هادي ياسين
العراق / كندا

هادي ياسين حتى وقتٍ متأخر من تاريخ الفن ظل عدد كبير من النقاد و الباحثين يضعون (التخطيط) في المرتبة الثانية من فن الرسم . و مازال عدد من هؤلاء في حيرة من أمر اعتبار التخطيط فناً قائماً بذاته أم انه خطوة غير مكتملة باتجاه فن أكبر منه و أعظم، هو الرسم بالألوان.

لاشك  أن أمراً كهذا، حول التخطيط، إنما يستمد أسسه من الأعمال الكلاسيكية التي نفذها الفنانون الكبار، و خصوصاً في عصر النهضة، مثل دافنشي و مايكل أنجلو ورفائيل وسواهم من الأساتذة . فبسبب السطوة التي امتلكها هؤلاء في الفن، بحق، وبسبب التخطيطات الكثيرة التي سبقت كل عمل معروف من أعمالهم، فإن ذلك قد ترك فهماً مؤداه أن التخطيط إنْ هو إلاّ تمرين، فقط، على تنفيذ اللوحة بالألوان . ولكن يقول لنا تاريخ الفن ان الفنانين اليونانيين الذين هم أساتذة الفن الكلاسيكي كانوا يضعون التخطيط في منزلة مقدسة من الفن، لا بسبب كونه أساساً للرسم بل لما ينطوي عليه من قيمة فلسفية جمالية في الحياة. وقد أعاد فنانو عصر النهضة مجد هذا الفن من جديد، و بتدفق عال ٍ ترك للأجيال اللاحقة تراثاً كبيراً من التخطيط . ذلك أن هؤلاء إنما كانوا، من جهة، يعتبرون اليونانيين مثلهم الأعلى و صانعي تراثهم الأثير في التاريخ، و من جهة ثانية فأن هناك عوامل أخرى أساسية قد ظهرت في عصر النهضة ساعدت على انتعاش فن التخطيط، منها : ظهور الطباعة على الخشب، و دراسة المنظور، و علم التشريح الذي جهد و اجتهد دافنشي فيه كثيراً، إضافة الى ظهور الورق العادي و توفره بكثرة بدلاً من الورق الثمين الذي كان يستخدم من جلد العجل في القرون الوسطى.

هادي ياسينلكن من المعروف، أيضاً، انه كانت للرومانسيين فيما بعد نظرتهم الخاصة في الحياة و طرقهم في التعبير عن فلسفتهم التي طالت فن الرسم مثلما طالت مجالات الإبداع الأخرى مثل الشعر و الرواية وغيرهما . إنهم أعطوا القيمة القصوى للون دون التخطيط، حتى أنهم اعتبروا الخط نفسه جزءاً من اللون، على الرغم من التخطيطات الكثيرة التي تركها الفنانون الرومانسيون، و في مقدمتها تخطيطات دولاكروا . وعلى خطى الرومانسيين، مشى الانطباعيون بذات
الاتجاه، على الرغم من اختلاف نظرتهم الى قيمة اللون و مكانته في اللوحة وطبيعة التعامل معه.

على انه ما أن حلّ القرن العشرون حتى عاد للتخطيط مجده، ضمن إطار فلسفة جمالية جديدة تتفق مع واقع تفكير الانسان في هذا العصر، الانسان المتنور و المنفتح على شتى سبل و ضروب المعرفة. و قد ساعد على ذلك ظهور الثورة الصناعية وتطور طبيعة الحياة، و الثورة في الأخلاق، و تنوع الفكر الفلسفي و سعيه في سبل معرفية متشعبة و جديدة، هذا الى جانب أسباب أخرى متداخلة أحدثت،

مجتمعة، انقلابا في رؤى الفنانين، و أسرعت بالتالي في تطوير مفاهيم الفن إثْر زعزعة الكثير من الثوابت الفنية .. و تبعاً لذلك، فأن النظرة الى (التخطيط) نفسها قد تغيرت، فلم يعد مجرد خارطة أو تصميماً أولياً للوحة، بل أصبح التخطيط عملاً فنياً متكاملاً مستقلاً بذاته، خصوصاً بعد أن ألقى علم النفس (على يد فرويد، و بمباركة من السورياليين) ظله على الفن، فأصبح للتخطيط دلالته النفسية التي خضعت للدراسة و الاستنتاج، و بالتالي استنباط نتائج و مفاهيم جديدة في الفن . فضلاً عن هذا فانه على الرغم من تنوع الاتجاهات و الحركات في الفن المعاصر فأنها لم تستبعد وجود وشائج في ما بينها في المحصلة النهائية، الأمر الذي أوجد صلة و سبلا ً جمالية جديدة في ساحة الإبداع المعاصر . و عليه فأن طفرة الفنون الصناعية و المعمارية و التصميمية و الطباعية الى الخطوط الأمامية قد غذت فن التخطيط بقيم جمالية و نفعية أيضاً و بالتالي فقد مهّدت، من جانبها، لأن يتبوأ التخطيط المكانة التي يستحقها، لا بسبب الخطوط الهندسية حسب بل للمعنى الذي تعطيه

هادي ياسينمجموعة الخطوط.إن الخطأ في إعطاء (لتخطيط) مكانة ثانوية في الفن، يكمن عادة في عدم التفريق بين الأشكال الأولية للوحات و بين التخطيطات التي يصب الفنانون فيها كثيراً من طاقاتهم الفنية بذات الدرجة التي يصبونها في أعمال اللون (الزيتية أو المائية أو الأكريلك .. أو غيرها).. إن أعمالاً كبيرة مثل المنحوتات و النصب و الجدارايات و حتى الأعمال الزيتية التي تتطلب إنشاءً مدروساً لابد أن تعتمد على رسومات أولية، بالقلم الرصاص أو الحبر، و هذه الرسومات لا تتعدى في حقيقتها كونها خارطة يوزع الفنان عليها الأشكال و الألوان و المساحات و مناطق الظل و الضوء، التي يشتغل عليها فيما بعد، من أجل أن تكون هذه الخارطة دليلاً له، لا غير. ولكن في حالة توجه الفنان نحو التخطيط بالكامل لتجسيد موضوعه الفني فأن التخطيط لَيَرتقي في هذه الحالة مرتبة أولى في الفن، لا تقل أهمية عن الرسم باللون، أو النحت، أو أي إبداع آخر.

إن الإشكال الذي حدث، هو أن الفنانين (الأساتذة الكبار) كانوا ينفذون أعمالاً تخطيطية متكاملة من كل جوانبها حتى وإنْ كانت على شكل دراسة (وهي تخطيطات سابقة على أعمال معروفة) ولكن ما أن تنفذ هذه التخطيطات ثانية ً بالألوان حتى تتراجع أهميتها كتخطيطات، و لم تُعامل بعد ذلك إلا ّ كتمرينات سابقة على الأعمال اللاحقة التي باتت شهيرة. و الحقيقة أن هذه ليست مشكلة الفنانين بل مشكلة مؤرخي و نقاد الفن الذين قدموا الأعمال الزيتية على التخطيطات، و قدموا فهماً قاصراً لأهمية التخطيط.

هادي ياسينهنا، نستذكر المبدأ اليوناني القائل (إننا لا نعبر النهر مرتين)، و إذا ما سلمنا بذلك، فإن أي عمل ينجزه الفنان، مهما اعتبره هو أو اعتبره الآخرون (تمريناً) أو (سكيتشاً) فإنه ينبغي أن يُعامل على أساس انه عمل مستقل لا علاقة له ب (الآتي) سوى كون الأخير امتداداً له، لأن أي عمل فني إنما يعكس اللحظة التي ولد فيها، و التي يحاول الفنان أن يقبض عليها، سواء أكان هذا العمل قاصراً أو متكاملاً، رديئاً أو متقناً، فهو إنما يعكس ظرفه الزمني و المادي و النفسي، ذلك ان العمل الفني إنما يعود الى الزمن الذي نُفّذ فيه، و هو يخضع لطبيعة المساحة التي ينفذ عليها و نوعية المادة التي تستخدم في التنفيذ، و كذلك فأنه يشي بالواقع النفسي للفنان، أي انه يعكس لحظة إشراقه أو عاديته أو انطفائه.

و الآن، و بعد أن قطع فن الرسم كل هذه المراحل و الحقب من تاريخه الطويل، فأن الشريحة الكبيرة و الأساسية من الفنانين منذ أن ولدت ثورة الفن الحديث مطلع القرن العشرين لم تعد تعير اهتماماً للرسم الأولي للوحة، بل غالباً ما تنفذ لوحاتها مباشرة. وهذا يعكس حقيقة مهمة للتمييز بين سبل انجاز الفن الكلاسيكي و بين الفن الحديث، ذلك أن الفنان لم يعد يعكس صورة آلية للواقع (مع قليل من الخيال) كما هو الحال في الأعمال التقليدية، إنما صار يعكس أفكاره تجاه هذا (الواقع)، و لم يعد الفن كامناً في المهارة اليدوية، فهذا جانب حرفي يعتمد التمرين المستمر، إنما بات الفن يكمن في قوة الأفكار و إشراقها، و في ثراء الخزين منها لدى الفنان و بالتالي في (صورتها) المنفّ َذة و التي قد تستخدم فيها اليد أو الآلة أو غيرها.

هادي ياسين إن ثورة الفن الحديث، إذ تمسكت بالحرية في العمل الفني كمبدأ أساس، فأنها قد فتحت الأبواب أمام الفنان لإعادة النظر في كل الثوابت التقليدية في الفن، و منها التفريق بين أهمية الرسم بالألوان و بين التخطيط، و انطلاقاً من هذا فأن تخطيطات الفنانين المعاصرين لم تعد بمثابة وثائق تؤرخ ميلاد أعمال لاحقة لها، بل أن هذه التخطيطات، نفسها، تُعامل اليوم كأعمال فنية تنطوي على ذات الأهمية التي تنطوي عليها غيرها من الأعمال الفنية الأخرى المهمة، و هي المعاملة التي ينبغي أن تنسحب أيضاً على جميع التخطيطات التي تركها لنا الفنانون عبر تاريخ الفن بأكمله .. انطلاقا من استقلالية كل عمل فني ضمن ظرفه و طبيعة تنفيذه و دلالته.