هاشم شفيق

هاشم شفيقكانت المرة الأولى التي ألتقي فيها بسام حجار هي في عام 1979، أي قبل ثلاثين عاماً، وذلك في مبنى جريدة «النداء» اليومية لسان حال الحزب الشيوعي اللبناني الكائن آنذاك في منطقة بربور.

مبنى الجريدة لم يكن حينها بعيداً من محلة سكني في «برج أبو حيدر» فهو يقع على مرمى خطوات مني، كنت أقطعها راجلاً، لألتقي بسام في القسم الثقافي الذي كان يضم أيضاً الصحافية سابقاً الروائية حالياً علوية صبح، والقاص سابقاً ومقدم برنامج
«روافد» حالياً أحمد علي الزين، وكان يتردد على الجريدة لينشر قصائده مثلي الشعراء شوقي بزيع، جودت فخر الدين، حسن عبدالله وحمزة عبود. كانت أياماً راديكالية تلك، وأريج اليسار يملأ الأمكنة، الكل كان له شعر طويل وسوالف عريضة، وعليه تلوح سمات هيبيّة، بسام كان ملتحياً بلحية غيفاريّة، وهو كان آنذاك قريب الشبه بتشي غيفارا، بحقيبته الجلدية وملابسه الجينز التي تشي بروح عدمية، ولكنها صامتة، شفافة، هادئة، إذ ليس من قبيل المصادفة أن يعنون ديوانه «مشاغل رجل هادئ جداً» وهو الأول له الصادر عام 1980. في العام ذاته سيصدر ديواني الثاني «أقمار منزلية» تلاه في العام اللاحق ديواني الثالث «شموس مختلفة». سيكتب عنهما بسام بعذوبة ودقة متقصياً أبعادهما، مما سيكشف لي بسام الناقد المدفون في أعماق الشاعر العارف بأسرار مهنته والمثقف غير العادي، بعد ذلك سيضيف الزمن الى المسار الإبداعي للشاعر بسام حجار بسام المترجم الخلاق، الدقيق، المزود عدّة لغوية قديرة صافية ومنيرة، هدفها الإبداع

غير الحرفي الخاضع للإرادة القاموسية، بل لمسنا المترجم الذي حول نصوصاً روائية وفكرية الى العربية بكد جمالي بائن قلّ نظيره مقارنة بترجمات روائية منقولة عن الفرنسية.

سأظل على صلة ببسام حجار، ألتقيه مرة في مقهى «الغندول» الذي لا يزال قائماً، ومرة في مقهى «الأكسبرس» الذي أغلق منذ أكثر من عقدين، حتى وقع حصار بيروت صيف عام 1982، حيث تضيق الأنفس والأماكن، فيصبح كل شخص أمام مصير غامض ومجهول، حينها أخرج من بيروت مكرهاً الى دمشق بعد معاناة قاسية مع الحرب، في هذه الأثناء يكتب بسام حجار في شهر آب (أغسطس) من العام ذاته قصيدة يهديها الى عبده وازن، الواضح من القصيدة أنها تؤبد تلك المرحلة وتصف حال أناس في الأقبية، يحتمون بها، هرباً من القذائف والصواريخ والبارود الذي كان ينهال بالأطنان براً وبحراً وجواً من جانب القوات الإسرائيلية على بيروت، تقول القصيدة:

«الأنفاس الضيقة لجالسين في الغرف
في الأقبية الطويلة، لنظرات داكنة، حيث الأرواح التالفة
لمعاقين وعجائز، حيث هذا الرأس المؤثث بالعتمة والنفتالين.

لكن القلوب التي في العراء أرومة بشر وأعمار وبيوتْ» (الصفحة 48 من ديوان «أروي كمن يخاف أن يرى» وهو الثاني للشاعر).

أغيب عن بسام قرابة الخمس سنوات وهي فترة طويلة في تلك الحقبة الخالية من المشاغل، قياساً بالأزمنة الحالية المتسارعة المتخمة بالمبتكرات التقنية - التكنولوجية، أغيب عنه ولكنني اظل متابعاً لنصه الإبداعي، حتى ألتقيه مجدداً في مدينة ليماسول القبرصية، رفقة مجموعة صديقة تجمع حسن داوود، عباس بيضون، ومحمد علي فرحات. وليماسول مدينة رقيقة، بحرية، شديدة الشبه ببيروت. أنا كنت أسكن حينذاك في العاصمة نيقوسيا حيث مقر عملي في مجلة «بلسم» والعاصمة كانت تعج بصحافيين وكتاب عرب كسليم بركات وسعدي يوسف وأمجد ناصر صديق المنافي الطويلة وبول شاوول وعقل العويط وغيرهم من الفنانين والأدباء.

بعض الكائنات البشرية تؤمن بالمصادفة والأقدار، وأحياناً المصادفة البحتة هي التي تقرر القدَر الإنساني وترسم له المصير، المبتدى والمنتهى، الولادة والموت، أنا أحد هذه الكائنات التي عاشت المصادفات ورأت الى الأقدار كيف تقودها من دون سابق تخطيط، من هنا قادني قدري عام 1989 لمغادرة قبرص الى براغ، ومن هناك وقبل أن يتغير النظام التوتاليتاري فيها بأشهر اتجهت الى لندن لأقيم في العاصمة البريطانية في شكل نهائي. لذا، على رغم تقلبات الزمن ظلت صلتي ومتابعتي لبسام حجار سارية، عبر أصدقاء يأتون ويذهبون ما بين بيروت ولندن.

في سنوات التسعين ستتواتر إصدارات بسام على الصعيد الشعري وعلى صعيد الترجمة وسينهمك في تقديم عيون الروايات العالمية، وسيصدر في السنوات عينها ترجمة راقية وبهية لشعر الهايكو الياباني. في عام 1991 أدعى الى مهرجان شعري في مدينة بواتييه الفرنسية، أتطلع الى الأسماء المشاركة، فأجد إسمي بسام حجار وعيسى مخلوف في القائمة، أسرّ حالاً بالصحبة، خصوصاً بسام. خلال أيام المهرجان سننتظر بسام ان يصل حتى ولو متأخراً، وفي الغرفة التي تقاسمتها مع عيسى في أحد تنقلاتنا داخل القرى الفرنسية، كنا نتندر ونقول إن أتى بسام حجار فسيكون النزيل الثالث في الغرفة، لكنّ بسام لم يأت، ولكي يكون حاضــراً بينـــنا، في أي شكل من الأشكال، تقرأ قصائده نيابة عنــه خلال أمسيات المهرجان، فتـــترك تلـــك القراءة صدى لدى المتلقين في مدينة بواتييه الفرنسية.

في عام 1993 يستبد بي الشوق ويجرحني بريش خفيف، وحين أحصل على جواز سفر موقت، أقهر الحنان برحلة دراماتيكية الى بيروت رفقة عائلتي، فالانقطاع عن بيروت كان طويلاً وخارجاً عن إرادتي، حنيني سيدفعني لزيارة الأمكنة القديمة، الشوارع والساحات والمقاهي والحانات زائداً الوجوه الصديقة التي ستضفي على الرحلة عطرها الخاص. سألتقي في هذه الرحلة جميع أصدقائي القدامى من الشعراء والأدباء والكتاب وبسام حجار من ضمنهم. التقيته في مبنى «النهار» القديم في أول شارع الحمرا، حيث كان يعمل مع شلة نادرة في جريدة «النهار»، سنلتقط صوراً ونشرب شاياً وقهوة وننتظر مصير المساء الذي سيضع حداً لهذه المنبهات والمنشطات الساخنة في صيف مترع بالحرارة.

في السنوات التي تلت سأرى بسام كثيراً، في المكان ذاته، في مقعده ذاته، منكباً على الأوراق، حادباً عليها كأنه كان يحميها من عدوان ما، القلم بيد والسيجارة بيد أخرى، وبين الفينة والفينة يتفرس في أفق غامض يرسل نظرته الحادة اليه. في إحدى رحلاتي البيروتية لم أجد بسام في الجريدة، قيل لي إنه قد تفرغ لسلسلة ترجمات طويلة، نأخذ أنا والصديق الشاعر إسكندر حبش باصاً باتجاه صيدا لنزوره في دارته، هناك سنتفكه على حالنا وحال العالم لنعود ليلاً ثملين الى بيروت. بعد «النهار» سيعمل بسام حجار في صحيفة «السفير»، ولن أنسى ما حييت أيام مهرجان جرش عام 1997 الذي حضره بسام حجار كشاعر أولاً وصحافي ثانياً، حيث قرأ الى جانب عبدالقادر الحصني وشوقي بغدادي وعناية جابر وكاتب هذه السطور. كانت هذه المرة الأولى التي أرى فيها بسام في مهرجان شعري كبير ومتنوع، لكن بسام على رغم هذا الحضور الموارب، ظل لصيق ظلاله، متخفياً وراء عاداته، جليس الغرفة صحبة خلوته، نديماً وحيداً لكأسه، وحين خرج من معتكفه ليتنادم ويسهر اختار أن يكون معنا، سركون بولص وخيري منصور وأنا، في حكايا ومرويات واقعية ذات نكهة خرافية اختلطت بالدخان وروائح الشراب ودماثة الشعر حتى طلوع الصباح علينا في تلك الليلة الليلاء من ذلك المهرجان في العاصمة الأردنية. أما آخر لقاء لي مع بسام، فكان قبل اكثر من عام في مبنى جريدة «المستقبل» حيث مقر عمله ومقعده الأخير.

الحياة
11/03/2009