انطوان أبو زيد

في مكتبه ببيروت في الثمانينيات مرحلة تأسيس الغزل الإباحي والرومنسية الريفية:
وهي تمتدّ من بداية الأربعينيات وحتى منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، والتي شهدت صدور أعمال شعرية له، من مثل: قالت لي السمراء، وطفولة نهد، وسامبا، وأنتِ لي.. وقد تميّزت هذه الأعمال بالخصائص الآتية:
أ ـ بنية القصيدة الكلاسيكية: والحال هذه، بمَ تختلف قصيدة القباني الكلاسيكية عن القصائد التقليدية العصماء الأخرى؟ فلو نظرنا الى القصائد في مجموعته الشعرية «قالت لي السمراء» لوجدنا أنّ عمارتها لا تكاد تختلف بالشيء الكثير عن بنية قصائد شعراء الرابطة القلمية (إيليا أبو ماضي)، ولا عن بنية القصيدة العربية للشعراء اللبنانيين، من الثلاثينيات أمثال: سعيد عقل، وصلاح لبكي، وأمين نخلة، وحتّى شعراء الشعر العصري من أواخر القرن التاسع عشر (أنظر شربل داغر، 2013). وبالعودة الى الأشكال النظمية التي تكوّنت منها قصائد قباني، يمكن القول أنها:
ـ كانت قصائد تقليدية، تامّة الهيئة؛ بشطرين متساويين من حيث توزّع التفعيلات، وإن تقصّد الشاعر أن يجعل الشطرين مطبعيا الواحد فوق الآخر، وكأنما للإيحاء بتوزيع الأبيات توزيعا «حديثا»؛ فعلى سبيل المثال نجد في قصيدة «ورقة الى القارئ» التي استهلّ بها الشاعر قباني مجموعته الشعرية، أنّ القصائد تتخذ بنية معيّنة: 29 بيتا تقليديا، منظومة على وزن بحر تقليدي (المتقارب، التام)، وقد وزّعها الشاعر ـ الناشر توزيعا لافتا على صفحات الكتيّب، بحيث لا يتجاوز عدد الأبيات في الصفحة الواحدة الأربعة أبيات فقط! وقد جعل الشاعر هذه القصيدة ـ المدخل بمثابة البيان الشعري الأوّل، الموجّه الى القرّاء، وفيه ينبّههم الى دور شعره الناطق بلسان البلاد الشرقية (البدو، المآذن) والمحتفي بطبيعتها (حروفي جموع السنونو.. أنا لبلادي لغيماتها، للشذا، للندى)، والحامل وجود المرأة «في تركيب»جسمه حبا وجنسا وعربدة. أما اللافت الآخر في سمة التقليدية هذه التي تميّزت بها القصائد الأربعينية، فهي أنّ الشاعر أدخل في بنيانها شكل النجوم المطبعية ـ غير الموجودة حكما في القصائد القديمة ـ التي جعلها الشاعر لتعيين أقسام في القصيدة داخلية، أو لتحديد أفكار أخرى؛ ففي الأبيات الاثني عشر الأولى من القصيدة (ورقة الى القارئ) عالج الشاعر فكرة أنّ شعره تمثيل للشرق والعرب وتمثيل للبلاد بجمالاتها ومثالاتها وفكَرها وخيالاتها. ثم لا يلبث أن ينتقل الى المقطع الثاني، عبر النجوم المطبعية الثلاث، ليعالج في أبيات عشرة أخرى فكرة مفادها أنّ شعره تمثيل للمرأة بعناصرها وشهواتها وضعفها، ما دامت جزءاً من تكوينه البشري.. وهكذا، تتوالى بنية القصائد في الديوان الأول: من «مذعورة الفستان (المجتثّ والسريع)، الى الموعد الأول (المتقارب)، وأمام قصرها (المجتثّ)، واندفاع (المتقارب)، وأنا محرومة (مجزوء الرجز)، وفي المقهى (الرمل)، حتّى نهاية الديوان، منظومة بغالبيّتها العظمى على أوزان سريعة ورشيقة، وربما لتيسير قراءتها ومضاعفة أثرها في القرّاء وتمهيداً لحفظها وتلاوتها شفاهية. ولا يكاد الشاعر قبّاني ليخرج عن ذلك السمت، في نظم القصيدة التقليدية شكلا والنيوكلاسيكية، بل الحديثة مضمونا في ديوانه الثاني «طفولة نهد»، الذي أرسى فيه نظرة الى المرأة ـ الحبيبة ديموقراطيّة وحسّية ومباشريّة إلى حدّ بعيد، ذهب فيها الشاعر الى الضدّ من رؤية الشعراء اللبنانيين المجايلين له للمرأة (سعيد عقل، صلاح لبكي...) على أنها «طيف إله..» (منصور.م،1980) (أجملُ من عينيكِ حبّي لعينيكِ فإن غنّيتِ غنّى الوجودْ ـ س.عقل). الملاحَظ، إذاً، في الكلام على خصائص المرحلة الأولى من نتاج قباني، لزمنا التطرّق الى صورة المرأة الحرّة والملموسة والقريبة المتناول والشعبيّة بمعنى ما، والتي أنزلها الشاعر من برج عاجيّتها ـ لدى الشعراء اللبنانيين ـ إلى مكانيّة وزمانية معقولتين، ومتعلّقات دالّة على هويّة المرأة الحسّية (أزرار، الضفائر السود، حلَمة، العين الخضراء، رداء أصفر، الشّفة، غرفة، وشاح أحمر..). كلّ ذلك في قوام من القصائد كان لا يزال تقليديا، وقد التزم فيها الشاعر قبّاني بنيانا نظميا وعروضيا مماثلا الى حدّ بعيد لما سبق أن اختطّه منذ البداية. ليس هذا فحسب، بل لقد ترافقت هذه الحسية والمباشرية في تناول أوصاف المحبوبة مع إطلاق الشاعر نداءه الى تحرير الغزل من عقدة الجنس، وجعله، أي الجنس، علامة فارقة في خطاب الغزل العربي الحديث، بل في الخطاب الشعري ككل. وبدا هذا النداء، في قصائد الديوانين الأولين، فجّا وصادما وسطحيا للوهلة الأولى، ما دام غيرَ متلازمٍ مع تجربة شعرية وإنسانية ناضجة كتلك التي سوف تتحصّل للشاعر، في المرحلة الثانية عنيتُ بها المرحلة الوجدانية ـ الغنائية العالية النّبرة.
ب ـ مظاهر الشعر النيوكلاسيكي والرومنسي الريفي لدى قباني:

[ أوزان بحور شعرية سريعة ومجزوءة (مجزوء الرجز، البسيط، مجزوء الرجز، منهوك الرجز، بين الوافر والهزج، المتقارب، الخ..).
[ رويّ واحد لكلّ قصيدة، وتوزيع شطري البيت الواحد، على النحو الموحي بالحداثة، وإن تجرّأ الشاعر على التلاعب بالشطرين المتساويين أكثر (لولاكِ ص:49 ـ 50)، بجعلهما شطرين غير متعادلي الحجم، فإنّ نسق الروي الغالب سرعان ما ينبّه القارئ الى وجوب اعتبار الشطر السابق أو بعض الشطر جزءاً منسوباً الى اللاحق ليكتمل الإيقاع في ذهنه، والمعنى. والحال أن مثَل الخروج المقنّن على النسق التقليدي كان يتيماً، في الديوان كلّه، للدلالة على تهيّب الشاعر لعبة تكسير نظام البيت العمودي التي سوف يتقنها في ما بعد.
[ توزيع الأبيات أقساما تفصل بينها نجوم مطبعية للإيحاء بوجود أفكار فرعية في إهاب الموضوع المحوريّ.
[ صوَرٌ بيانية مبتكرة، في الغالب، وحسّية، بل جنسية أوّلية، يواصل الشاعر من خلالها نسج عالم المرأة الريفيّ (غييمات، نجمة، العصفور، الشحرور، قرميد القرى، جبالنا، الميجنة، البيادر..) على طراز المدرسة اللبنانية الرومنطيقية، ومن ثمّ يعمد الى تسليط الضوء على مفاتن هذه المرأة، ولا سيّما النهد ثمّ الساقين والشفتين، فيجعلها ذرى استقطابية للقارئ العربي ـ المطبوع على الكبت الجنسي. وفي هذه تكمن أهمّ الدواعي لسيرورة شعر نزار وشيوعه العظيمين:

ـ نهديْكِ، شفتيْكِ، فستانكِ، الفم الصغير، نبضة النهد الصغير، نهيْدا، حلَمة، نهدك الصغير، نهد صلّى عليه الضياء، ساقيك في العري شلالان من ذهب...
ثانيا ـ مرحلة الغزل الوجدانية ـ الغنائية:
وهي المرحلة التي أنتجت أكثر القصائد المغنّاة رواجا في العالم العربي، من مثل: أيظنّ، ماذا أقول له (نجاة الصغيرة) وقارئة الفنجان، ورسالة من تحت الماء (عبد الحليم حافظ)، لا تسألوني ما اسمه حبيبي (فيروز)، أصبح عندي الآن بندقية (أم كلثوم)، إني أحبكِ، وتحرّكي، الى تلميذة، زيديني عشقا، وغيرها (كاظم الساهر)، كلمات، مع جريدة (ماجدة الرومي) وغيرها من القصائد المغنّاة. وقد ظهرت بوادر هذه المرحلة، منذ أواخر الأربعينيات، وترسّخت مظاهرها منذ أوائل الخمسينيات، واستمرّت معالمها حتّى أواخر الستينيات، متمثّلة بالدواوين الآتية: سامبا (1949)، أنتِ لي (1950)، قصائد (1956)، حبيبتي (1961)، الرسم بالكلمات (1966)، ويوميات امرأة لامبالية (1968).
أما أهمّ ما تميّزت بها هذه المرحلة، على المستويات كافة فأهمّها:
أ ـ عمارة القصيدة الوجدانية ـ الغنائية:
لدى قراءتنا قصائد الدواوين الخمسة، يتبيّن لنا الآتي:

[ تعايش الصيغتين النظميّتين (القصيدة النيوكلاسيكية على الوزن التقليدي، والبيت ذو الشطرين المتعامدين، والروي الواحد الموحّد، والقصيدة الحديثة على الوزن التقليدي المتلاعب في تفعيلاته، وذات السطور الشعرية المتفاوتة في تفعيلاتها، والمنقسمة مشاهد شعرية والمتعددة الأروية) على امتداد الدواوين المذكورة.
[ مواصلة الشاعر الناظم اعتماده على أوزان البحور الشعرية السريعة، مثل الرجز، والرمل، والمتقارب والمجتث، وغيرها. ولعلّها سمة إيقاعية غالبة على سائر القصائد ومنها القصائد المغنّاة، والتي صودف أنها بغالبيتها العظمى منظومة تقليديا، ولكن على أوزان بحور شعرية تتلاءم مع الغناء الموقّع.

ب ـ محاور القصائد الوجدانية ـ الغنائية:

[ ترسّخ قصائد الدواوين الخمسة محوريّة المرأة: فكانت حينا موضوعا للغزل الإباحي، من قبل الشاعرالعاشق، وحينا آخر كانت المرأة عاشقة، يستبطن لها الشاعر أحاسيسها ووجداناتها وآراءها، وأحيانا ينصرف الشاعر الى وصف تفاصيلها ومتعلّقاتها، ناسجاً منها صورة واقعية ومثالية في آن، لامرأة ذات وجود حاضر ومشاعر وأحاسيس وكيان جسماني حيّ ومتفاعل.
[ كما تبرز هذه القصائد، ربما للمرة الأولى، ذاتية الشاعر بأعلى درجات غنائيّتها، سواء في بوحِها بالحبّ، وإعلائها صورة الحبيبة، أو في التصريح بخيبتها المريرة من صدّ الحبيبة أو هجرها، أو خذلانها من مصاعب الحياة ورتابتها.
[ ويوشّح الشاعر هذين المحورين الكبيرين، بمحور آخر أقلّ حضورا، عنيتُ به الفخر بالبلاد وبالبيت الريفي، إحقاقا للطابع الرومنسي الذي شاء الشاعر أن يتّخذه إطارا لمرسمه الشعري الواسع، منذ مطلع تجربته الشعرية، وحتّى إدراكه مكانة الشعور الوطني المتعاظمة، وما لازمه من قضايا ومواقف.

ج ـ الصور البيانية:
أما الصور البيانية والبديعية، في هذه المرحلة الوجدانية ـ الغنائية، وإن لم تفترق كثيرا عما وجدناه في المرحلة الأولى، فإنه يسعنا أن نلحظ تكثيفا للصور البيانية، ولا سيّما التشبيهات: وكان مثل الصّيف في بلادي، وحوّل البيانُ في ثوانٍ / وجودنا أشعة ونورا، واتّخذي من أضلعي سريرا، كأني عصفورة جائعه، أكمامُهُ عشبُ البحيراتِ، أزرارُهُ كقطيع نجماتِ، شعري أنا قصيدةٌ من الذهبْ... وكان للاستعارات مكانة بارزة: والقهوة والصحف الكسلى، وأذيبُ حزني في مياههما، عاد الشتاء يمتصّ أيامي، تركتُ له يدي /لتنامَ كالعصفور بين يديه، نيراني تأكل نيراني، سفني في المرفأ باكيةٌ، الشمس نائمة على كتفي..
ثالثا ـ الحداثة في شعر نزار قباني:
أما مرحلة الحداثة الثالثة والأخيرة، في شعر نزار قباني، فقد أتت تتويجاً لمسار طويل من التجارب الإنسانية والخبرات الأسلوبية والرؤى الشعرية التي أفاد فيها الشاعر من وجوده في بيروت، زمن التلاقح الفكري والتجريب الشعري، والتصنيفات السياسية، ونشوء الخطَب وتقاطعها، بل تناصّها مع الشعر.
ولئن أضاف الشاعر الى رؤيته ورؤاه الشعرية الكثير من المحاور، من مثل الحبّ، والحرّية، والثورة على التقاليد البالية، والأنظمة البائدة، والتي استقاها من زمن الصراعات والثورات المجهضة، في الثمانينيات من القرن العشرين، فإنّ كتابته الشعرية ما ونيت تزداد رسوخا ونضجا. وقد اخترنا قاموس العاشقين (1981)، وأشعار مجنونة (1985)، وقصائد مغضوب عليها (1986)، وسيبقى الحبّ سيّدي (1987)، وغيرها الكثير من المجموعات الشعرية، وصولا الى «تزوّجتُكِ أيّتُها الحرّية» (1988) والتي كنماذج تمثّل، برأينا، مرحلة الحداثة، وتُعدّ، برأينا، خلاصة تجربة الشاعر قبّاني الشعرية. وتلك أهمّ الخصائص التي ميّزت كلّ مظهر من مظاهر كتابته الشعرية، والتي يمكن انطباقها على سائر أعماله الشعرية المتأخرة. وهي الآتية:
أ ـ معجم الطبيعة وخطاب السياسة: يمكن القول إنّ الشاعر واصل تنقية عباراته وتنخيلها، ومراكمة العبارات الدالّة على اندراجه في قضايا العصر، من دون أن يعني تقعّرا أو تبنّيا لتيارات فلسفية أو مذاهب شعرية مستندة الى تراث العرب، سواء تلك الغربية المستفاد منها والمحاكاة، وعنينا بها الرومنطيقية، أو الجمالية، أو الرمزية، أو غيرها. بل الأحرى أنّ قبّاني، وإن كان قد عرف كلّ هذه المذاهب فإنّه اكتفى باقتباس بعض اللمع والأفكار ليجعل منها مكوّنات جاهزة لخطابه الشعري المباشر، بل السّطحي أحيانا، والذي يكاد يعادل بياناً مصاغاً بلغة لائقة وذات جمال وسط، من أجل إقناع جمهرة القراء العامة ـ لا الخاصّة ـ بلزوم التحرر من القمع والكبت والبشاعة، والمضيّ الى الحبّ والحرية الشخصية، ومواجهة سلطات القمع وسلاطينه. فرأينا حقولا معجمية تتراوح بين السياسة، والإعلام، والدولة، والوطن والمنفى، الى جانب الحقول المعجمية للحبّ وأدواته، وحالات المرأة ومتعلّقاتها، بما ينبئ عن تبدّل كبير في أجواء القصائد الميالة الى التشاؤم وقلق الشاعر على المصير.
ب ـ عمارة القصيدة الحديثة:
يشكّل هذا المستوى عاملا فارقا بذاته، ودالا على مرحلة الحداثة؛ فعلى صعيد بنية القصيدة النيوكلاسيكية لم نعد نرى، لدى قراءتنا «تزوّجتكِ أيتها الحرّية»، تلك البنية المألوفة في أعمال قبّاني الأولى. ولئن حافظ الشاعر فيها على ثابتة الوزن، فإنّ شكل القصيدة تغيّر كليا عما عهدناه: فقد حلّت المقطّعة (قصيدة مؤلّفة من أربعة أو خمسة أبيات) بديلا من القصيدة الكلاسيكية ذات توليفة السطرين الشعريين المتعامديْن. أما القوافي والأروية فقد تراوحت بين نسقين: الأول القديم والمستحدث، وعنيتُ به وزن البحر الواحد، بقافيته ورويّه الوحيد، لقلّة أعداد الأبيات الشعرية التي تتكوّن منها القصيدة (مدخل، سلالات، تفرّد، كان الشاعر، الخ)، والثاني نوّع فيه الشاعر ما استطاع من الأروية، بالتوازي مع تلاعبه بالسطور الشعرية، ولا سيّما في القصائد ـ الأناشيد التي انقسمت بدورها مشاهد شعرية، مستقلٌ بعضها عن البعض الآخر، (من مثل: كتابات على جدران المنفى، خبرٌ ثقافي، القصيدة والغول، الجنرال يكتب مذكّراته، حوار مع امرأة غير ملتزمة، أربع رسائل ساذجة الى بيروت، الخ). ولعلّ النسق الأخير ينسجم مع المحمولات الدلالية الجديدة التي يحمّلها الشاعر تجربة المنفى الى باريس، بعد خراب بيروت وحروبها، ونِظرته فيها الى كلّ من السّلطة والحكّام العرب، وسفر الثورة، واستبداد المماليك وغيرها.
ج ـ الصور البيانية والنزعة الخطابية:
رغم مظاهر التجديد التي اتّسمت بها أعمال الشاعر نزار قبّاني، في ثمانينيات القرن العشرين، ولا سيّما ديوانه «تزوّجتكِ أيتها الحرّية»، فإنّ النزعة الخطابية التبسيطية الغالبة في القصائد، والتي أدركها الشاعر وحاول أن يفعّلها شعرا (أيها الناس، أيها السّادة، يا جماهيرَ بلادي، يا أصدقاء الحزن في بيروت، يا سيّدتي) نحت بكتابته الشعرية صوب تيسير الصّور البيانية وتقنينها في آن، لمصلحة الوصف والتقرير اللذين، إذ يبسطان وجهة نظر الشاعر النقدية في ما خصّ الحكّام العرب واستصغارهم مكانة الشعر والفن، فإنهما يهويان بالصور الشعرية، من حال الابتكار والرفعة التي كانت فيها، في المرحلة الأولى، الى حال الصنعة التي يُقصد منها تحميل قدر من الدلالات منسجم مع النّظرة السياسية المتضمنة هذا الكتاب. ولعلّ كل الصوَر البيانية، وكثرتها من التشبيهات (أظن الكلمة بيتي، سماء من حجر، أفقا من العقيق،..) تخدم رفع الشاعر الكائن الى مرتبة الضحيّة، والحاكم المستبد الى مرتبة الجلاّد والسيّاف، والمرأة الى مرتبتها العادية مجرّدة من مثاليّتها الأولى.
وفي هذا كلّه، ربّما كان الشاعر قباني ساعياً الى استثمار شعره الى أقصى سيرورته الممكنة، في ظلّ استغلاق شعر الرواد النخبوي، وغموضه.

****

مدينة الحلم.. مدينة القاع

عباس بيضون

لم نعرف في عصرنا الحديث شاعراً مثل نزار قباني صار بشعره، وبشعره وحده، نجماً ساطعاً وبنى لنفسه بالشعر وحده حضوراً لم يجاره فيه أحد. كانت هذه إحدى اختلاجات الشعر الأخيرة وإحدى لحظاته الأكثر إثارة، بل إحدى لحظات الثقافة الأكثر شمولاً. فقد سار شعر قباني بين كل القراء على اختلافهم وصار جزءاً من تفتحهم على العالم، وجزءاً من إرثهم الرمزي واللغوي واستقبالهم للأشياء. لقد رد نزار قباني الشعر إلى قدر من جماعية بل وشعبية، فصارت كتبه بين أيدي الطلاب والمراهقين من التلاميذ، وتحولت أشعاره إلى رسائل ومدونات، وباتت لغة عامة وخيالاً مشتركاً.
كان ذلك أيضاً صدمة. فقد تراءى لكثيرين ان الشعر لم يغد بهذا العموم إلا بتنازلات جوهرية. لقد فقد فحولته وارستقراطيته وتحول عن جزالته وقوته إلى سلاسة مشبوهة وغناء بسيط وخيال وقح وانشغال يومي وأدب عار. بالنسبة لهؤلاء كان هذا ابتذالاً وهبوطاً، بل إن انتشار نزار قباني نفسه كان موضع شبهة، إذ لا يليق بالشعر أن يكون ميسوراً بهذا القدر ولا بد أن فيه ضعفاً جعله إلى هذه الدرجة مطلوباً. كان انتشار نزار قباني بالنسبة لكثيرين آفته، فقد أنزل الشعر عن مقامه وجعله متوفراً لكل من يحسن القراءة.
مع ذلك لم يكن نزار قباني، كما ظنه كثيرون، طفرة. لقد كان خلاصة مخاض طويل، إذ لا نفكر ببدوي الجبل وسعيد عقل وصلاح لبكي ويوسف غصوب إلا ونشعر بأن بين هؤلاء الشعراء آصرة ما، وأن ثمة عملاً على اللغة وفي اللغة كان هذا أوانه: الشفافية والضبط الإيقاعي والخيال الحلمي والابتكار في الصور والمباني، كل هذا كان يتداخل بتفاوت في أشعار هؤلاء ومن على طريقهم. أما نزار قباني فاستخلص كل ذلك في شعره، خلصه بادئ بدء من تغربه وتفرده وجعله سائغاً قريباً. بل حرره من نفوره وامتيازه ومنحه ألفة وسهولة وحقنه بشيء من التقاليد المتواترة فبدا وكأنه يخرج من الذاكرة. كان ذلك خلاصة عملية تبسيط واسلاس وإجراء مستو للغناء. كان هذا أولى علائم نزار قباني. انه من الشعراء الذين يرثون مرحلة ويبدون كأنهم جماعها وطلقتها الأخيرة. انه من الشعراء الذين يحوّلون عملية تجديد متواتر إلى تراث في الشعر. هكذا يمكننا أن نقيّم نزار قباني، انه خلاصة مرحلة وهو بذلك علامة فارقة. مثله في ذلك مثل سعيد عقل الذي هو الآخر، وان من جانبه، علامة فارقة وخلاصة مرحلة.
نقرأ شعر نزار قباني الأول فلا نجد دعوة صريحة إلى مثال أو مبدأ. لن نجد في شعره أسطورة متعالية، لا نجد رموزاً يصعب فكها، نجد في هذا الشعر أسماء عطور وأقمشة وساحات رقص وفتيات في عمر الورد تتفجر أنوثتهن ورجالا معتزين بفحولتهم. نجد عالماً مفتوحاً عامراً بالرغبة متاحاً مقبلاً، يغشانا في أحلامنا، ويتصاعد منها ملفوفاً بها. ليس عالم أفكار أو تجريدات أو قيم، لا يتفلسف ولا يعظ ولا يضعنا أمام لغز كوني ولا أمام تراجيديا من أي نوع، في وسعنا القول اننا أمام عالم مستقبلي، بل في وسعنا القول اننا أمام صور من حياة مليئة. نحن إذ ذاك في أسواق وساحات وعناصر حديثة، حياة مشتهاة وقد تكون مجرد حلم، لكنها حياة مجسدة مرئية وملموسة. الحداثة هنا هي في الروائح واللباس والرغبات والعيش بفصوله وتفاصيله. انها حياة ليست بطولية ولا متساومية ولا خرافية، حياة سنوبية (من سنوب) وكل ما فيها كوني، كوسمو بوليتي. ثمة عواصم هنا ومشارب عديدة وسياحات جمة، بل ثمة نموذج أو نمط حياة قائم بذاته. ما كان هذا ليغدو حقيقة أو حلماً لولا تكون برجوازية دمشقية لها أهواؤها ومشاربها، ولها أيضاً أحلامها ولها مزاجها الكوني ونموذجه. لا نقول ان نزار قباني يبشر بها، لكننا نقول ان ما يقدمه نزار قباني هو الحلم بنمط حياة لها معالمها ولها كليشياتها وفتيشياتها. هذه بالدرجة الأولى حداثة نزار قباني التي قد لا نطلبها في النظام الوزني أو اللغوي ولكننا نطلبها في عالمه الذي هو سياحة في ملاهي الحياة البرجوازية وتطلعاتها ومشارفها العالمية. هذا هو مثال نزار قباني وتلك هي أسطورته. لقد قدم نموذج حياة مقابل الأساطير القومية والكونية التي كان الشعراء الآخرون يبشرون بها.
باختصار، لم يكن نزار قباني ابن الصناعي التاجر ليحلم بدون أن يمتلئ حلمه بالروائح والملابس والحلي. إنه يحلم في المدينة، المدينة المتكونة أو لا تزال في طور التكوين، المدينة بمسارحها وملاعبها، وما كان حلمه إلا مدينياً. لم يمتلئ عالمه بالفرسان والأبطال الذين كانوا في أعمال شعراء آخرين يأتون من خارج التاريخ، وربما من صحارى ممتدة ومن جاهليات عريقة آبدة.
ليس نزار قباني شاعر أفكار إنه شاعر مرئيات، شاعر تفاصيل حياة. الأفكار إذا احتاج الأمر، يجدها على الطريق يستعيرها من أي كان، بل يستعيرها من الشارع نفسه. الأفكار، إذا احتاج الأمر، يستعيرها من الجمهور. لا بأس أن تكون القصيدة السياسية تظاهرة، تظاهرة بكل ما فيها من شعارات ومن هتاف. لا بأس أن تلتقط التذمر الشعبي والشكاوى العامة، لا بأس أن تعبئ القصيدة وأن تحرض وأن تستحيل إلى خطابة معكوسة، خطابة ليست فصيحة ولا مقعرة ولا ثقيلة، بل خطابة خفيفة مباشرة حاملة كل الرعف الشعبي وكل النقمة الشعبية. ها هنا نزار قباني لا يبتعد كثيراً، انه يعير أذنه للشكاوى الشعبية ويحسن أن يتكلم بلغة الجمهور. بذلك لا يزال نزار قباني مفاجئاً، انه يملك ما يمكن أن نسميه الغريزة الجماهيرية وشعره يستمد حياته ونبضه من هذه الغريزة. انه يستعير بل ويتمثل نزعة التدمير والإحراق الشعبية ويحقن بها قصائد لا تقلل ديماغوجيتها وبساطتها إلى حد الركاكة، من فوريتها وتأثيرها العصبي. في هذه القصائد يستعير نزار قباني الحكي الشوارعي، الحكي المديني. كان يمكن لهذه التجربة أن تكون نموذجية، واستعارة الحكي المديني كان يمكن أن تكون رائدة، لولا أن ديماغوجية النصوص وركاكتها الفكرية أبعدتنا عن أن نحتفل بهذا الجانب فيها. مع ذلك بقي نزار قباني في كل ذلك ابن المدينة الحقيقي.

******

«البدروم» أو السماء الأولى

عبد المنعم رمضان

نزار قباني إنهما إنهما أبى وأمي، لعلهما هما الاثنان معاً أول من صعد بي إلى السماء الأولى، في طفولتي وبسبب وجه الله الطالع لي من كل زاوية، كنت أظن أن الجسد أضيق كثيراً من الروح، وكنت ألجأ إلى أبي وأسأله فلا يجيبني إجابات مباشرة، كان أبي يفتنني بحكاياته القديمة المنسوجة من أجساد تتهارش وتتداخل وتتخارج، وبعدها ألجأ إلى أمي، التي ستضمني وتفتنني بأغانيها الحسية دون مواربة وخجل، كانت أمي تجعل النهود رمّانا يدّحرج، والأفخاذ أشجاراً تورق إذا ارتوت، كانت تغني وتغني، كأنها سوف تدخل الجنة بصوتها، وكأنني سأتبعها، وعلى حدود النشوة، سوف نجد أختي تزهو بما وهبها الله من مفاتن ومثيرات، في مراهقتي، كانت الجوهرة تكاد تضيع مني، الغالبية اعتبرت دائماً أن هذا الطور هو طور الوحشة، الغالبية اعتبرته الأسوأ في حياة كل إنسان، لكنني الآن أستعيده وأنا أسيان على فقدانه، وأكشف عنه غطاءه، فيخايلني كونه فترة الكشوفات والأسئلة، فترة السفر بعيداً عن الله، وبعيداً عن الحكمة، الفترة المثال، في المراهقة، كنت أخاف من اكتشاف جسدي، ومن الرنوّ إلى أجساد الآخرين، ما عدا جسد أختي، الذي أذاب جفوني، وأنا صبيّ، وفتحها عن آخرها، أيامها عكفت على القصائد والروايات العاطفية، وكلها تآلفت كي تنتصر على حكايات أبي وأغنيات أمي وجحيم أختي، لولا أنني أدركت فجأة أن المراهقة هي أول الشعر، وكان أن تلقيت المعونة بسخاء من أول دواوين نزار قباني، فأصبحت السماء الأولى عامرة بهم، أبي وأمي وأختي ونزار، في أول كل ليل يحكي لنا أبي عن نسائه ورجاله التاريخيين، فإذا انجلى وتجلى، أنشد قصائد صريحة لا أعرف أصحابها، وفي آخر كل ليل كنت أقرأ أشعار ابراهيم ناجي ومحمود حسن اسماعيل والهمشري وعلي محمود طه وأبي القاسم الشابي والتيجاني يوسف بشير، كنت آنذاك ألبس عمامة الرومانسيين وأحكمها على رأسي، وأحسها وكأنها دوامة هادئة تحيط العالم، وبعد أن تمسكه من أطرافه، تنبسط وتتحول إلى سيل وبذخ في التعبير عن الحب، وبعد آخر كل ليل كنت أصادف أحيانا المطربة التي تنتظرني، أنا المفتون الهائم، وتذهب معي إلى أيظن وماذا أقول له، وكانت بعد الفراغ من هذه الرحلة، ثمة فكرة تتناثر أجزاؤها وتحاول أن تتكون وتصبح على هيئة بلاغ مفهوم، ولكنها تفشل ولا تستطيع، فأتوهم كأن صوتاً ما داخلي يقول لي بحزم: إن التاريخ الأدبي ما كان لينطوي على كل هذه الحماقات الشعرية والأدبية، وكل هذه الأطياف الدالة على الجمود، لو كان للجسد، ولقصيدة الجسد، ونحته، وفنونه عموما، اليد العليا في ما نفعله ونكتبه، يتوقف الصوت ثم يعود: إن توالي عهود الرخاوة والانحطاط في كتاباتنا الشعرية إنما يعود إلى خلاف ما تظنه الأغلبية الرصينة، يعود إلى غياب الجسد، إلى غياب طور المراهقة، وقبل أن أفيق، أتوهّم ثانية كأن صوتا ما داخلي يقول لي: إن شيوع فنون الجسد قد يكون هو وحده الأقرب إلى المثل العليا من كل ما ظهر حتى الآن طوال فترات احتكار الفنون المتجهمة الجادة صدارة كل مشهد.
في فترة ما بعد مراهقتي اكتشفت أنني أجري في كل الدروب، ذات مرة كنت وحدي أمام أكثر من سبعة دواوين لنزار، بالتحديد أمام مجلده الأول، قالت لي السمراء، طفولة نهد، سامبا، أنت لي، قصائد، حبيبتي، الرسم بالكلمات، قصائد متوحشة، كتاب الحب، سألت نفسي هل يجوز لي أن أزعم أنني أعرف حقا نزاراً بعد قراءاتي له، وفوجئت بإجابتي القاطعة، إن نزار قباني الذي أعرفه من القصائد، صنعه نزار قباني الذي لا أعرفه على الإطلاق، وكانت الرومانسية قد علمتني أن أبحث عن الشاعر في شعره، وإذا كنت سأهجر الرومانسية وألومها على بحثها، فإنني سأصر على عدم اعتناق طريقة نزار في تأليفه لقناع يختفي وراءه، ذات مرة سعيت أنا ومحمد خلاف وراء أرشيبالد ماكليش الذي أخذ يردد أمامنا، ويشير بإصبعه السبابة إلى الفراغ الذي يريد أن يملأه بصوته حتى أجبرنا أن نفعل مثله، ونقول ما يقوله، على الشاعر أن يتعلم كيف يعمل من الكلمات والألفاظ شباكاً متقنة الصنع كي يصطاد بها طيور المعنى، ومنذ هذه المرة، ومحمد خلاف الحبيس في خزانته، يعتقد أن نزاراً يتقن صنع الشباك لكنه لا يجيد الصيد، ذوات مرات تالية فاجأني العقاد برومانسيته الخشنة الهشة وهو ينعت نزار قباني بأنه دخل مخدع المرأة ولم يخرج، حتى أنني تمنيت لنفسي هذا المصير، ذوات مرات أخرى، قال لي محمود درويش ساعة كنا جالسين في بهو الفندق ببرلين، تعلم أن نزاراً كان عم زوجتي السورية السيدة رنا قباني، ولقد دخلت بيته في باريس أكثر من مرة ولم أجد كتاباً واحداً في أي ركن، الرجل كان يعيش بغير كتب، حتى أنني لم أجد ما يمكن أن يدل عليه، إلا أناقته ولباقته.
ذوات مرات فاجأني طه حسين باعتقاده أن الغزل وهو عنده فن شعري قائم بذاته، لم يوجد ويزدهر إلا مرة واحدة، في ظل الأمويين واستبدادهم السياسي، الجاهليون لم يكونوا غزلين، حتى الملك الضليل لم يهب حياته كلها للغزل الحسي، كما وهبها من سنمجده بعد قليل، الجاهليون كانوا رهبان الصحراء، والعباسيون جنحوا إلى العبث والمجون، جنحوا إلى الخلاعة، والعباس بن الأحنف شاعر غزل من طبقة أدنى من أبي نواس وبشار وأبي تمام والبحتري والشريف الرضي، طبقة العباس لا تسمح له بامتلاك خشبة مسرح شعر العباسيين، العباسيون كانوا رهبان الخلاعة، فقط عمر بن أبي ربيعة كان شاعر الغزل الحسي الذي يملأ المنزلة بين المنزلتين، منزلة الحسية بين منزلتي العذرية والمجون، يملأها ويفيض، حول عمر انتشر الشعراء العذريون كأنهم بعض حمام مكة، بعض حمامها الزائف أحيانا، لكن بذخ العذريين أصبح القنطرة التي عبرها عمر ليصل إلى سلطان الجسد، وسرعان ما ملأ الأرض وطار وارتفع حتى بلغ السماء الأولى، كان بذخ العذريين في زمانهم بمثابة الطبعة الأولى لبذخ أشباههم من الرومانسيين الذين ملكوا نفوسنا طوال القرن العشرين وحتى ثلثه الأخير تقريباً، وكان ظهور عمر هو أيضا الطبعة الأولى لظهور نزار وعبوره قنطرة الرومانسية التي وطأها وداسها ليصل كما وصل قرينه إلى سلطان الجسد، ثم إلى السماء الأولى، والأخبار التي نقلتها الكتب القديمة عن عمر، وشعره المجموع في ديوانه، الاثنان سوف يجعلاننا نعرف كليهما مرة، ولا نعرف أياً منهما مرة أخرى، فكل منهما صنع الآخر وألّفه، إلى حد أن يصبح عمر الشاعر وعمر الكائن غير حقيقيين، كلاهما قناع، ويصبح شعرهما أكثر حقيقية عموماً، مما أكد لي أن نزار قباني بلغ سماءه، هو رؤيتي الدائمة لأطراف من ظله الكبير تكسو وجوه فتيان وفتيات ممّن أصادف، وكما أن كولمبوس لم يخترع قارة أميركا، لكنه اكتشفها، فإن السماء هي محض فكرة بسيطة واضحة، هي قارة، إنها إحدى حقائق الواقع التي توجد مستقلة وتحتاج لأن يكتشفها الإنسان، قال لي أحد الأولياء، كلما انتقل شخص ما من سماء أدنى إلى سماء أعلى، كلما تباعدت ظلاله عن الأرض وتجلت آثارها على أناس مغمورين بثقافاتهم الأعمق، وصدقت الولي لأن الشاهد عندي كان قلة الظلال التي يبثها وجه أدونيس وأنسي الحاج على وجوه العامة، وشيوع نفاذها عند خاصة الخاصة، وهؤلاء، أعني الخاصة، خذلوا لويس عوض عندما اتجه اليهم بديوانه بلوتولاند، وقال هذا ديوان للخاصة، فلم يدركوه ولم يدركهم، إن أجلى ما خسرناه في أزمنة حداثتنا هو نظراتنا المتعالية وقلة اعتدادنا بهؤلاء السكان المقيمين في السماء الأولى وبمحبيهم، والذين لولاهم ما استطعنا أن نواصل صناعة القراءة، وأن نصعد جميعا بسلالم من ورق إلى تلك السماء ونتعرف على سكانها، وبعدها تهبط أغلبيتنا، ويستمر المثابرون منا في الصعود، إلى السماء التالية، ثم يصعد الأكثر مثابرة إلى ما يليها، حتى يصل النفر القليل الأعمق ذوقاً وحساسية ومعرفة إلى السماء السابعة، اللافت أن نزاراً ظل طوال الوقت من سكان السماء الأولى، لم يغادرها قط إلى ما يليها، رغم إلحاحه المتواصل، فيما آخرون مثل نجيب محفوظ ويوسف إدريس ويحيى حقي وبدوي الجبل وسعيد عقل بدوا لنا في أول عهدنا بالقراءة، وكأنهم لا بد يسكنون في المنازل المجاورة لمنزل نزار، وفي السماء ذاتها، ولما عدنا إليهم كنا في كل مرة نجد نزاراً في مكانه المعتاد، ونجد متاعه لا يزيد ولا ينقص، ونجد بعض متاع نجيب محفوظ ما زال في السماء الأولى، يمكننا أن نسميها البدروم، وبعض متاعه ارتفع إلى الطوابق الأعلى، وسوف تقابله، أي نجيب، في كل تلك السماوات، في كل مرة كان حارس السماء الأولى ينظر إلينا كأننا حمقى ومغفلون، كأننا ملائكة، ثم يدلنا على علو شأن سكانه ومدى أهميتهم وجدواهم، فهم الصنانير والشباك الأولى التي تصيد القراء وتهيئ بعضهم لرحلات الصعود والترقي، هم الذين يصنعون القراءة وعاداتها، ويساعدون الطبيعة في سبيل أداء عملها، يشير الحارس إلى منزل نزار ويقول، لم يكن شعره شعر جماعة، فنهز رؤوسنا ونقول نعم، ولم يكن صادرا عن الإحساس بالعزلة، نهز ونقول نعم، ولكنه شعر الفرد الذي يحب أن يظل عضواً في جماعة، أحدنا يسأل الحارس بصوت عال وبتفكه: هل غزل نزار الحسي، هو شعر الإنسان الدون جوان، أم شعر الإنسان الروميو، وقبل أن نضحك يقول الحارس هو شعر عاشق الجسد، أي شعر الروميو الدون جوان، الروميو الكازانوفا، فننفجر ضاحكين.
مع تقدم نزار في العمر، وإيغاله في الشيخوخة، شعر بأعباء زيادة الخبرة ونقص البراءة، فتوقف عن أن يكون فرداً داخل جماعة، وآثر أن يصبح فرداً بحجم الجماعة، آثر أن يصبح الجماعة كلها، وأمعن في إنكار فرديته، خاصة أن قصيدته أصبحت تتعرض لمضايقات عدة، شعراء الأرض المحتلة يحاولون أن يزيحوه، فينفلت ويصبح شاعر كل الأراضي المحتلة، وقصيدة النثر تحاول أن تزيحه، فيدخل محرابها دون استعداد ودون دربة ودون وعي بها، مساحات الصمت التي كانت موجودة في شعره الأول، وهي أمارة فتنة وجمال، حيث لا شعر بلا صمت، لا فن بلا صمت، تراجعت حتى امحت تماما، صار نزار مشغولاً بالبحث عن مكان جديد، يبدأ بخبرة محدودة، آملا استعادة براءته، هو الخبير في التمويه على البراءة والخبرة، الحارس يقول، الغريب أن أغلب زواره يريدون منه أن ينشد قصائده كما ينشدها المغنون المقطوعون من شجرة سوداء، هؤلاء الذين استخدموه وأهانوه، فبعد عبد الوهاب ونجاة وفيروز وأم كلثوم وفايزة أحمد وهم كانوا على مقاسه، جاء الهؤلاء، لم يتوقف الحارس عن الثرثرة بل أخذ يغني لا تسألوني ما اسمه حبيبي، كنا نسمع أصداء صوته في أثناء هبوطنا من السماء الأولى، وكان ضجيج الذاهبين إليه، أي نزار، يفوق بكثير ضجيج الذاهبين إلى غيره، ما عدا جبران، وعندما وصلنا إلى الأرض، تمنيت أن يوزعوا على كل الفتيان والفتيات كتبه الشعرية الأولى، خاصة الأولى، ليصطادهم ويفتنهم، بعدما أصبح الشعر غريبا لا يقرأه أحد، بعدما أصبح الشعر بندقية المهزوم، بندقية الهارب، بندقية العولمة وما بعد الحداثة، بعدما أصبح الشعر بندقيتي أنا أيضا.

(كاتب مصري)

******

يعرف من أين يُؤكل النهد

بشار عباس

في أمسية له في بيروت للحديث عن نزار قبّاني لا بدّ من العودة إلى جذور كلمة «نهد» في المعاجم، وردتْ في لسان العرب بصيغة الفعل الماضي مفتوح الأحرف الثلاثة؛ ويعني ردحاً من الزمن يمر به الثدي: نَهَدَ ثدي الجارية نهوداً فهي ناهد، أي: قعد وانتبر وأشرف، فكل نهد إذاً هو ثدي، وليس كل ثدي نهداً، فالنهدُ ثدي في أحسن حالاته وقمّة رونقه، غير أن لكل شيء إذا ما تمّ نقصان، أي أنّه مرحلة مؤقّتة من الثدي، ولذلك يمكن وصف شعر نزار بأنّه مرحلي لا يخترق تراكمات نتاج الأجيال، ولا يلبث أمداً طويلاً فوق دعائم أركان العدم الزمني.

المرحلية

المرحلية في الأدب واضحة في التحاقه السريع بقصيدة التفعيلة بعد رواجها وادّعاء الدفاع عنها أمام الأديب والمفكّر المجيد مارون عبود، وبعدها التحاقه بأدب النكسة والسياسيات، لكن ما يجعل ذلك العضو دليلاً للجزم بتلك المرحلية هو أنّه لم يكن ثدياً واقعيّاً، بل نهد رومانسي ـ شهواني يحتل على قائمة التصنيف السياحي مرتبة الخمسة نجوم، ليس كذلك الذي قال عنه أحمد عبد المعطي حجازي (يا ثدي أم لم يعد فيه لبن) إشارة إلى البؤس في الصعيد، وأهرام الحلمات الذي شيّده بعد أن اقتطع عباءةً من جلد النساء ما كان فيه حلمة واحدة كالتي تحدّث عنها السيّاب (وكل قطرة تراق من دم العبيد، فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد، أو حلمة تورّدت على فم الوليد). لقد كان النهد النزاري مقطوعاً عن سياقه المجتمعي التاريخي، ومقطوع عن البدن الأنثوي نفسه منذ باكورة شعره، فهو في قصيدة «نهداك» يكرر ذكر النهد بصيغة المفرد والمثنّى اثنتي عشرة مرّة. بينما يُمكن أن نجد منذ فجر الأدب نموذجاً سلساً للوصف يأخذ كامل الجسم الأنثوي في لوحة واحدة، مثل (والبطنُ ذو عُكنٍ لطيفٌ طيّهُ، والإتبُ تنفجهُ بثديٍ مقعدِ) النابغة كانت تكفيه مرّة واحدة في القصيدة أن يرسم بالدم والطبشور امرأة كاملة في زمن بسيط ليس لشاعر أن يُدعي فيه الانتصار للمرأة.
الهيمنة الأدبية للنهد لم تبرح الشاعر في أنحاء شتّى، فمرةّ يأتي مع الصوت (فثمّ نهدٌ صامتٌ، وثمّ نهدٌ يقرع الطبول) وحيناً كفلز للثروات الباطنية (من علّمني أن أستخرج ذهباً من أودية النهد). وقد يحوّله على طريقة الخيميائيين في العصور الوسطى ( فبالوهم أخلق منك إلهاً وأجعل نهدكِ قطعة جوهر )، ويقع أن يحتاج إلى المساحة والقياس، فيبحث عن (مفردات تغطّي مساحة نهديك بالماء والعشب والياسمين) طوراً يغدو ضارياً (وخلّي نهدكِ المعجون بالكبريت والشرر، يهاجمني، كذئب جائعٍ خطرِ، وينهشني)، وتارةً بساطاً سحريّاً (عاريةٌ أنتِ كنصل السيف ونهدكِ يحملني ويطير) وتأريخاً جديداً لا هو ميلادي ولا هجري (أنا منذ السنة الألفين قبل النهد، يا سيّدتي، أفعل هذا، فلماذا).
مؤلّف «طفولة نهد» الصادر في نفس عام النكبة، سوف تنمو تجربته، وينخفض عدد النهود ضمن القصيدة الواحدة؛ إنّه في قصيدة «من يوميات تلميذ راسب» يذكر النهد ستّ مرّات ، أي أنّه نزل إلى النصف مقارنةً مع «دزينة النهود» في قصيدة «نهداكِ» وفي «إلى نهدين مغرورين» يذكره أربع مرات. وفي كل من «حبيبتي تقرأ أعمال فرويد» و«مايا» يذكره ثلاث مرّات . وفي قصيدة «وبر الكشمير» مرّتين. بينما في «قصيدة الحزن» يرد مرّة واحدة فقط لا غير. التغيّرات الكميّة في الأعداد سيتبعها تغيّر في الكيف؛ فبعد رواج ما أُشتهر بالشعر السياسي، وهو شعر ساهمت النكسة فيه كثيراً؛ فالجميع في جوقة سباب أدبي، شعراء وكتّاب وفلاسفة ومسرحيون، الجميع غاضب من الهزيمة، الفرصة مؤاتية للغثيان والعبث الأصيل جرّاء حرب محليّة، وليس كالغثيان الأوروبي المُستورد جرّاء الحرب الثانية، فلماذا لا يدع شاعرنا الإثارة الجنسية بعضاً من وقت لمصلحة السياسية؟ الصيّاد سيغادر الموج وقد أخذ الماء يقطر من شبكته المفعمة بالنهود، سيُفرغها جانباً فتتقافز فوق بعضها البعض وقد شحّ أوكسجين الأدب الجنسي وصار إلى آخر سياسي.

السرير

في قصيدته «تقرير سري جداً من بلاد قمعستان» يتنازل عن مرحليّة النهد فيعود ثدياً واعياً بشرطه التاريخي، ربّما شاخ أو هرم شيئاَ، يقول (جميعهم تضخّمت أثداؤهم وأصبحوا نسوان، جميعهم يأتيهم الحيض، ومشغولون بالحمل وبالرضاعة) الشاعر يستخدم سمات أنثوية للشتيمة على تخاذل الرجال، المرأة عادت سُبّة وشتيمة إذاً، في انتكاسة نلمحها هذه الأيّام في أعمال دراما البيئة التلفزيونية الدمشقية، فلطالما تتبادل الشخصيّات الذكورية فيها شتائم من نوع «شو ولاك حريمة» حريمة تعني امرأة، يُمكن أن نعثر أيضاً على معنى قريب من ذلك في قصيدة «إلى أجيرة» يصف فيها بائسة ربّما التقاها واقعاً أو في ذهان الأدب، لا فرق، يقول (ولهوتُ فيكِ، فما انتخت شفتاكِ تحت جرائمي، والأرنبان الأبيضان على الرخام الهاجمِ، جبنا، فما شعرا بظلم الظالمِ) في زلّات أدبية تخرج على هيئة قصائد لا تُراعي الادعاء الأخلاقي المتضمّن في تصريحاته وحواراته ومواده النثريّة وفي كثير من أشعاره، خصوصاً في «يوميات امرأة»، فقمع المرأة، وارتهان المرأة للتقاليد، وذكورية المجتمع الذي لا يعترف بها، كل ذلك ينهار ويظهر فقط كمبرّر شرطي للقصيدة.
يحتاج العمل الفنّي إلى مضمون ومعنى ألّا يكون شكلاً فحسب، وهذا ينقشع، حتماً، في قصيدة شهيرة تقترب من اللوم الشخصي، تمثّل دحضاً للمضمون النسائي الحقوقي الذي شكّل «ثيمة» لعشرات القصائد مع دواوين بأكملها، النتاج الأدبي الذي كان يجهد أنّ الاختلاف إلى الجنس إن هو إلّا مسألة تحرر، ينتفي فتذروه إلى الرياح قصيدة امرأة من زجاج (هذا الذي يسعى إليكِ الآن لا أرضاه عبدي. فليمضغ النّهد الذي خلّفتُهُ أنقاض نهدِ. يكفيه ذُلّاً أنّه قد جاء ماء البئر بعدي)!. الفتاة، المرأة، الأنثى، رجعتْ هنا بئراً تورد، نهدها أنقاضٌ يباب، لقد وطأها وجاس من خلالها الشاعر، فالذل والهوان للعاشق اللاحق، والمجد والفلاح للعاشق الأوّل الفاتح المظفّر.
إن مضامينه التحرريّة التي يطمح فيها إلى تعطيل قيود المرأة، وتنويرها بحقوقها، يخبّ إلى ذلك ليس سعياً في كرامة إنسانيّة، أو تشغيلاً لطاقة مجتمعية خامدة، أو حتّى تمهيداً لنموذج الأم المستقبليّة وفق تصوّر أحمد شوقي (وإذا النساء نشأنَ في أميّةٍ رضع الرجال جهالةً وخمولا) إقناعها بانّها حرّة لم يطمح أن يؤدّي بيدها إلى المدرسة، أو المصنع، أو مركز الأبحاث، بل واضحٌ أنّه إلى السرير، في تصعيد نفسي لميول جنسيّة تُشبه حال شاب عشرينيّ يتربّص عند مدخل سوق الحميديّة بدمشق، أو في ساحة باب توما، أو عند مدخل كليّة الحقوق، فيأخذ بزمام عمليّة إقناعيّة تمثّل الأساس السيكولوجي للأدب النزاري، فيبدأ (مجنونةٌ من مرّ عهد شبابها لم تُلثمِ) أو (هذا الذي بالغتِ في ضمّه أثمنُ ما أُخرج للعالمِ) أو (يا امرأة تجهل أين نهدها) ثم تأتي مرحلة الطمْأنة (إياكِ أن تتصوّري أنّي أفكّر فيكِ تفكير القبيلةِ بالثريدِ) و(أحبيني ولا تخشي على قدميك سيدتي من الماء فنهدكِ بطّة بيضاء لا تحيا بلا ماء) و(لا تقلقي يا حلوة الحلواتِ ما دمتِ في شعري وفي كلماتي). المرحلة التالية تختصّ في شأن السلوك السريري الأفضل ومواجهة الخجل (كوني امرأةً خطرة، كي أتأكّد حين أضمّكِ أنّكِ لستِ بقايا شجرة) ثم مرحلة الهروب من الأجوبة (ماذا يهمّك من أنا؟ ما دمت أحرثُ كالحصان على السريرِ الواسعِ، ما شأن أفكاري دعيها جانباً إنّي أفكّر عادةً بأصابعي).
الادعاء الشعري بالوقوف في مصاف الثوريين الاجتماعيين والسياسيين، رمى جيلاً بأكمله بخديعة ثقافية جنسيّة يُمكن وصفها بأنّها: سلفيّة عكسيّة؛ النموذج المجتمعي التقليدي البالي هو الأساس، مع فارق بسيط: لقد قام الشاعر بعكس ذلك النموذج، وقلبه، ونجح في التضادّ الشكلاني معه، ففعل فقط ما يجب ألّا يفعله السلفيّون، فمكث يحوم في فلكهم، وأدّى بمريديه إلى سهولة النكوص إلى النموذج الأصل، فهم لا يفعلون ما يجب أن يفعلوا، بل يفعلون ما لا يجب أن يفعل مريدو ذلك النموذج، فتنكّروا له سلباً، ولذلك بقي حاضراً سهل الحلول من جديد.

(كاتب سوري)

****

الشاعر في القاهرة

شعبان يوسف

فى إحدى زياراته إلى القاهرة في نهايات عام 1966، وكان ينزل في فندق الهيلتون، وكان له ركن معروف يجلس فيه، جاءه أنيس منصور لكي يقنعه بالموافقة على حديث تلفزيوني، وبعد مداورات ومشاورات وافق نزار على ذلك، وذهب أنيس ليبقى الصحافي بمجلة «صباح الخير» مفيد فوزي، وراح يجري معه حوارا، ومن قراءة الحوار يشعر المرء بأن «نزار» لم يكن راغبا في ذلك، ويبدو أن أسئلة المحرر لم تكن على هوى نزار ولا بقيمته وتبدو خارج السياق، وهذا بدا من السؤال الأول الذي فاجأ قباني، وهذا بتصريح مفيد نفسه، إذ قال له مفيد: «ألا تريد أن تكرر نفسك.. ألا تحن لنفسك.. لنزار الصغير؟»، وبالفعل كان السؤال صادما وشخصيا وخارج السياق تماما، لذلك كتب مفيد في بداية الحوار: «حدث بيني وبين نزار قباني شيء سخيف»، بالفعل هو شيء سخيف، وحسبما نعرف عن نزار قباني أنه كان يضجر من مثل هذه الأسئلة السخيفة، وذلك جعله يقول للمحرر: «قل لي ماذا دهاك حتى تنسى بديهيات تعرفها عني؟»، ورغم ذلك وجدنا أن قباني يجيب عن سؤال مفيد فيتحدث عن طليقته، وعن ابنته التي يحبها ويعشقها ويهديها أغلى ما يملك، كان الحوار مكررا والأسئلة بالفعل سطحية، ولا تلامس البانوراما الشعرية التي يبدعها نزار، ولا تقتحم القلاع العالية التي أنشأها وبناها منذ ما يقرب ثلاثين عاما، عندما نشر أولى قصائده عام 1941.
لم يستطع المحرر أن يسبر أغوار الشاعر، فالصحافي الذي كان يبحث عن نميمة، بل قل عن فضيحة في مسار الشاعر الاجتماعي، ظل يطارد الشاعر بتلك الأسئلة، وبالطبع فالصحافي معذور، فهو لا يريد أن يعرف أكثر من ذلك، يريد أن يطلق كمية بالونات ضخمة لتحدث دويّا وهميا يلفت الأنظار له ولمجلته، وأظن أنه لم ينجح في ذلك تماما، إذ إن «نزار»، لم يفصح عن أسرار جديدة، ولم ينزلق إلى ما أراد المحرر، وظل نزار يلف ويدور دون أن يتعاطى مع الأسئلة السطحية، التي لا تليق بنزار ولا بصحافة القاهرة، ولا بمجلة راقية مثل صباح الخير، ومن الواضح أن المحرر كان قد أراد أن يأخذ الشاعر إلى رحلة تافهة ولم يستجب له الشاعر، وعندما أدرك المحرر ذلك، كرر الواقعة في العدد التالي، وكان مفيد فوزي يكتب تحت اسم نسائي وهو «نادية عابد»، فكتب موضوعا تحت عنوان: «نزار قباني ومصطفى محمود و6 بنات وأنا» وأقام وليمة صالحة بالكامل للنميمة والمقبلات التي ربما تجذب القارئ، وهذا هو الهدف المعلن، ولكن الهدف غير المعلن هو تقديم نزار قباني بشكل مختلف، وبطريقة خاطئة تماما، وربما تكون دميمة، لذلك كان موضوع الست بنات هذا، ولم يأت مصطفى محمود إلا كنوع من القناع الذي يضفي قيمة وهمية على الموضوع، فبعدما أبدت نادية عابد رأيها في نزار، وأنها تكاد تعبده كشاعر، ولكنها تكرهه كرجل، راحت تتغزل، أو راح يتغزل غزلا سطحيا بشعره، والمقدمة تشهد بذلك إذ يقول الاستهلال: «أنا أحب نزار قباني، ربما لا يعجبني كرجل، ولكني أعبده كشاعر، أنحني له ألف مرة حين يرسم الكلمات.. نعم إلى هذا الحد، أنا كده! في حبي لمخلوق أذهب إلى أقصى اليمين، وفي كرهي أذهب إلى أقصى اليسار، ومنذ عانقت عيناي حروف نزار.. زرع في قلبي حب الكلمة، من يومها تحمست له، دخلت معارك بسببه، فبعض المعقدات يقلن إن نزار «قليل الأدب»، وأنا أقول لهن إن قلة الأدب في عقولهن.. هن! ومدعيات الثقافة عادة يتشدقن بكرامتهن لقصص إحسان عبد القدوس الصريحة، وأغاني عبد الحليم حافظ المايعة وأشعار نزار قباني المكشوفة..)، وظلت أو ظل المحرر يطرح تساؤلات وحكايات وآراء، وكان حاضرا في هذا الحوار كما قلنا الدكتور مصطفى محمود، الكاتب الذي لم يكن في ذلك الوقت قد أصابته لمسة الدروشة والتصوف، فشارك الجميع بملاحظاته التي صاغتها نادية عابد في مطبخ مفيد فوزي، وبالطبع فالست بنات كن يطرحن أسئلة أتفه من أسئلة المحرر، وهكذا خرج الموضوع المنشور في صباح الخير على هيئة مسخرة كاملة، ونكاية في نزار قباني جاء في ذيل الموضوع تنويه يقول: «رأي جريء في شعر نزار قباني صفحة 52»، وكانت هناك مفاجأة أخرى، إذ كتبت المحررة عايدة العزب موسى مقالة تهاجم شعر نزار بضراوة، وتكمل ما لم يقل بصراحة في الحوار والموضوع، ورغم أن عايدة موسى كانت صحافية تكتب في الشأن السياسي، إلا أنها كتبت في شعر نزار قباني، لتكتمل الصورة التي يريدها مفيد فوزي، ولا أعرف هل هذا كله من أجل تحطيم شعبية وجماهيرية نزار قباني؟ التي لم تتحطم بالفعل، بل كما نعلم أن شعبية نزار ظلت تطّرد، حتى لو كانت وجهة نظر مختلفة في شعر نزار مع قرائه ومحبيه وجماهيره، إنه أكثر الشعراء العرب الذين حققوا هذه الجماهيرية في حياته وفي رحيله، وربما لا ينافسه في مصر إلا الشاعر عبد الرحمن الأبنودي.
جاءت هذه الحملة الثلاثية في ظل رئاسة تحرير الشاعر صلاح جاهين، وكان الكاتب العروبي أحمد بهاء الدين رئيسا لمجلس إدارة روز اليوسف، التي تصدر عنها المجلة، والتي أسسها أحمد بهاء نفسه، وترأس تحريرها عندما صدر عددها الأول في 12 يناير 1956، وبالطبع عندما قرأ كل هذه الشراك، كتب فورا خطابا إلى صلاح جاهين لينشر في العدد الصادر في 5 يناير 1967 قال فيه:

«عزيزي الأستاذ صلاح جاهين
رئيس تحرير صباح الخير

بعد التحية، أكتب لك هذه الكلمة راجيا نشرها، لا بصفتي مسؤولا عن المؤسسة التي تصدر عنها المجلة، ولكن بصفتي أحد قرائها المحبين لها.. لقد كنت معك في الخرطوم طوال الأسبوع الماضي، ورجعت لأفاجأ بموضوع منشور في صباح الخير هو الذي أريد أن أحدثك فيه.
فقد سبق أن تورط الأستاذ مفيد فوزي في أخطاء أدبية وفنية حدثته عنها، شفويا، كزميل.. ولكن الخطأ الفاحش الذي ارتكبه الأسبوع الماضي يحتاج في ما أعتقد إلى «تقريع علني».. لإصراره على الدخول في ما لا يعنيه... وهو قضايا الفكر والأدب»، وبعد أن راح يعدّد له أخطاء فادحة في المعلومات والآراء والأفكار، أنهى خطابه مخاطبا صلاح جاهين: «ألا ترى أنه لا مفر، هذه المرة، من نشر هذا التوبيخ العلني؟!»، وهذا العقاب كان بمثابة رد اعتبار لشاعر كبير يعتز به المثقفون المصريون بدرجات متفاوتة، ويقدرون شعره، حتى الهجائي، فما بالنا بما كتبه عن طه حسين وجمال عبد الناصر والنيل ومصر عموما.

(كاتب مصري)

***

مشروع نزار الشعري

جودت فخر الدين

عدتُ إلى كتابه الأول «قالت لي السمراء» في طبعة جديدة هي السابعة والثلاثون (الطبعة الأولى صدرتْ في العام 1944)، فشعرْتُ بأنه لم يُقرأ حتى الآن! نزار قباني، الذي لم يبلغْ شهرتَهُ شاعرٌ آخر، والذي نشأنا على ترداد قصائده، وحسبنا أننا نعرفها ونحفظها عن ظهر قلب، أظنُّ أنه لم يُقرأ جيِّداً، وإنْ كان الشاعرَ الذي حظيَ، أكثر من غيره، بدراسات وأطروحات ومقالات ومقابلات... وما إلى ذلك، كما كان الشاعرَ الأكثرَ حضوراً من خلال الأمسيات والندوات واللقاءات التي أظهرتْ جمهوراً واسعاً أقْبَلَ عليه كما لم يُقْبِلْ على شاعر آخَر.
ومن الطريف جدّاً أنّ الديوان الأول له مقدّمة، كتبها منير العجلاني، وتبدأ بما يأتي: «لا تقرأ هذا الديوان، فما كُتِبَ ليُقرأ... ولكنه كُتِبَ ليُغنّى، ويُشَمَّ، ويُضَمَّ، وتجدَ فيه النفسُ دنيا ملهِمة». ثم يُرْدِفُ صاحبُ المقدّمة قائلاً: «يا نزار، لم تولَدْ في مدرسة المتنبي، فما أجدُكَ تُعْنى بشيءٍ من الرثاء والمديح والحكمة، وما أجدُكَ تُعْنى بالبيت الواحد من القصيدة يُضْرَبُ مثَلاً، وما أجدُكَ بعد هذا تُعْنى بالأساليب التي ألِفَها شعراؤنا وأدباؤنا، وإنما أنت شيءٌ جديدٌ في عالمنا ومخلوقٌ غريب».
أشار صاحبُ المقدّمة إلى شيءٍ جديد في ديوان نزار قباني الأول، ولكنّه لم يكتشفْهُ ولم يحدسْ به، وإنما ظنَّهُ في الموضوع. وظنُّهُ هذا واضحٌ من خلال الأبيات التي أُعجِبَ بها واختار إثباتها في مقدّمته. من ذلك مثَلاً هذا البيت:

فلولايَ ما انفتحتْ وردةٌ ولا فقعَ الثديُ أو عربدا
ومن ذلك أيضاً هذه الأبيات:
بأعراقيَ الحُمْر ِ إمرأةٌ تسيرُ معي في مطاوي الرِّدا
تفحُّ وتنفخُ في أعظمي فتجعلُ من رئتي موقدا
هو الجِنْسُ أحملُ في جوهري هيولاهُ من شاطئ المبتدا
بتركيب جسميَ جوعٌ يحنُّ لآخَرَ... جوعٌ يمدُّ اليدا

الموضوع إذاً، مشاراً إليه بمفردات مثل: الثدي، امرأة، تفحّ، تنفخ، الجنْس... الخ، هو الذي وجدَ فيه صاحبُ المقدّمة شيئاً جديداُ، بل ربما شيئاً فاضحاً أو صادماً. وهذا الموضوع هو الذي ساهم أولاً في بناء شهرة نزار قباني وفي انتشار
قصائده. وهو موضوعٌ ليس جديداً حقاً، وإنما هو شائعٌ في تراثنا الشعري. وما إقبالُ الجمهور على شعر نزار قباني إلا لأنه توسَّمَ جرأةً أو فضائحيةً في تناوله لهذا الموضوع.
إذاً، هل هنالك شيءٌ جديدٌ في الديوان الأول لنزار قباني؟ وما هو؟
يشيرُ صاحبُ المقدِّمة إشارةً خجولةً، بل سطحيةً، إلى اللغة الشعرية في «قالت لي السمراء» إذْ يقول: «أما أسلوب نزار، من ناحية اللغة، فقد نستطيع أن نسمّيَه السهل الممتنع. وربما استعمل تراكيبَ عاميةً، ولكنّ هذا قليلٌ جدّاً».
لم تكنْ لغة نزار الشعرية قد تجلّتْ في ديوانه الأول، وإنْ كان في استطاعة المتبصِّر المتعمِّق أنْ يلاحظَ بوادرَ أو ملامحَ أوّليةً لهذه اللغة. وهذه البوادر أو الملامح هي الجديرة بأنْ تكون «الشيء الجديد» في الديوان، وهي التي لم ينتبهْ لها صاحبُ المقدّمة.
في هذا الديوان الكثيرُ من الصياغات المرتبكة والصُوَر النافرة، وما أوردْناه من أبيات قليلة (أُعجب بها صاحبُ المقدمة) ليس إلا مثالاً بسيطاً، فاللغة المصقولة التي سيتميّز بها نزار لاحقاً لا نجدُها قد تبلورتْ بعد (في الديوان الأول).
«قالت لي السمراء» هو إعلانٌ عن المشروع الشعري الذي سيضطلعُ به نزار قباني. أو لنقُلْ هو شروعٌ به. وأوضحُ ما فيه هو الإفصاحُ عن الموضوع الذي سوف يرتبط به أكثر من أيِّ شاعر من معاصريه. ويكفي أن نستعرضَ عناوين بعض القصائد في هذا الديوان لكي نتبيّن الخطوط العريضة لمشروع نزار الشعري من ناحية الموضوع: مذعورة الفستان، الموعد الأول، أنا محرومة، خاتم الخطبة، أحبّك، القرط الطويل، رافعة النهد، مدنّسة الحليب، البغيّ...الخ. وأما اللغة الشعرية التي سيتفرّدُ بها نزار قباني فنجدُ بذوراً لها في هذا الكتاب الأول.

مشروعٌ يتحقّق

في دواوينه التي راحت تتوالى في الصدور بعد الكتاب الأول، أخذ نزار قباني يعمل على تحقيق مشروعه، وراحت لغته الشعرية تتجلّى وتترسّخ أكثر فأكثر، إلى أنْ أصبح في خمسينيات القرن الماضي مختصاً بموضوع الحب، دون غيره من شعراء المرحلة، مجانِباً أو موازياً مشروع الحداثة الشعرية الذي انطلق في المرحلة عينها.
لم يكنْ سهلاً على شاعر عربيّ معاصر أنْ يُضيفَ إضافةً حقيقيةً إلى تراثنا الهائل من أشعار الحبّ. وتقويمُ الشعر تقويماً فنياً يردُّ الموضوع إلى مرتبة ثانوية إزاء الطريقة أو الكيفية التي يتمُّ بها تناولُهُ. والشاعر الشاعر لا يتّكئ على موضوعه، بل ينهض به، يُعيدُ ابتكاره، حتى ليبدو من اختراعه، وإنْ كان مطروقاً أو شائعاً على نطاق واسع. هكذا فعل نزار قباني بالنسبة إلى موضوع الحبّ، الذي كان له في شعرنا العربي عبر عصوره المختلفة روّادُهُ المحلِّقون.
استطاع نزار قباني أن يقدِّم في شعره صورةً جديدةً عصريةً لموضوع الحبّ، والمكانةُ الشعريةُ المرموقةُ التي تحقّقتْ له سببُها تلك اللغة الفريدة التي تهيأتْ له.
لقد هيّأ نزار لأشعاره في الحبّ لغةً مهذَّبة، بسّطها ونقّاها وجعلها نفّاذةً في التقاطها هموماً معاصرة. لقد كان لكلامه على المرأة، وأحياناً بلسان المرأة، صدىً في المجتمع العربي على اتساعه.
كان يحلو لنزار قباني أن يفاخرَ معاصريه من الشعراء بأنه وحدَهُ ـ من بينهم ـ قد دخلَ كلَّ بيت عربيّ. وكان يعرف أنه حقّق ذلك بما تحقّق له من صقْل فاتن للغة الشعر. وقد أحسنَ وصْفَ ما فعلَهُ بهذه اللغة في مقدمة كتاب له بعنوان «هل تسمعين صهيل أحزاني»، إذْ قال: «لم أكسرْ زجاج اللغة، ولكنني مسحْتُهُ بالماء والصابون».
لقد أثّثَ نزار قباني بيته اللغوي بعناصرَ هي في غاية بعيدة من البساطة والسهولة، ولكنّها أيضاً في غاية بعيدة من القدرة على التعبير السلس والعذب.
هذه العناصر هي التي جعلت جزءاً من شعره فريداً من دون تعقيد، وجذّاباً من دون تكلُّف، وبسيطاً من دون ابتذال. هذه العناصر جعلتْ منه صاحبَ طريقة في قول الشعر، طريقة استعصتْ على مريديها أو مقلّديها، طريقة تمتلكُ عشّاقها وتأبى عليهم أن يمتلكوها.
لقد تباهى نزار بطريقته هذه، وقال في مقدّمة الكتاب الذي أشرْنا إليه قبل قليل: «كلّما قرأتُ في الصحافة الأدبية تعبير (النزارية) اجتاحتْني موجةُ كبرياء. أليس رائعاً أن أكون صاحب طريقة شعرية؟».
لقد كان لنزار قباني أسبابه الكثيرة للتباهي والتفاخر. وحسْبُهُ من هذه الأسباب الكثيرة أنه شاعرٌ ذو موضوع أولاً، وذو طريقة ثانياً. الموضوع الذي اختصَّ به شائعٌ كالماء والهواء، ومع ذلك اختصَّ به وامتلكه واستحقّه. أما الطريقة التي جذبتْ إليه الجمهور الواسع فهي البساطةُ في مستويات متفاوتة من الرقة والنقاء.

نزار والحداثة

لم يعملْ نزار قباني لإحْداث تغييرات في النحْو، أو العروض، أو البلاغة. فهو في قصائده الجيِّدة ملتزمٌ بقواعد التركيب النحْوي، وملتزمٌ بأوزان الشعر، وصُوَرُهُ الشعرية لا تتعدّى ما نصّتْ عليه علومُ البلاغة العربية. بكلمة أخرى، لم يأبهْ نزار، خصوصاً في العديد من دواوينه الأولى، بأطروحات الحداثة وببعض ما دعتْ إليه من تفجير للغة، أو تحرُّر من الوزن، أو تحرير للمجاز. ولكنه استطاع أن يحقِّقَ في قصائده لغةً شعريةً خاصةً به. وإنجازُهُ هذا لم ينحصرْ بواحد من عناصر اللغة الشعرية أو مكوِّناتها، وإنما تجلّى (أو تخفّى) في نوعية من العلاقات بين تلك العناصر أو المكوِّنات.
لغةُ نزار قباني هي نوعيةٌ فريدةٌ من العلاقات داخل البناء الشعري أو العبارة الشعرية بين التركيب، والوزن، والصورة،... وغيرها من مقوّمات لفظية أو معنوية (دلالات، أفكار، رموز...الخ). وفي هذه النوعية تكمنُ الجِدّةُ أو الخصوصيةُ التي جعلتْ من نزار حالةً استثنائيةً في شعرنا المعاصر. والدراسة الفنية المتعمِّقة في هذه النوعية هي المطلوبة للكشف عن مزايا الإنجاز الشعري لنزار قباني. وهذا ما رميْتُ إليه، في بداية هذه المقالة، عندما قلتُ إنّ شعر نزار لم يُقرأ حتى الآن، وقصْدي أنه لم يُقرأ كما ينبغي له أن يُقرأ.
مع انطلاقة الشعر العربي الحديث، أو بعدها بقليل، كان نزار قباني قد امتلك لغته الشعرية وباتت له شخصيةٌ شعريةٌ واضحة. ولم تنلْ حركةُ الحداثة من مكانته وحضوره لدى الجمهور. لا بل إنّ إقبال الجمهور عليه راح يتعاظمُ وهو يشقُّ طريقه بمحاذاة الحداثة أو بموازاتها.
ولكنه في فترة لاحقة، منذ أواخر الستينيات تقريباً، سعى إلى التقاطع على نحْو أو آخَر مع حركة الشعر الحديث، التي ما كفَّ يوماً عن انتقادها أو التعريض بها وبشعرائها. حاول أن يتقاطع معها ربما على سبيل التحدّي أو التجريب. فكتب قصائد غير عمودية، تخلّى فيها عن نظام البيت أو الشطر، وراح ينوِّع في موضوعات قصائده، فلم تبقَ هذه الأخيرة مقتصرةً على موضوع الحبّ.
بعد الهزيمة، هزيمة العرب في العام 1967، أخذ نزار قباني يكتب القصائد السياسية، التي لم تكنْ في الغالب قصائد عمودية. وفي العقود اللاحقة راح نزار يُكْثِرُ من القصائد السياسية التي تطرح المشكلات العربية، وتنتقد الحكّام العرب، على نحْو لاذع أحياناً. هذه القصائد مباشرة وخطابية، وكثيراً ما تنحو نحْو النثر أو الكلام العادي. هذه القصائد لا تبلغ، في المستوى الفني، ما بلغتْهُ القصائد العمودية التي عرفناها في دواوين نزار الأولى، والتي شكّلتْ له ـ في موضوع الحب ـ شخصيته الشعرية المميَّزة.
إذاً، لم يكنْ في محاولة نزار التقاطعَ مع حركة الحداثة إغناءٌ لتجربته الشعرية. بل كان فيها نوعٌ من الانفلاش أو التراخي. لهذا، يمكنُ القول إنّ كتابات نزار الشعرية المتأخرة (في الزمن) لم تكنْ بقوّة البدايات أو الكتابات المبكّرة. ولا أقصد بهذه الأخيرة الكتابَ الأوّلَ وحدَهُ، بل أقصد الدواوين الخمسة أو الستة الأولى، التي تبلورَ من خلالها مشروعُ نزار الشعري، طريقةً وموضوعاً. هذا المشروع احتلَّ مكانته المرموقة إلى جانب مشروع الحداثة الشعرية العربية، وليس بالتقاطع معه.

*****

الشاعر الدّمشقي وشعرية «السهل الممتنع»

  مع زوجته العراقية بلقيسصباح الدبي
هذي دمشقُ وهذي الكأس والرَّاح
إني أحبُّ وبعض الحب ذبـَّاح
أنا الدمشقي لو شرَّحتم جسدِي
لسال منه عنـاقيدٌ وتفاح
هذا الدمشقي الهوى، الضارب في جذور العروبة، يمتح من معينها ماء الوجود، ومن ورق لغتها نسغ الحياة رغم الغياب. شاعر ملأ الدنيا وشغل الناس، واستطاعت لغته أن تبحر وتحلق وتسير، واستطاعت أن تذوب وتُذيب. لا حدود لسحرها وهي البسيطة المتداولة، لا تحتاج لجواز مرور مجازي بعيد المأخذ لتوغل في عمق الذائقة ولترتسم في ملكوت المُخيلة التي تتلقاها، وهي الموشاة بالألوان، المثقلة بالأنغام، كأنها نهر قزحي منساب لا حدود لمصبّاته.
هكذا تقف اللغة بكامل أناقتها ورقتها، وبكامل عنفوانها وسحرها، وهي تنوي الحديث عن شاعر عزف على أوتارها، وداعب ألوانها وتوَّج رأسها بتاج السهل الممتنع، الملون المنقشع.
منذ أعماله الأولى «قالت لي السمراء» راهن نزار قباني على أن يجد لنفسه طريقاً شعرياً «نِزاري» الرؤى يحمل بصمته وحده، وإن كانت مادته التي بها يشتعل الشعر بين يديه ملكاً للجميع، يمتح من نفس المعين، لكنه يصب فيه مادته السحرية التي تأبى على التقليد وربما كان هذا الرهان هو المحرك الأساس لشعرية نصوصه وهو ميسمها الذي به تكون.
لا أحد ينكر التأثير الذي تمارسه بنيات اللغة الشعرية عند نزار قباني رغم الاختلاف الواضح بين حالات التلقي والذي يُعزى في نظري إلى هذه المسحة من المتناقضات التي تؤثث التجربة، وتجعل متلقيها في منزلة بين المنزلتين تماما كما هي الحال بالنسبة للشاعر الذي يجعله السؤال عصيا على اليقين، وتنثره الألوان بين بياضها حينا وسوادها حينا آخر، وتحيله تارة غيمة يُظلُّها قوس قزح.
إن المدهش في تجربة نزار في نظري، ليس مجموع الأحوال والأهوال والمقامات التي عبرت عنها قصيدته، ولكن هو هذا التناغم الحواسي حد الفتنة الذي تتماهى فيه الأصوات والمرائي ويتآخى فيه الشم والذوق واللمس، لتعبر القصيدة عبر كل هذه المعابر للعروج إلى سماوات الجمال، فكيف تستطيع قصيدة ببساطة مادتها اللغوية، وسهولة شبكاتها المجازية أن تكون بمثابة لوحة نثرتها الألوان، وأن تكون قطعة موسيقية مثقلة أبدعتها الألحان، وكيف يكون لها طعم ورائحة في الآن نفسه؟ ربما من أجل ذلك تتحالف كل قنوات التلقي لتجعلها جماهيرية رغم كل شيء.
السحر
مما لا شك فيه أن تجربة نزار قباني تؤثث جزءا هاما من ذاكرتنا الشعرية، وتشكل حيزا كبيرا من قراءاتنا، ولا أخفي أني كان يسرقني هذا الانسياب الإيقاعي الراقص المثقل بروعة الصورة وأنا أقرأ قصائد نزار في بداية تشكل نصوصي الأولى، حتى أن القصيدة كانت تتحول عندي إلى كائن حي يمشي ويصرخ ويهمس ويطير ويغضب.
وبذلك استطاع نزار أن يهب الحياة لقصائده شكلا ومضمونا، واستطاع بفعل تأثير مادته السحرية أن يجعلها ملازمة للقراء ويجعلهم من دون وعي يُرجئون المساءلة النصية والبحث في ما وراء الكلمات إلى وقت لاحق مكتفين بالدهشة الأولى.
إن نزار وهو الذي كتب في مختلف الموضوعات، واستجابت دفقاته الشعورية إلى مختلف الانفعالات، تكاد تجربته ترتبط ارتباطاً لافتاً بموضوع المرأة والذي كان محط جدال وأخذ ورد، فقد كان يصرح في غير ما مناسبة برغبته الحثيثة في تكسير البنى النمطية التقليدية في مختلف تمثلاتها وتجلياتها، وينعكس ذلك في تجليه الشعري. غير أن الموضوع في نظري، يمكن أن يوجز في ثنائية «الصعود « و«السقوط» التي لزمت حضور «المرأة» في متخيَّله، والتي كانت نتيجة طبيعية لبنية المتناقضات التي طبعت مساره الشعري والانفعالي الوجداني.
ومن ثمة فإن جملة الانتقادات التي وجهت له، وإن كان لها ما يبررها، لا سيما حين تظهر المرأة في هاوية «السقوط» التي ينتجها المتخيل «النزاري» لا تستطيع الفكاك من شيء آخر يقف على طرف النقيض، لا سيما حين تعلو المرأة وتعرج إلى سماوات الضوء في معارج «الصعود» والتي يُنتجها المتخيل «النزاري» نفسه، وبذلك حينما يكون المتلقي امراة، فإنها بقدر ما تقرف من بوابات السقوط التي تنزلها القصائد إلى دركها الأسفل، لا تنسى أن تبتهج بأجنحة التحليق التي يُلبسها إياها في حالات الصعود، وبذلك تنعكس هذه البنى المتناقضة في القول الشعري على المتخيل القرائي، الذي يجد نفسه محاصراً بشبكة من المتخيلات الشعرية، التي بقدر ما تقدم صورة عن الآخر /الأنثى، تَشِي بصورة الذات الشاعرة في شكل من التجلي الأتوبيوغرافي المنفلت، فإذا كان ظاهر حالة السقوط هو الأنثى الموضوع، فإن باطنها في الآن نفسه هو الذات الشاعرة تماما كما هي الحال بالنسبة لحالة الصعود، لا سيما إذا استحضرنا الفجائع التي أصابت الشاعر وكانت المرأة موضوعا لها: (أخت الشاعر المنتحرة، وزوجته بلقيس التي قضت في تفجير السفارة العراقية).
إن المرأة وهي تتلقى شعر نزار، لا تنحصر في المرأة العاشقة فقط، وإنما هذه المرأة هي أيضا الزوجة والأخت والأم، وبذلك تتضافر كل الانفعالات في وجدانها لتحتوي هذه التناقضات، فهي وإن تبرمت من صور السقوط (هذه المجدورة الوجه انزوت كوباء.. كبعير نتنِ/ أخرجت ساقاً لها معروقةً / مثل ميْت خارج من كفنِ) لا تلبث تذكر صور الصعود، ولا تلبث تنصت بقلب الأم لشاعر طفل يبحث عن ملاذ وإن كابَر حين يحلق بما لديه، ويكسر أطرافه حينا، ثم يبكي بمرارة بعد الفقدان حينا آخر، وما بوسع الأم إلا الحب رغم الإساءة، وهذا ما تتيحه لنا لحظة ضبط قرائي لقصائد الرثاء ولانفعالاته القوية إزاء الموت:

« بلقيس.. يا بلقيس.. يا بلقيس
كل غمامة تبكي عليكِ
فمن ترى يبكي عليّا
بلقيس كيف رحلت صامتة
ولم تضعي يديك.. على يديّا؟
«أمات أبوك؟
ضلال.. أنا لا يموت أبي
ففي البيت منه روائح رب
وذكرى نبي..»

ولا يُلهينا الحديث عن نزار قباني وقد ارتبط اسمه ارتباطاً رناناً بالمرأة عن ذكر قصائده المزلزلة رغم بساطتها والتي انتقدت الواقع العربي، وأدركت جيدا من أين تؤكل كتف السخرية السوداء، فأصابت في مقتل، وألهبت حماسة الجماهير.
إذا كان وضوح الفكرة، وبساطة اللغة وعفويتها المثقلة بالسلاسة والعمق في الآن نفسه قد ميزت تجربة الشاعر، فإن المتلقي لشعره، المأخوذ بدهشته، سيظل في نفسه توقٌ دفين إلى حالات أخرى يتجلى فيها نزار، وقد خان المباشرة قليلا لينخرط في رحيل شعري آخر يسمح بالقراءة القلبية الهادئة المفتوحة على رؤى تتناسل وتستعصي على القبض وتعِدُ بما لا يُعَدُّ من الاحتمالات والدلالات. لذلك، فإذا كانت قصائده قد حققت للمتلقي متعة الدهشة المتحركة بإيقاعات ملونة منسابة حين أطربت وأرقصت وأرعدت وأمطرت، فإنها حرمته من حالات السكينة التي يفرضها المسار الشعري التأملي المتلبس بلبوس الفكرة المجنحة، والصورة المتعددة / المتحولة المنذورة لكل قراءة جديدة متناسلة، ورغم ذلك يظل الشاعر الطفل/ الشاعر السـؤال الذي لا يقـين يطفـئه.

(شاعرة مغربية)

*****

الشاعر الدونكيشوت..

لؤي ماجد سلمان

يكفي أن تخطئ عينك وتصطدم بعين رجل أمن، سائق أمير، حاجب وزير، فتزعجه وقاحة نظراتك لتكون رهن التحقيق، يكفي أن تقول "نهد" مرتين، حتى تُحرقَ بتهمة إثارة النعرات الجسدية، بل يكفي ألا تطلق لحيتك فيقام عليكَ الحد من شركاء الله في حسابك وعقابك، ولا يكفي أن تمجد السلطان بديوان، وتصدق انتصارات العرب الموثقة بالمهرجانات الخطابية، وتلبس التاريخ عدسات ملونة، نعم نهد من ثلاثة حروف كفيل بأن يجعلك ملحداً، وقصيدة واحدة تمنحكَ جواز عبور خارج الوطن العربي، وتتهمك بالزندقة، هذه باختصار حكاية شاعر تلصص العرب على جسد قصيدته، فنزعوا عنها الحرير والعبر، وحوّلوها من قضية إلى سبية، تمنع من العرض في رفوف المكتبات وتُباع على الأرصفة جانب كتب الجنس والسحر، والغذاء السحري لتطويل الباه.
هكذا اجتمع رجال الدين والسياسة على كلمة سواء "قمعستان" لإبعاد الشاعر السوري نزار قباني عن وطنه، محاولين طمس كل ما قاله فحاربوه بحروفه وشعره وشامه وعروبته، لا لشيء فقط لأنه حمل مرآة ونصبها أمام الخيبات والهزائم السياسية المضحكة المبكية، مطالباً إياهم بالتوقف عن التغني بأمجادهم الوهمية واجترارها في ألعابهم الإعلامية، وما يخدرون به الشعوب، فحسب قناعة نزار قباني فإن العرب لم ينتصروا يوماً على ذبابة، لكنها تجارة الأوهام، وكل ما شاهدناه من بطولات ما هي إلا حكايات وقصص درامية نسجوها من مخيلتهم، مطالبا مرتزقة الدين بالتوقف عن هذه التجارة الخاسرة، وعدم معاملة الناس كالأغنام أو كالحبة التي عليها أن تدور في سبحات أيديهم من دون أدنى تفكير أو محاكمة عقلية، فكان مصير قصائده أن تزج في قفص الاتهام نهاراً كعاهرة، ويستجدونها في الليل كموجة زرقاء لتشد فحولتهم من أذنها، وفي النهاية مددوها على طاولة البرلمان السوري ليمنعوا تداولها إلا للخاصة وخاصة الخاصة كأي فيلم إباحي، أو مفردات الكيف، وأخيراً يطالب بطرده من السلك الديبلوماسي، إضافة للسخرية والهجوم العنيف الذي شنه عليه بعض رجال الدين ومنهم الشيخ علي الطنطاوي حين صدور ديوان "قالت لي السمراء-1944".

شاعر المرأة

نزار قباني فارس واجه أكثر من معركة وقام بأكثر من ثورة، شاعر اقتحم الواقع بجرأة فاستحق لقب الشاعر الثائر. فمن ناحية كشف الغطاء عن الحريات الاجتماعية المسلوبة، والكبت المتوارث عن القبيلة والعادات والتقاليد، ولعل حادثة انتحار شقيقته "وصال" بعدما أجبرها أهلها على الزواج من رجل لم تحبه، كان الحدث الأبرز في تشكل وعي الطفل للحريات الإنسانية الفردية، وبدأ ينقل خيبات الأنثى من الحرملك إلى الورق، محاولاً انتشالها من جب العادات والتقاليد البائدة، من ظلم المجتمع والرجل الأب، الأخ، الزوج، الابن، حتى أنه نجح في إعادة الأنثى إلى دواوين الشعر والقصائد العربية كما كانت عليه الحال في العصور السابقة وتاريخ الشعر العربي الطويل بعدما أقصاها شعراء تلك الحقبة وحولوها إلى نوع من المحرّمات ظاهراً لا يجوز الاقتراب منها حتى لغوياً، متعامين عن تاريخ الشعر العربي وما حواه من ألفاظ وكلمات وصور، من جرير وصريع الغواني إلى عمر بن أبي ربيعة، وأبي النواس وأبي العتاهية وغيرهم، لكن الشاعر الدمشقي كان يحمل بين ضفتي شعره قضايا الشباب وحاجاتهم للحب والانطلاق والحرية، طارحاً ما كانت تعانيه المرأة الشرقية في المجتمعات المتخلفة من تهميش وازدراء فكري وجسدي، لكن للأسف هاجمته الرجعية وحاولت إسكاته بحجة الحفاظ على العادات والتقاليد، فالمجتمع آنذاك كان برمّته يخاف الخروج عن فتاوى شيخ الحارة أو من تحت عباءته، حتى أن أكثر النقاد كانوا جهلة وغير قادرين على التمييز بين المصطلح الجنسي والمصطلح الشعري، وكان النقد بمثابة أصولية أدبية وتطرف، خلط بين القصيدة والجسد، وشاهد النهد عورة والساق عورة، ورأس القصيدة سافراً، وعجزها فتنة تثير القارئ.

التجديد في القصيدة

لم تقتصر مواجهة نزار قباني على حرّاس الفضيلة، بل واجهه المحافظون على الشكل القديم للقصيدة، والأسلوب الشعري حين بدأ يستخدم قاموسه الخاص، ويدخل المفردات العامية على اللغة الشعرية، تلك المفردات المعاصرة المستقاة من اليومي وحياة العصر الذي عاشه في لبنان والمهجر، والذي أطلق عليه النقاد الفضاء اللغوي المفتوح؛ فبعدما كان الفضاء اللغوي منغلقاً على مفردات العصر، ومفتوحاً على ألسنة المعاجم التي استقى منها أغلب شعراء ذلك الوقت مفرداتهم، كان من الصعب إدخال مفردات محدثة؛ فحرمُ الشعر مقدسٌ ولا يجوز المساس به، خاصة أن الشعراء في ذلك الوقت كان لهم ثقافة لغوية تقليدية، ولم تخرج صورهم ومفرداتهم عن المعاني القديمة والمكررة المستقاة من كتب القواعد والنحو، والجرأة التي وسموه فيها في بداياته لم تكن من حيث المفردات الجريئة فقط، بل في الخروج عما اعتاد الشعراء قوله وطرحه، لكن إيمان صاحب "سامباـ1949" بأن الشعر للجميع وليس لطبقة من دون أخرى، وضرورة لحياة الناس، جعله يختار لغة بسيطة، مرنة سلسة الإيقاع، أدت إلى اتساع فضائه الشعري نتيجة لاتساع فئة المتلقين وتنوع ميولهم وثقافاتهم، بدءاً ممن يعتبرون أنفسهم النخبة، حتى الناس العاديين والبسطاء، التلاميذ والمراهقين وربات المنازل، والأنثى المقموعة عموماً، والثائرين على ما أصاب العروبة من ترهل، فكانت لغته التي استقاها من المدرسة اللبنانية ومصادره المختلفة، بعيدة عن التصنع والتعقيد اللفظي، تلقائية، عفوية، مفرداتها مختارة، عباراتها مركبة بطريقة متينة، ونجدها رغم بساطتها غنية لغويا في التصوير وإطلاق العنان للخيال، إضافة لعمق تأثيرها في المتلقي، فلم تقع فريسة جزالة اللفظ وغرابته، أو فصاحته، فكان حريصاً منذ بداياته على استبعاد المفردات الغريبة التي تسير على جسر الخطابة والإنشاء، معتمداً على الأسلوب السهل الممتنع المليء بالصور الشعرية والإيحاءات، والمفردات التي تتميز بالواقعية اللغوية والحدث اليومي، فكان أفضل من طوّع اللغة العامية لخدمة اللغة الشعرية بعد إشراكها بالفصحى من غير أن يخرج عن حدود الفصحى، ويمكن الجزم بأن العفوية الشعرية التي انتهجها في مسيرته جذبت الكثير من الشباب لفن قراءة الشعر وتلقيه، لا سيما أن قباني في ترحاله كان يحمل قراءه وهمومهم من حارات دمشق وزواريبها وصفصافها وأنهارها، وينقلهم من المحلية إلى العالمية، إذ أدخل إلى مسامعهم مفردات جديدة وأسماء مدن وأعلام كان لها آثار في بلادها والتاريخ الثقافي والأدبي، حتى أنه في مجموعته الرابعة "أنت لي ـ 1950" عنون إحدى قصائده بالحروف اللاتينية.

بين العشق والحسرة

هذا هو الشاعر "الدونكيشوت" العاتب على العروبة والوطن، والأمة المثخنة بخيباتها، الإنسان الممتلئ بالحنين لمدرسته وحارته وكتبه وذكرياته وصور رسمها على جدران مدرسته، وأسوار الحياة، شاعر يتحسر على أيام سرقتها الغربة، ومقاتل فرسه القصيدة، وسيفه الحرف، ودرعه الصور الشعرية، لكنها الرجعية تتمسك بالمفردات والإيحاءات الجنسية، متناسية عن عمد أو عن قلة اطلاع همَّ الشاعر في القضايا العربية الكبرى، والتراث الإسلامي الذي يسكن وجدانه، فغيّبوا قصائد جلد الذات من خيبات الأمة وهزائمها، والمرارة التي سبغت حلق حروفه، ولعل من قرأ "من مفكرة عاشق دمشقي" أو قصيدة "غرناطة" أو قصيدة "أنا يا صديقة متعب بعروبتي" التي ألقيت في مدينة تونس يعي الحسرة التي عاشها، وهو شاعر الشام بلا منازع، وابن دمشق التي ظهرت في الكثير من قصائده تارة كأنثى معشوقة، وتارة كحسناء تنافس عشيقاته في حسنها وجمالها، غير تصريحه أكثر من مرة بأن ما يربطه بها شيء غير قابل للانفصال مهما حدث، وعليه لا يمكن أن نوارب أو نتعامى عن عمق انتماء نزار قباني لعروبته ووطنه رغم السنين التي قضاها بعيداً عن مسقط رأسه، والوطن العربي، ذلك الانتماء الذي لا نجده عند شعراء وملوك وسياسيين، لم يغادروا بلادهم بل كانوا في مواقع القرار والسلطة لعقود، ويبقى نزار قباني من أبرز الشعراء الذين حاولوا إيقاظ الحس القومي ولم يفلحوا.
في النهاية لا بد من التنويه بأن شعر نزار قباني كان شاهداً على عصره، ولم تخلُ قصائده مما يسمى بالمواضيع الملتزمة بغية تعرية المجتمع، ومعالجة قضاياه وأمراضه، ورغم محاولة البعض طمس هذه الحقيقة أو تحويرها كما فعل بعض الجهلة من كتاب الدراما التلفزيونية، الذين وضعوه في نصوصهم بتصرف المراهقين والعابثين، متغابين عن إرث القباني الكبير من الشعر وما حمله من قضايا قومية عربية وسورية واجتماعية، بقي العملاق، فهل يمكننا أن نكون ضد الشعر السهل ونطالب بالشعر الذهني المعقد، أو نرفض الشعر الذي ينصر المظلوم، لنكون مع شعراء البلاط وتمجيد القصور، أو أن نقبل في تأطيره بـ"شاعر المرأة" دون أن نعي كيف حمل قضيتها، لكن لا شيء معهم إلا كلمات، وعذراً من السيدة فيروز صدقت نبوءة ابن حي مئذنة الشحم، "أجراس العودة لم تقرع" حتى هذه الساعة، ومعذرة من نزار قباني خالد بن الوليد لن يؤجرنا سيفه المسلول، والعروبة أرملة أصابها الشلل.

السفير : 05-09-2014