يختلف الشعر والرسم عن بعضهما، في البدء، في كون الشعر شيئاً غير ملموس، لا يمكن لمس عناصره، سواء أكانت هذه العناصر متمثلة في أدواته التي هي اللغة وإمكاناتها أو في فضائه الذي هو الخيال. أما الرسم فأنه ما أن تنتقل فكرته من خيال الفنان إلى سطح القماشة أو الورق، أ و غيرهما من السطوح، حتى يصبح شيئاً ملموساً. فالشعر نتاج سمعي أو مقروء، فيما الرسم فن بصري محض .
وهذه الحقيقة الأولية، على الرغم مما يبدو عليها من بساطة أو بديهية،إلا أنها قد لعبت دوراً أساسياً في مسار هذين النشاطين الإبداعيين على مر تاريخهما، ذلك أن مشكلة خلق علاقة بينهما كانت تكمن في الجمع أو الشراكة المقنعة بين فنين ساكنين، يعتمد كل منهما حاسة مستقلة .
أصفر أحمر أزرق للفنان كاندنسكي
أما النقطة الجوهرية التي تجمعهما في دائرة واحدة، هي أن كليهما يقوم بمهمة مماثلة هي (التعبير)، الذي تطور جوهره ، فيما بعد، إلى (موقف) من العالم و من الأشياء، بعد أن تطورت أدواتهما و مساراتهما و ابتعدا شيئاً فشيئاً عن مفهوم (الموهبة) ليلتقيا على مفهوم ( الوعي) والصنعة، مع استمرار اختلاف الأدوات .
طبيعة الاختلاف هذا، تتمثل في كون الشعر يستخدم وسيلة شائعة بين الناس، وهي اللغة، ولكنه يعمد إلى تركيب مفرداتها بطريقة غير شائعة، في حين أن الرسم يعمد إلى استخدام الوسيلة غير الشائعة، الوسيلة المخصصة للرسم وحده (والذي كان نتاجه شائعاً في الماضي بين الناس لأنه كان ينقل الواقع)، وهذا الاستخدام المتخصص كان كافياً ، وحده، لجعل فن الرسم فناً غير قابل للخروج عن حدوده الفنية الصرف، وبالتالي غير قابل لشيوع الاستخدام، أي أن يتسرب جزء منه لأن يتحول إلى (فن) شعبي، كما حدث مع قد ْر ٍ من الشعر، حيث إمكانية التعامل مع هذا القدر واسعة (من دون الخلط بين الفن و بين الفولكلور هنا) .
وعندما تحول الرسم ، منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إلى ملامسة الواقع ملامسة خفيفة على سطح القماشة، ليبتعد فيما بعد عنه كلياً، فإن الرسم، بذلك، قد دخل منطقة أكثر تخصصاً ليحتل الدور الذي كان الشعر قد رسمه لنفسه .
ولكن المفارقة التي تحدث في منطقة الشعر ، هي أن فن الشعر بقدر ما يسمح لجزء منه بالتسرب الى خارج مجال المشتغلين والمعنيين به بسبب استخدامه وسيلة شائعة، فأن حركته تظل مرهونة بالمساحة التي تشيع فيها هذه الوسيلة . بمعنى أن انتشاره محكوم بانتشار ( الرموز ) التي يستخدمها الشاعر في بناء النص الشعري، بناءً على أن اللغة إن هي إلا مجموعة رموز متفق عليها بين جماعة لاستخدامها في التعبير عن أفكارهم في التفاهم وتنظيم الحياة و الاتصال
وغيرها . وفي هذه الحالة فأن انتقال النص الشعري إلى جماعة أخرى تستخدم لغة أخرى، إنما يحتاج إلى رموز مقابلة لإيصال (الشعر) من هذه الجماعة إلى تلك . وهو ما نسميه ( الترجمة ) . الأمر الذي لا يحتاجه الرسم .
والحقيقة، إن الشعر كان سباقاً إلى التلاعب بالعناصر التي يخضعها لميدانه، بينما كان الرسم بطيئاً في ذلك منذ العصور القديمة حتى ثورة الفن الحديث التي حطمت كل القوالب الجاهزة التي تعامل بها الفنانون قروناً طويلة، ذلك لأن الشعر ـ نظراً لاعتماده رموزاً تمثل إشارات للأفكار ـ
السمكة الذهبية للفنان بول كيلي 1925
استطاع أن يركـّب هذه الرموز بما يجعلها تفضي ، بدورها، إلى رمز مركب شامل قابل للتمويه، وبذلك استطاع ـ مثلاً ـ أن يمرر كثيراً من الأفكار التي فلتت من إدراك السلطة الاجتماعية أو الدينية أو السياسية . في حين كانت الفنون الأخرى ـ وفي مقدمتها فن الرسم بالذات ـ خاضعة لسلطة خارجية، ولم يكن بمقدور الرسم أن يمر من خلال رموز تغشاها عين الرقابة الاجتماعية أو الدينية أو السياسية، بسب انه كان يستخدم عناصر ملموسة (اللون و الخط و القماشة ) لينتج (الصورة) البصرية فلقد كان من الصعب عليه الإفلات من سلطة الخارج، خصوصاً وأن (الفن) الحقيقي كان يتمثل في نقل (حقيقة الواقع)، كما هي، إلى القماشة .. وأي انحراف عن هذه الحقيقة كان يعني ضعفاً في الفن. وهذا يشكل أحد الأسباب التي جعلت فن الرسم يتأخر فـي انتقاله من المباشر إلى غير المباشر، و هو ما كان يعكس افتقاره إلى القدرة على التلاعب بأشكاله، خاصةً في عصر سلطة الكنيسة التي كانت تفرض على الفنان مواضيع محددة وحدوداً معينة ، مما لعب، بالتالي، الدور الرئيس في تأخير عملية انتقالات فن الرسم .
الشاعر والرسام الإنجليزي وليم بليك
إن فن الشعر كان ، وما يزال، يسعى خلف (الأفكار) فيما كان فن الرسم يمشي على عكـّازة وراء (المواضيع)، حتى جاءت ثورة الفن الحديث التي فتحت الطريق أمام الفنان وعوّضته عن كل الحرية التي فقدها طوال قرون طويلة هي عمر الفن الماضي كله ، وبذلك توحد مع الشعر في طريق واحد. ولكن الذي حدث هو أن فن الرسم ما إن وجد منعطفاً صغيراً عبر ثورة الانطباعيين في النصف الثاني من القرن لتاسع عشر حتى اندفع بخطى متسارعة و راح يجتاح كل مناطق الفنون في العالم، عموماً، وفي مجاله الخاص، خصوصاً، بما أهـّله لأن يتبوأ دوراً رئيساً في تغيير الكثير من مظاهر حياتنا المعاصرة، المرئية و غير المرئية، وبذلك يكون قد قطع أشواطاً تعويضية متسارعة أمام الشعر الذي ربما راح يعرج .
من أعمال بليك
في القرن التاسع عشر قال (أنجرز) : (الرسم هو شرف الفن) ، وإذا ما عرفنا أن هذا الفنان كان قد خاض صراعاً كبيراً في تكريس فن الرسم نظرياً وتطبيقياً و خصوصاُ في ما يتعلق بأهمية اللون أو أهمية الخط في اللوحة، وهو من أكثر فناني عصره تشبعاً بالتراث الإغريقي ـ الروماني، وكان يتجاذب طرفي العصر مع (دولاكروا) في قيادة فن الرسم في ذلك الوقت،فأن ما يوقفنا هو أن (أنجرز) كان يطالب بصورة غير مباشرة بتفجير طاقة فن الرسم التي بقيت مخزونة تحت سطح القماشة كل هذه العصور الماضية .. و إلا فبأي شيء كان الرسم شرفاً للفنون ؟
ولكن مرة أخرى لم يستطع (أنجرز) أن يتخلص من تعاليم وقواعد الإغريق أو الرومان في تبيان معنى هذا الشرف، فبقي في حدود صَوْنه، دون أن يسهم في صقل أدواته وفتح كوى جديدة له تحت الشمس. بل أبقى على هذا الشرف مصوناً مستوراً تحت مزيد من التعاليم، حتى كان لدولاكروا، وغيره من فناني عصره الذين بحثوا عن مزيد من الضوء، كشف (المستور) في فن الرسم، الأمر الذي منحهم شرف الريادة في وضع طاقة الرسم ـ التي كان أنجرز باحثاً عنها ـتحت الشمس .
كان أنجرز يريد أن يحرض ولكنه كان مشدوداً إلى الماضي بقوة . لذلك فأن أعماله بقدر ما كانت تحمل من قوة في التقنية و مهارة في محاكاة الطبيعة، فأن دعوته كانت مشلولة ، وهي دعوة لا ينبغي أن نحمّـلها أكثر مما كان هو يعنيه. ولكنه مع ذلك ـ وإن لم يكن يعني أو يقصد ـ فقد دفعت أفكاره سواه من معاصريه الى التحرك باتجاه الخروج على التراث الذي ينشدّ أنجرز إليه : دولاكروا ، كورو، دوبينييه، دياز، كوربيه ... فعلوا هذا ، و فتحوا الطريق للانطباعيين ، و من ثم ليفتح هؤلاء الطريق لمن بعدهم فتوالدت الحركات والاتجاهات في ظرف قرن واحد ابتداءاً من النصف الأخير من القرن التاسع عشر، لتكون كل الآفاق مفتوحة أمام فن الرسم . وليأتي (بول كلي) فيقول (الآن بدأت الأشياء تراني) و ليعمل (كاندنسكي) على بعث عهد ( الروحي) في الفن وتحريك المعرفة الداخلية فيه، ويقترب من خطى الشعر ليتجاوزها فيما بعد. إن ما فعله السورياليون هو هذا : الاقتراب أو التطابق .. ثم الابتعاد .
غويا
فلقد كان فن الرسم يبحث عن (الأثر ) فوق الأرض مشياً على الأقدام ، فيما كان الشعر يركب عربة الروح خالقاً الأثر . وإذا كان الرسم (يصوّر) فإن الشعر كان (يبتكر). وفيما كان الأول (يرتـّب) فإن الثاني كان (يركـّب). ذلك أن الرسام كان يبحث عن المواضيع في زحمة الواقع حتى يراها، في حين كان الشاعر يقف في العراء حتى تراه المواضيع فتنهال عليه .. من هنا فإن عبارة (بول كلي) تأتي تعبيراً عن انتقال الرسام من موقعه القديم الى الموقع الجديد الذي يشاطر فيه الشاعر، حتى تحول الرسام في العصر الحديث الى شاعر يرسم .
غويا
لقد كانت العثرة الأولى أمام الرسام تتمثل في كيفية تحوله من (الواقعي) إلى ما وراء الواقعية أو فوقها . و الرغبة في هذا التحول نجدها خلف أعمال فنانين واقعيين كثيرين يقف في مـقـدمتـهـم (غويا)، وقبل الجميع نجد ذلك لدى السوريالي الأول (بوش) ومن بعده (بروغل) في القرن الخامس عشر، مثلما نجده حين ندرس أعمال الانطباعيين والتعبيريين و السورياليين ، نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين . ونحن نقول عن التحول هذا ـ أو في الأقل الرغبة فيه ـ انه يحمل قدْراً مما هو شعري، وكأننا نريد القول أن في ذلك بعضاً من الجنوح عن ا لواقع لملامسة بعض من جناح الشعر، فحيث أن الشعر هو ما كان قادماً من فضاء الخيال وطائراً فوق الطبيعة، مركـّباً عناصره، بتلاعب، مبتعداً عما هو مباشر، فأن ما يقرّب الفن في الرسم مما هو شعر، هو محاولة الرسم اقتفاء أثر الشعر ـ السبـّاق عليه ـ تلك المحاولة التي انتهت بالرسم الى اكتشاف طريقه الخاص، فيما بعد، والاندماج كلية بالشعر في منحاه. وهذا هو ما يجعلنا نتذكر و نمجد المحاولة الريادية للشاعر المهم و الرسام المهم (وليم بليك) .. فلقد كان عدد من الأغبياء في عصره يتعاملون معه على انه أكثر من نصف مجنون. ولقد ظل (بليك) فترة طويلة محكوماً بهذا الفهم المخطوء، حتى جاء الفن الحديث ليعيد اليه اعتباره، فاتضح أن النصف المجنون في (بليك) إنما كان النصف الشاعر في الرسام والنصف الرسام في الشاعر.
عن موقع ابسو