علي جازو
(سوريا)

يوسف عبدلكيإن (أشياء) يوسف عبدلكي ليست أبداً نسبية ولا معلقة. ثمة من يغلقها بالمنفى والاغتراب شبه القسريين، ثمة من يفتحها ـ بمناسبة أو بدونها ـ إلى خطاب سياسي مباشر. الفن لا يغتني من هكذا نسب، بل ربما إنه ينحرف عما هوعليه، فيغدو إشارة من خارجه لا تعود إليه قدر ما تسقط عليه. الأحذية وحبة الموز والمسمار والفجلات الثلاث والغصن والأسماك، كلها منفردة ومحصنة باكتفاء سري. اكتفاؤها من قوة احتفالها بذاتها واختفائها الصميمي داخل حدود حادة، من كونها تجاوزت القناع وحلّت، بمهارة الفن وعصيانه المرح، الوجه المخفيَّ محله. الرسوم الفحمية ذات الأحجام الضخمة، تخلصت من نسب المكان ودواعي الرسالة العامة ونسبة الطبيعة الكلية. تكثفت في الحجم واللحظة، في اللون والهيئة، مطلقة من صغرها وهامشيتها متانة باهرة وتلوناً حاداً بارعاً. أشياء وكائنات لم تعد داخل سياق الطبيعة الصامتة. إنها الآن، مع فرادة أعمال عبدلكي الأخيرة (رسوم بقلم الفحم، عرضت في صالة الأيام بدمشق حتى الأسبوع الأخير من العام الفائت)، تعززت وترقّت، في إعادة الشيء إلى كونه على ماهو عليه، إلى التشابه الحي، بتواصل حميم وحوار عميق من ذواتها المحروسة بفراغ اللاشيء. اللاشيء، هنا، ليس الأجوف ولا الفارغ ولا الخاوي! إنه الأعرق، البداية البريئة من أثر الوقت، والجهل الكامل! من هنا لا يمكننا نسبتها بسهولة إلى خطاب محدد، أو عطفها كيفما كان. نحن ـ من هم خارج اللوحات كمن هو خارج مصيره ـ نبحث عن ترابط بين الأشياء تلك وبيننا. إنها الآن، عبر عيوننا وفكرنا، تنتسب إلينا أكثر مما تعود إلى صانعها! نحن بالمقابل مرهونون إليها، لأننا مازلنا ننظر ونفكر، باللوحات نفسها. إنها أيضاً نسبنا اللحظي وفكرتنا الحالية.

اللوحة، مثل عين فتحت عقلها الداخلي، تنظر إلينا أيضاً؛ تنتظرنا وتتفتح مثل برعم أمام أعيننا. لكن أشياء عبدلكي لا تتكلم. الصمت أيضاً لا يتكلم كلامنا المعتاد ولا الآلهة التي أنجبت الصمت! الرسوم لا تتكلم؛ لأنها تحولت من لا مرئية الفكر الكلامي إلى سطوع الفكر البصري. البصري العيني الذاتي، هنا، يدخر كلاماً مرجأً أو كلاماً سابقاً نظن أننا سمعناه مرة! نحن من يتكلم في اللوحات الآن، في أشيائها، لها وبها وفيها بالآن ذاته. الشيء كذلك يصغي، ونحن نسمع إصغاءه لنا. بقدر ما يكون إصغاؤنا السابق الضائع دقيقاً وحذراً بقدر ما نمتلك القدرة على تلقي الحوار وبيانه الجديدين.

لكن من يجرؤ فيعرف الكلام السابق على اللوحة؛ الكلام الذي امتصته الأشياء وادخرته وخبأته في ثناياها وجوفها المتفجر! سنضطر مجدداً إلى العودة إلى الأشياء وقد غدت بفعل كلامها في الصمت أشياء أخرى. سننظر في اللوحات كما لو أننا نتكلم، كما لو أنها تتكلم. سنتذكر عبارة نقلها الشاعر الفرنسي برنار نويل عن الرسام البلجيكي ماغريت: (الكتابة وصفٌ لا مرئي للفكر، والرسم هو الوصف المرئي له).الوجود هو كل ماهو مرئي. لكن ماجريت يذكر أيضاً أن: (اللامرئي مرئي أيضاً، لأنه ليس سوى مرئي مخفي..). أشياء يوسف، من رأس السمكة إلى المسمار ذي الرأس المخطط اللامع بتوهج بارد، مرئية تخفي الكثير من اللامرئي. لكنها كيانات موجودة ملموسة حية كاملة. هنا، الآن ثمة ما يتفتح أمام العين المفكرة، يحتلها ويسكنها جاعلة من مكانها في اللوحة لا امتداداً حسياً باهراً فحسب، بل اشتراكاً فاعلاً وعضوياً عصيين مع العين التي ترى، مع الفكر الذي لا يرى بسهولة! وهنا نتذكر عبارة أحد المتصوفة) إنما أحدثك لترى، فإن رأيت فلا حديث!!).
لكن الفكر لا يهتم بأن يكون حديثاً، مرة أخرى ننقل عبارات برنار نويل من كتابه عن ماجريت، لأنه كذلك قسراً. فن التصوير (الرسم بالنسبة لعبدلكي) هو فن التفكير، الذي يؤكد أهمية الدور الذي تلعبه في الحياة عينا الجسد الإنساني.. وهدف التصوير (الرسم هنا)، أن يجعل تشغيل البصر كاملاً، بفضل إدراك بصري خالص للعالم الخارجي بفعل حاسة النظر وحدها. ولوحةٌ مدركة بهذا الهدف هي وسيلة لاستبدال مشاهد الطبيعة، التي لا تستثير عموماً سوى العمل الآلي للعينين، بفعل التعود الذي يخفي هذه المشاهد الطبيعية المتشابهة دائماً أو المتوقعة مسبقاً دائماً.

عمل الرسام:
إن من يرسم لا يهتم بموضوع الرسم كانفعال. لا نقصد أن الرسام لا ينفعل، لكنه حين يرسم، لا يحرص بالدرجة الأولى على إبراز انفعاله فقط. إنه يخرج الرسم من الهمود إلى الفعل، من الغُفْل إلى الوجود. الرسام يعرفنا على العالم من خلال ماهو موجود في العالم.الرسام، أساساً، يرسم ماهو موجود. وما هو موجود هو العالم الظاهري. والعالم الظاهري بشكل معروف هو كل ما هو مرئي. الرسام يهتم بالظاهر فقط. لذلك ينبغي ألا نخلط بين عمل الرسام وعمل المصور التشكيلي. المصور ينشئ عوالم جديدة. الرسام لا يتخيل، لأن خياله أمامه تماماً. لكن عمله على المرئي أصعب من خياله المرئي! أحب من جديد العودة إلى كتاب برنار نويل: "بول نوجيه الذي ظل طويلاً شريك ماجريت، كتب يقول: المصورون مصورون، أي أن التفكير في الشيء ينحصر لديهم في التفكير في استغلال هذا الشيء لصالح رسمهم". عمل يوسف عبدلكي على النقيض. إنه لا يفكر في إظهار الشيء لصالح رسمه، بل يدفع برسمه كله لأجل إظهار ظاهر الشيء المرئي. وعوض أن يفكر في الشيء لصالح يديه وعينيه، سيسخرهما لإثبات الشيء إلى العالم. أي إظهار ماهو موجود في العالم إلى العالم. إظهاره كأنه يرى للمرة الأولى. إنه يدفعنا إلى التفكير به عبر رؤيته الآن؛ كأنما نستعيد معه ما تأملناه سابقاً وتركناه، رأيناه لحظة ونسيناه. التفكير هنا سؤال في الشيء، في دلالته البصرية التي تسبغ على البسيط اليومي عمقاً غير متوقع وغموضاً مغرياً! الفكر الذي يظهر عبر مرئيات يوسف عبدلكي يحوّل طاقة الإحساس البصرية إلى اشتغال ذهني. إنها رسومات تؤكد على تشابهها مع الواقع، لكنها بالآن ترفعه إلى غموض عاطفي ودقة صارمة في المساحة واللون والشكل. العالم المرئي المحيط يرى في ضوء جديد ولمسة أخرى.الرسام يفكر عبر المرئي الذي مُنِحناهُ على يديه. وعوض أن نكتفي ببساطته وواقعيته، تنزاح دهشتنا إلى السؤال فيه عما دفعه إلى هذا الظهور الضخم وهذه الإحالة المفاجئة. هل من أحد تأمل رأس مسمار؟ رأس مسمار لامع مغروز معظمه كأنما في اللحم والجسد والعاطفة والفكر معاً!! الرسم في الفكر، أحدهما يستدعي الآخر ويستنطقه. لكننا تحت ضغط التعود اليومي والنظرة العابرة، اعتدنا الأشياء محض أشياء. قدرة عبدلكي هنا أنه رفع عن عيوننا عاديتها وخمولها ونسيانها. لم نعد قادرين، بعد مشاهدة هذه التحف الفنية، على الخروج بإحساس الألفة المشتركة والقرابة البسيطة. البسيط يخفي الصعب، والألفة تتستر على الجهل، مثلما أن المرئي يخفي اللامرئي! الألفة كسرت، لكن الحميمية عادت وإن في إهابٍ من الفزع والرقة والألم. لقد طُعِنَ جهلُنا إزاء المرئيات المحيطة بنا، مما جعل منها طريقة جديدة للنظر في أنفسنا كما لو أننا أيضاً نراها للمرة الأولى.

المستقبل
الاحد 17 شباط 2008


إقرأ أيضاً: