هاشم شفيق
(العراق/لندن)

هاشم شفيق بصمت وبلا ضجيج كحياته، رحل الشاعر البصري المرهف حسين عبداللطيف بعد معاناته مع دائه الذي حمله من دون شكوى ، على رغم الآلام المبرّحة والأوجاع التي فتكت بجسده وهو لم يزل في نهاية الستينات.
هذا الشاعر المخضرم، كان مثالاً للشاعر الخفر والحساس وهو كان ينتمي إلى جيل ظهر في أعقاب الستينات، وهو جيل حائر، وربما هذه الحيرة، كانت لمصلحة هذا الجيل الذي ضمّ أسماء كثيرة من مختلف محافظات العراق. جيل ظهر في حقبة تقع على الحواف، أو في الأطراف الزمنية المتبقية من حقبة الستينات المُدوّية، ثقافياً وإعلامياً وإبداعياً، ما أدى بهذا الجيل الحائر إلى أن ينجو من عملية التجيّيل النقدية التي فرضت على الجيلين الستيني والسبعيني، تلك العملية التي حددت حركة الجيل ونشاطه الثقافي بعقد زمني من السنوات.
هنا تمكن الإشارة على سبيل المثل إلى شعراء هذه الفترة الحائرة، مثل عبدالكريم كاصد ومهدي محمد علي ومصطفى عبدالله وحسين عبداللطيف من البصرة، من بابل موفق محمد، ناهض الخياط، من واسط عادل العامل، حميد حسن جعفر، من الموصل، عبدالوهاب إسماعيل، معد الجبوري، من كركوك الأب يوسف سعيد، من الناصرية شوقي عبد الأمير، من بغداد وبقية المحافظات، وليد جمعة، حميد الخاقاني، نبيل ياسين، رياض قاسم، عبدالقادر العزاوي، حسين حسن وغيرهم من الأسماء التي لا أريد أن أطيل بذكرها.
إذاً، نجاة الشاعر حسين عبداللطيف من ربقة العِقد الذي طوّق به النقاد العراقيون شعراء العراق، كان بمثابة الفكاك من نير العبودية النقدية التي لطالما كانت قاسية تجاه الشعراء العراقيين، خصوصاً الجيل الستيني والسبعيني وطاولت فيما بعد، وعلى جري العادة والحقبة الزمنية الجيل الثمانيني أيضاً.
من المميزات التي حفل بها شعر حسين عبداللطيف 1945 - 2014، خلال مسار تجربته الطويلة التي امتدت لأكثر من أربعين عاماً، وأفردت له مكاناً خاصاً بين الشعراء، لكونه شاعراً يحسب للكلمات حسابها. فهو لم يصدر خلال كل هذه السنوات التي حفلت بالشعر والكتابة سوى خمس مجموعات شعرية لا أكثر، وكان على الدوام يعيد الصقل في التجربة، يشذب ويحذف ويبتسر، من أجل الشعر الصافي، من أجل الفن الراقي الملموم والمختصر في كلمات قليلة. كانت قصيدته تطل شفافة ناعمة، في زمن المطوّلات والتدفق الشعري والقصائد الملحمية التي تمتد لتغطي ديواناً شعرياً كاملاً. من أين كانت ستأتي الشراهة إلى قصيدة حسين عبداللطيف وهي شبعى ومرتوية، لا تلتفت كثيراً إلى الغث لكونها خفيفة، خالية من المُحسّنات البديعية، مقتّرة على نفسها مما هو شائع في عالم الشعر من كنايات تسبح في عالم المجاز والاستعارة.
قد تكون هناك استعارة في قصيدة حسين، لأنها في النهاية شعر يتكئ على أدوات جمالية وفنية، لكنّ الاستعارة تأتي في القصيدة ضمن إشارة بليغة، والمجاز حين يحل، فإنه يحل رشيقاً خالياً من الترهل والزوائد البلاغية. في النهاية إنها قصيدة مبتسرة، ناحلة وبسيطة المعجم، ثرية الخيال كقوله: «سأشعل ناراً وأدعو الطفولة/ لتجلس قربي، أقول لها: يا زهيرة بطّ ويا فرعَ توت وجلنار/ تعالي لأطعمك خوخة/ من بخارى/ وبطيخة كلّ ضلع هلال».
هذا الشعر يعيدنا من دون وعي إلى شفافيته المفرطة، إلى الطفولة، لنلهو معها، متذكرين الجمال الذي يكون بحوزتها دائماً، والبراءة التي تتمتع بها ونحن نشارف على النهايات، فهي ونحن في هذا الخضمّ المُعين والدليل والمُخَلّص في أيام الأسى والالتياع والخسائر التي تطفو على وجه الحياة. إنها قصائد البراءات الأولى التي تدعونا إلى الإصغاء إلى الجو ذاته: «سأجثو على ركبتي، أمام النهار، وأدعو الطفولة لتجلس قربي/ أقول لها بالتياعي، لقد كان لي ذات يوم جناح/ وفي شفق من رياحك ضاع جناحي/ فهل في الصباح الضحى، بعده الآن قبل الظهيرة تمرّ اللقالقُ...».
يحاول الشاعر حسين عبداللطيف، عبر الدماثة والرهافة والشفافية استعادة الماضي، استعادة أوقات من الذكرى، وأية ذكرى؟ إنها الطفولة، حتى لو كانت مرتبكة ومضطربة لكائن من كان، لأنها تبقى في المآل، أكثر جمالاً من الحاضر، بالأخص الحاضر العراقي، المتأزم والمتداعي والموسوم بالقهر المستشري والمتواصل.

إن هذا الطفل في القصيدة، اللاعب في الفضاءات وبين الزهور والأعشاب البرية والأنهار والضفاف المؤثثة برائحة الطلع وثمار البساتين، هذا الطفل الراكض وراء الطيارات الورقية والألعاب اليدوية، المشوي بالشموس والمسحور بمرأى النجوم الليلية، إنه في حاجة وهو في خريفه وسنواته المتبقية له إلى الهدأة والرضا وراحة البال، إنه: «بحاجة إلى النوم/ إلى نوم طويل ونسيان/ إلى نسيان وعزلة/ إلى عزلة في الجمال، إلى الهروب/ أو ترك العشب/ ينمو على الأثير».
في «المختارات» الشعرية التي أصدرتها دار الجمل للشاعر، وهي أيضاً قليلة (تقع في مئة وخمسين صفحة)، يُفيد حسين عبداللطيف من تقنيات الحداثة، وما بعدها في بعض المطارح، فتارة ينحو إلى الكولاج وتارة أخرى، يميل إلى السيناريو والديالوغ لمخاطبة الآخر، الحبيب والغائب والمتواري وراء أستار من الكلمات والغوامض والمواجد. مسترسلاً تراه في في حال من العشق والتهجد المؤسي في مناجاة الحبيبة ومن يهوى قلبه، مستعيناً بمسوّغات كثيرة وشطحات عرفانية قد مست متن القصيدة ونسيجها الداخلي، بالأخص ذلك الآتي من محيي الدين بن عربي الذي تراه يرد في أكثر من مكان في قصائده الملتاعة، إنه التوسّل الصوفي المحفوف باللوعة والتعبّد والأشواق المسترسلة لمناغاة المعشوق، عدا المونولوغ الداخلي الذي يحمل في طياته إفادات من المسرح وتقنياتيه الفنية ومخاطباته الحوارية، فهناك دائماً سؤال لشخص يوجّه إليه، وتجد دائماً من يجيب عليه في الضفة الثانية.
شعر حسين عبداللطيف الذي صاغ صوته الهامس بصعوبة، نجده، مثل أي فن آخر في الزمن العراقي الجديد! يكاد يضيع لتعلو عليه أصوات الساسة الغثة والزاعقة، أو لتغطيه بالكامل أصوات الانفجارات والمدافع والرصاص الذي ثقب سماء العراق الزرقاء.

الحياة 3 سبتمبر 2014