
ظللت أنتظر وأنتظر
كي يكون امتلاء المهر بالامتنان
سبباً في انصهار الجليد عنه
قائلاً أول كلماته لي!

* من مجموعة أكتبك 2002

حتي الآن

ما من شبيه لها بين النساء
ليس من بينهن من تمتلك هذا الفم المجدب الذي هزَّني
لو تستطيع روحي المجنونة لحكَتْ عنها
لكنَّ روحي دُمرت تماماً.

* * *

حتي الآن
لا تزال ترتعش أمامي من التعب
همستْ: لماذا تفعل ذلك؟
لن أتركك أبداً يا ملكي
لم يكن هناك ملك طائش وفاقد للحس مثلي
جعلتها تري كيف يبكي الملوك دموعاً
من عين واحدة.

* * *

حتي الآن
ترتعش ساقي
كلما فكَّرت في حبيبتي الضائعة
كلما تذكرت أي شخص يقطفها الآن
زهرة الدفلي التي تتمشَّي خفيفة في المروج
كي تنزع النبتات الشيطانية
التي زرعتُها بدأب
في حديقة الرغبة.

* من نص شعري طويل بالعنوان ذاته سجله الشاعر بصوته وبيع علي أسطوانات CD في عام 1999 بمناسبة بلوغ الشاعر عامه السبعين.

القدس العربي
2006/06/05