علي جازو
(سوريأ)

يوسف عبدلكيبرقّةٍ مكبوتةٍ، بتفانٍ هاوٍ ذي غزارة متينة نضرة، لا تخفى رحاباتُها الزاهدة الحذرة المتكتمة، يستعيد يوسف عبدلكي، كمن يستأنف عملاً غير منجز بعد، عملاً يتنادى فحواه حول بذرةٍ لا تضمحل ولا تُحتَمَلُ! بذرةٌ من هناءة وشيوع البديهة الغامضة؛ الغموض الذي يعيدنا إلى البديهيات كأمور عصية، على قول محوَّل من هيغل. يستعيد، الحفَّار ورسام الكاريكاتير، مجدداً عوالم أشياء لا تشبه الأشياء، بل ربما لا تشبه إلا ذواتها منفصلة، مسحوبة من لون الغرق، بتفردٍ يتشابه ولا يتطابق: الغصن ليس غصناً قدر ما هو جَلْدٌ صامتٌ وحميميّةٌ ثاقبة! السمكة، على أحوالها وأهوالها، ليست مجرّد سمكة! لقد تجاوزنا تسمية (طبيعة صامتة) لأنها تعجز عن حمْل وِزْرِ هذا العَوَزِ المتألّق وهذه الحِدَّة الرصينة المرصوصة الماضية. لونان وحسب، إلا في ما ندر من بقع تحمرّ بخجل أو صدفة على بشاشة حبات الكرز وأقداح الشاي الصغيرة. (بماذا سنحسّ إذا كانت حبات الكرز عيوننا؛ عيوننا التي لم نمتلكها يوماً؟ في هذا إشارة موجزة لدراسة أميل منعم الذكية للوحات معرض عبدلكي الأخير في غاليري الأيام بدمشق). لونان - بذرتان تذكراننا بعبارة فذة لجلال الدين الرومي: (الوردة هي الشجرة التي تخفي الحديقة). ثمة عنفٌ؛ حدَّ رهافةٍ مخمورة، شبقيٌّ يدوّي في صمت هذه العبارة الجوّابة الحاضنة. عنفُ يوسف عبدلكي ترقَّقَ متحوّلاً إلى عناقٍ شبحيّ سخيّ لأكثر (الأشياء) إهمالاً وضآلة نفوذ وحضور: حذاءٌ، أقداح متروكة، علبة سردين فارغة من وليمة (العائلة)..الخ لكنّ (الحذاء مثل السكين العملاقة ذات السطوع المبهر فوق جسد عصفور ضئيل) كلاهما هائلٌ مدوّخٌ؛ هولَ وحَوْلَ نسيان صاحبه، في غيابه الأكثر سطوة من حضوره! من الغياب؛ من فداحة وصمت الغائب، يخرج في تكاتفٍ صلبٍ، حذرٍ مدمنٍ مديدٍ، وكثافةٍ منحوتةٍ كلُّ هذا (الخبل) الساحر! الأرقُّ من يتذكر، الأعنفُ من ينسى. النسيان - مثله الكسل والغضب - ها هنا خطيئةٌ. يعود الأبيض بارداً أبيض، ويعود الأسود دفء حرارة سوداء. بينهما كلّ شيء حدث ويحدثُ. مثل لونيه - لونيه هو - القابضين بوحشية كلٌّ على فم الآخر، تنقبض يدُهُ (اليد التي هي ثمرة الوعي المرئية) مثل عنق مخنوقٍ بين شساعة الفراغ المحدّق المراقب ورهافة الكائن المحاصر بفراغ لا ينتهي ولا يجفّ: (مِنْ شاكِرْ لَشُكْري هَلْ مَيِّ عمْ تجريْ. لا ما لا عَمْ تنشَفْ، ولا حَدَاً عَمْ ترويْ!!). لكن يوسف عبدلكي استطاع بمقدرة عجيبة أن يروي وهو يزداد تكتماً، أن يغني وهو يغرق في الصمت؛ فيسرد وهو يكثف ويختزل، بدرجة جمالية قاربتْ كمال العارف الحائر وحكمة الشيخ الصامت. ومعه نستردّ تألق عبارة أخرى: (إن البحث عن الكمال هو الجرحُ الذي منه خُلِقَتْ أرواحنا..!).

الاستعارة والإزاحة معاً
يستعير عبدلكي، يشيرُ ويلمّحُ مثلما يفعل الشاعرُ، مواضيعَ رسومه من صورٍ اعتيادية للغاية، مفردة عزلاء وحيدة منسية، غالباً، ومن المحيط المألوف: غصنٌ، حذاءٌ، سمكةٌ، مسمارٌ؛ مسمارٌ فقط! أقداح وأكواب وحبات فاكهة... لكنه، مع التنويه من جديد بشأن الاستعارة التي تُخرج المألوفَ من ألفته والبسيطَ من استسهال اعتباره بسيطاً أبداً، يوسّعُ دائرةَ أثرها الجمالي والمكاني على امتدادات غير معهودة! كذلك يصنعها بلونين فقط هما الفحم القلميّ والفحمُ الأبيض - إذا جاز التعبيرُ لنا أخْذَ الفحم إلى لون آخر نقيض - فإنما ينجز بهذه الإزاحة الشاملة الغريبة أمرين لافتين:

- رفعُ العادي المألوف إلى مصاف المقدَّس السيِّدِ والعالي المهيمن؛ أي إلى مرتبة الجميل الذي ينبغي أن يعامل ويترافق مع الحياة مثلما يرافق المقدَّسَ جمالُهُ الطاغي. ولنقبل هنا هذا التقابل المتعدّي بين المقدس والجميل من جهة والألفة البسيطة مع السيّد الطاغية من جهة أخرى.

- باختصاره الزاهد وتكتّمه اللونيّ الحذر والهادئ في حينٍ يعيد اللونَ إلى بدايته المطلقة من كل لون. وإذْ يُعادُ اللونُ إلى نقاءٍ وعرٍ وعارٍ وحادٍّ ومتكتّمٍ؛ فَمَعَهُ يتخلّى السرُّ عن غموضه إلى وضوحه، وتنفصل العجمةُ عن البديهة لتشفَّ وترقَّ في جلاءٍ حصين لكن مربكٍ أيضاً!! إذاً لوحاتٌ ذات مواضيع بسيطة لكن بأحجام غير مطروقة، مع ألفة المواد المرسومة لكن بعشق يقارب الزهد! مثل هذه التنقلات تذكرنا بقصص تشيخوف ومسرحياته. فجأة يبدو الحزينُ الساذجُ حاملَ أسرار عميقة، والألفةُ الأسريّةُ، مع تذَكّر البيت القديم والأب الراحل، علامةَ ثراءٍ مؤلمة شجية ساحرة. مع تجميع هذه التعابير والانطباعات في صياغة أخرى مقاربة يمكننا اقتراح الرؤية التالية: البساطة تقابلُ وتجادلُ وتخاتلُ بنِدِّيةٍ جريئة المقدّسَ والعالي غير الممسوسين. التكتُّمُ اللونيُّ الشديدُ ذو الحوافّ المطبقة المتينة يطعن عدمَ معرفتنا ويلفتُ، خادشاً، لا انتباهنا إزاء الأقرب والأبسط والأضأل والأضعف. ومع تأويل ما سبق يصبح البسيطُ على حاله قبل الاستعارة التي أنجزها عبدلكي، دون قصد يجلب الزهوَ ودون توضيح يفضي إلى معرفة جافة عقيمة، يصبح علامةً على الخلود المتعاقب اليومي المكرر. على هذا الحبل أيضاً يشير الأليفُ إلى اكتفائه السخي مثلما هو المقدَّس مكتفٍ ومنطوٍ على جماله العلوي الحاكم. وما الزهدُ هنا في صيغة عكسية - لكن أيضاً هادفة ومعلنة بهمس ظليل - سوى تطلّبٍ حسيٍّ متدفقٍ حارٍّ إلى أقصى درجات الحرية والذهاب، في عتمة فاتنة لا تنضب، نحو ما نراه يومياً ولا يجذبنا أبداً!!

خدعةُ يوسف
السمكة ليست السمكة لأنها ليست في المكان الذي يفترض أننا نراها فيه عادة، ولا بالحال التي تتهيأ فيها للنسيان أو الالتهام أو التشيؤ، ولا بالحجم المعهود. سُحِبَت السمكةُ من عهدة التأويل القديم، كما أنها نأت كثيراً عن فيزيائيتها اللطيفة. ثمة من ينظر عبر عين السمكة. ثمة من اتخذ السمكة قناعاً مرعباً لروحه الخجولة المنحوتة الخائفة، وهو إذ يحملنا إلى رؤية السمكة إنما بالآن وبالضراوة ذاتها التي رسمت بها السمكة يحملنا إلى رؤية روحه. إنها القرابة العاشقة التي تجمع الحيوات والمصائر في قبضة مشدودة وفي حنين أين منه حنين الندى!!! هذا ينسحبُ ويتجمعُ أيضاً على حال الجمجمة وعلبة السردين والأحذية والفجلات الثلاث...؛ الأمر اللافت وربما غير الملاحظ هو إخضاع معظم الرسومات وإحكامها التامان بتصور ذهني واحد. اثنا عشر عاماً من العمل الرصين المرهق، من القراءة والتذكر والتأمل، ومن الأكثر تأثيراً وسيطرة: الغياب!! غياب الواقع نفسه، البشر مع الأماكن مع الأفكار. على هذا المنوال، تكراراً لا يمل ولا ينطفئ ولا يشبع، يظل متكلماً، ناحتاً، مسافراً في الصمت الذي حوَّلَ الصّبرَ إلى إذعانٍ سافلٍ والأملَ إلى تخاذلٍ همجيٍّ والأفكارَ إلى بخارِ قمامةٍ بشرية. الواقعيُّ، من كثرة إهماله وعرضه القاحلين لم يعد واقعياً. الواقعي - ربيب الألفة المتجاهلة الخاوية - لدى يوسف عبدلكي يضيق بالتسمية التي استهلكتِ السنينُ جمالَها ونفوذَها وقوتَّها. الواقعي لم يعد واقعياً أبداً. بل رُفِعَ وتسامى - مثلما ننشل وروداً ناعمة، كانت ربما المعادل الأرق لمصائرنا، عن سياج متآكل صدئ - بقوةٍ هي الحبُّ، وعنفٍ ينطوي على رقة مرتعشة، وقسوةٍ صارمةٍ تتغذى من الإخلاص والتفاني نادرين نادرين، إلى مقامِ خيالٍ محض! لكنَّ رفْعَهُ ومدَّه في مقامٍ كهذا ليس بغرض التخييل فحسب. هنا يظهر عبدلكي براعة مزدوجة مركبة. أولاً اعتمادُه القرْبَ الأليفَ للأشياء المحيطة، ثم النظر إليها في تصوّرٍ غير عادي. ستنتجُ الخدعةُ أثرَها المختلف - الجميل الصعب بآن - عندما يعيد المراقبُ ما استعارَهُ الرسامُ وحوّله، يعيدُهُ إلى فضائه الواقعي الغريق اليومي العادي. حينها سندرك معاً - بعد أن تستنفذ الاستعارةُ طاقتَها الموحية وإزاحتَها الخلابة مُكمِلَةً عملَها الموحي وإشارتَها النافذة - أنَّ ما عبره يوسف عبدلكي وتجاوزه ضمن التكثيف الشديد وقسوة الرسم، إنما فقط ليفسحَ العينَ على نظرةٍ أكثر رحابةً أعمقَ وأكثر نأياً، وأجدرَ قابلية للصمود في وجه الزمن. نظرةٌ تتركز وتحلُّ في براءة الأشياء من عنف العالم وخضوعها القسري له في الآن ذاته!!!

شأنُ التفسير شأنُ الخسارة
أعتقد أن تفسير فحميات يوسف عبدلكي يحطّمها؛ يُبَدّدُ جمالَها وقوتَها وعنفَها. ثمة من يحيل الرسومَ إلى كلمات مطنبة، الطاقةَ العاطفيةَ الوجدانيةَ إلى شروحٍ باتةٍ خانقة. هكذا يجري التعاملُ مع النصّ البصريّ مثل التعاملِ مع نص أدبي! تُعامَلُ الأيقونةُ معاملةَ الحكاية. يُخترَقُ الرسمُ بكلماتٍ ليست من جسده؛ فيتضاعفُ تأويلُ الكلامِ بالكلام. يفتح الكلامُ بعضُهُ بعضاً، فنمضي هاذرين في سلسلة لا نهائية من ثرثرة مخيبة مزعجة!! قيل، مثلاً، من غرز السكين العملاقة في الخشب فوق جسد العصفور الصغير!؟ لا أحد. لا أحد أبداً!! لا ينبغي الخروج من اللوحة. من يغادرها وفق تساؤل كهذا إنما يسعى إلى مغادرة سريعة بعد نظرة سريعة لا تتحمل الصمودَ أمام اللوحة، ولا انتظارَ أنْ يخرج فيها وبها لا منها وعليها. لكنْ حقاً، حسناً، من غرز السكين العملاقة الساطعة؟ تخفي السكينُ يدَ العنف داخلها لا خارجها. تحملُ السكينُ يدَ النهاية الكارثية في سطوعها الشنيع وحقدها العاهر الشرير. السكينُ هي التي تحمل اليدَ لا العكس. السكينُ أقوى من اليد؛ إنها تستعملها وتسخرها لإشباع غريزتها في القتل والإفناء. ربما على الكلمات الناظرة أن تتخذ الهيئةَ التي تسعى الرسوم إلى بلوغها، على الكلمات أن تنحني على اللوحة، أن تفكر وهي تنظر بأنها الآن مرئية من الرسم الذي تراه، لأن الرسم ليس مشهد رؤية من طرف واحد فقط، لأن اللوحةَ هي عينُ الفكر وقد اتّخذَ صورةً مرئيةً مثلما أن اليد هي الوعي وقد اتخذ صورة مشهد يائس؛ (يد الكاتب بخاصة مثلما يراها الشاعر برنار نويل). على العين، وهي تنظر، أن تتذكر أن الرسمَ هو الأسبق والأعرق والأعمق، أن العينَ هي النافذةُ النّفورُ، النّدمُ والنّومُ!! على العين، على كلام العين اليائس، أنْ يتشرَّبَ سوادَها وصمتَها وريبتَها ووضوحَها معاً. إذا ما مضينا أكثر في البحث عن اليد - محتكرةِ العنفِ و مُسَيِّدَتِهِ الأبدية - فلن نعثر عليها، بل سنتوه حتى تنغلق عيوننا في دواخلنا الحائرة الخاملة. ينبغي الوقوف مجدداً أمام اللوحة، ينبغي الصمود عن قوتها غير العادية. تخفي السكين داخلها لا اليدَ فقط، بل الغريزة والقوة المدمرتين. ذلك أن السكين ليست رمزاً هنا، ولا وسيلةً تحبلُ بالإشارة من خارجٍ عَنِين. إنها الجسدُ ذاتُهُ، آلةُ القهر والإرهاب والعنف المنْهِكَة المهيمنة. العنفُ الذي نرى أثره في كل مكان، لكننا لا نرى فاعله وصاحبه مثلما نرى السكينَ أمامنا الآن. احتوتِ السّكينُ يدَها وصاحبَ اليد، فيما نحتفظ نحن من تحت، أسفل اللوحة، بعصفور لا ندري إن كان جثة غدْرٍ أم نوماً مرحاً مخادعاً!! (لوحة العصفور والسكين مهداة إلى جميل حتمل، القاص السوري المتوفى في باريس. لقد استفدنا هنا من دراسة خالد حسين السيميائية المخصصة لهذه اللوحة بالذات، المنشورة في ثقافي تشرين السورية). لِمَ يُرَى العصفورُ علامةَ طبيعةٍ وحياةٍ وأمنٍ؟!! لِمَ لا يكون العصفورُ نفسُهُ طائرَ موتٍ؛ طائراً لا نزال نمدحه بموتٍ أو بدونه!

كمال الصورة إرباك المعنى
إنّ رسومات عبدلكي تخرج - من كمالٍ ظامئ، من نضوجٍ يماثل الموت - من عالم مختنق!! تُعرَضُ اللوحات، نذكر من جديد بإخلالها نسبة طولها إلى عرضها، في مجالٍ محصور شبه جامدٍ موحَّدٍ متيبِّسٍ منضغط (الجمجمة المربوطة مثلاً، والسمكة المرصوصة المحمولة بمسمارين غائرين لامعين..). إنها تشكو برداً فظيعاً وانحصاراً عاتياً! رغم ذلك ينجح الرسام في إنهاكِ البرد - صنو العزلة - والحبس - عنف الحرية - والإعاقة - ثمرتي الحبس والعزلة - وإرباكها الجلّيين بإنقاذها من العتمة إلى النور؛ نور الفكر الرائي عميقاً وعارياً!! إنها مركزة ومعرضة بانضغاط ضوئي داخلي مكثف ومتراكم، حتى نكاد نرى النور يغمرنا ويغرينا داخل حدقة عين السمكة وفي بذور التفاحة وفي قلب الكمثراء وفي رباط الأحذية بل حتى في قعر الصندوق الفارغ!! قوة الحمولة هنا من قوة حاملها النفسية ومهارته التقنية. ثمة روح فتية؛ روحٌ من عضلات الغيم ومن مسننات المعادن الصقيلة! إن لمعان نصل السكين ومتانة الممسك المغروز بدوائر معدنية لمعان بارد وكتيم. إنه لمعان السطح فقط، بل هو محض انعكاس سريع كلي وآني. إنه عين الغريزة العمياء وقد رأيناها للتوّ. في حين يتلقى صدر العصفور الضوء كما لو يشع بحنين داخلي مرهف، برجاء كليم وعذاب رقيق. إن العصفور مندغمٌ بالضوء، منغلقٌ فيه. إن الضوء يتخلل ريش العصفور ويتمسّد به، يتغلغل ويفرفح ويتمسَّح. جسم العصفور ضئيل جداً نسبة إلى كتلة السكين الضخمة. جسم العصفور فقط، بعد مغافلة الكتلة الثقيلة الجامدة للسكين الشاهدة المتجمدة، يمتص أكبر قدر ممكن من الضوء، يمتص الضوء كما لو يتنفسه، ويدخره وهو يتنفسه! إنه يحمل الضوء ويتحمّله. إنه يحمل نفسه في الضوء، يتدفّأ ويحتمي به. الضوء الممتلئ بالعصفور، والعصفور الممتلئ بالضوء، يحرران طاقة الروح على العمل والحب. أهوَ (طيرانٌ في الليل)؟ ها هنا نستعير تعبيراً لماغريت، من كتاب برنار نويل عن ماغريت: (الكتابةُ وصفٌ لا مرئي للفكر، والرسمُ هو الوصف المرئي له).

المركز والفراغ والمالك الكبير
جرأة غير اعتيادية، مع صرامة فائقة في إعطاء الشكل حدوداً منجزة تامة. امتلاء غير متحفظ على شيء سوى الذات المرسومة، فراغات بلا حدّ، ذوبانٌ بصري في لا نهاية أُسِرَتْ بالعين الشرهة العاشقة وحُرِّرَتْ بقوة اليد العاقلة. فراغٌ نَسْجَ آخر؛ فجّرَهُ يوسف عبدلكي على هيئةٍ تشبه الشكلَ الذي تمنحُهُ البروقُ للسّماء! لا مركز للرسم سوى في طاقته وقوته، أو بقول نيتشه (الإفراط في القوة يبرر القوة). أشياء عبدلكي ليست محض أشياء. إنها التجسيد الحيّ للطاقة الكامنة، للصمتِ الذي يمنحُ الصوتَ إلى الموسيقيّ، والشكلَ إلى الرسام، والكلماتِ إلى الشاعر. الطاقة وقد غدت، عبر عين الرسام ويديه، موجودة ممنوحة وحرة. ها نحن نتلقى عبر مسافة لا تعرف القياس العادي، وجوداً حراً كمن يمتلك أول خطوة نحو التوحد الناصع الخصب الممتلئ تموجات تموجات معطوفة، وقَطْعَاً كاملاً مسنناً كأنما هو أثر فأس روحية! يقول الرسام والراهب الصيني شيه تاو، من القرن الثامن العشر في كتاب أطروحات حول فن الرسم: (يجب امتلاك الجبل من أجل الإبداع ..، الإنسان ذو القلب ينجذب إلى الجبل.. الإنسان ذو العقل ينجذب إلى الماء). لا نبالغ ولا نجامل إذا وصفنا يوسف عبدلكي بالمالك الكبير!

وحدة المظهر الملتبس
تشكو رسومات عبدلكي المشارة إليها هنا، أو ربما تتسمُ، من وحدة ظاهر لوني ملتبس! الوحدة اللونية؛ بحدة مظهرها الخارجي وملمسها المعمَّم السائل، على أسطح جميع اللوحات تقريباً! إنها ملتبسة ومندغمة بقوة في محيطها، لأنها تماثلُ بطريقة ما مواربة وغير معللّة بين ملمس عظم الجمجمة ووريقات الغصن أو أفواه أكواب الشاي. على هذا الاحتمال يغدو التساؤل أكثر إلحاحاً وتطلباً وإرباكاً: هل تعمَّد يوسف عبدلكي، أحياناً، هذا التوحيد القابض المتين!؟ التوحيد، على فرضه واعياً أو غير واع، ساوى بين الفروق التعبيرية المرتهنة أصلاً بتقشف لوني. بزوال الفروق اللونية وتحطيمها التعبيري في المظاهر الخارجية الحدية للوحاته تتوَّحَدُ الإشارةُ وتختزل الدلالة نحو شحٍّ تعبيري وقصور غير مدرك!! ألا يتماثل المظهر اللوني السطحي بين مقبض السكين السافر ومخالب العصفور المطوية المنكمشة!؟ يتخفى الارتعاش التعبيري والتموّج المتنافس بين كائنين مختلفين في هذا التوحيد العام. أي أن الارتعاشة الضئيلة امتصَّتْ من المتانة المكتنزة، والمتانةُ، على عريها المتفجر، غمرتِ الارتعاشةَ بالذبول شبه المطفأ. ثمة هنا إضافة كانت مؤجلة في ما مضى. إضافة هي تساؤل كذلك: ما الذي يراد، ذهنياً، من توحيد المختلف وضمهما وضوحاً ثابتاً في حدقة اللوحة السوداء؟ ما الذي يغرينا ويشككنا في إغراق العين بملمس ظاهري واحد؟ ثمَّ التلويحُ ضمناً أن هذا التماثل مخادع كقربة الأشياء وألفتها اللتين طُوِّح بهما مسبقاً. التماثل سطحي لأن النظرة سطحية! إنه مخادعٌ لأن الرسوم أيضاً مخادعةٌ! على كل حال، ثمة ما يدفعنا إلى الحدس بتحول خفيّ ذي منحى تصوفي في مجمل أعمال يوسف عبدلكي المتأخرة. التكرار، التقشف، نحت الصمت، الإغراق في الشساعة والامتداد الحالكين، ثمَّ خلوّ الجميع من تعبير أكيد واضح! إنها سمات تجمع تشكيل يوسف إلى فكر أبعد من الحاضر المهان لوناً وهيأةً، إلى طموح أكثر إقلاقاً من الوجود المحلي إلى الوجود الكوني! وهو منحى يزيد عمله جمالاً وفرادة وصعوبة. إن اللوحات هاته تبقينا على الدوام - تحت ضغط وبهاء دقتها الصارمة - في حالة ترقب واندهاش بحيث أننا لا نقوى على الاقتراب أكثر. المسافة محمية مثلها مثل نظرة العين وذكرى المصافحة. لا نقوى على الاقتراب أكثر لأننا بعد قليل سنُعادُ من قبل الرسوم نفسها إلى الوراء! الماضي غائب. الحاضر مضى الآن؟! إنها رسوم متحررة من ذواتها السالفة الراقدة، وهي كذلك حصراً لأنها ممتلئة بها، بهذه الشدة المحكمة وهذا الفيض الداخلي المحبوس الغزير! وهي لهذا كله، تتلوى حاملة رسالة ذات منحى تصاعدي مؤثر. ربما هي عودة، فردوس عودة متخيلة، إلى انتصار الطبيعة على النفس، الجوع على الثقافة، والقدر على الأحلام!! الأكثر إرباكاً وخطورة هو انتصار الخوف على الحبّ!! لكن بما سنخرج في الرسومات، إذا كان الخوف قرين الحبّ، والطبيعة الامتداد الأقصى رحابة للنفس، والجوع نهماً في البعيد البعيد، والقدر ذاته أحد الأحلام (الكوابيس) الذي استفحل وطغى عنوة لا رغبة ولا حرية إرادة!!؟؟ إنها لرسائل حقاً! رسومات كالنحت كالحفر مثلها مثل طمي الطوفان إثر غرق الأرض! من جديد: الطبيعة هي المنتصرة حالُها حالُ القدر؟؟ سؤال كارثيّ، بل ربما مصيرٌ لا يقل تخوّفاً وتردّداً وإيلاماً عن السؤال نفسه! الطبيعة، مع أشيائها ليست سوى قناع. الوجه الأكثر صعوبة وخطورة هو وجه الإنسان الذي لم يجعل من الأشياء قناعاً فقط، بل ذوبها في قدره المرير وأحلامه المؤجلة؛ تلك المرهونة، قهراً، إلى مستقبل لا يبدو أنه سيتحول يوماً إلى زمن معيش، زمن وحسب؛ ليس أبداً معلقاً في فراغ!!

السفير
18 يناير 2008