عبد الواحد لؤلؤة
المصدر / منازل القمر - دراسات نقدية
رياض الريس للكتب و النشر- الطبعة الأولى- 1990
كان السياب شاعرا موهبته أكثر من ثقافتـه، وتجربته في الحياة تكاد لتتخطى
في حجمها موهبته وثقـافته معـا. في حدود هذا الإطار يمكن للباحث المنصف
أن يتملى صورة السياب بعد مرور ربـع قرن على رحيله عن دنيا أحبها ولم
تحبه، تماما كما كان موقفـه من إحدى عشرة فتاة، أحبهن في حياته وكان
صادقا في حبـه لهن لكنه بقي حتى قبل أن يرحـل بعام وبعض العـام يصيح
ا، كـل من أحببت قبلـك لم يحبوني ". وهذا الخطـاب يمكن أن يكون مـوجها
إلى "لوك نـوران " الكاتبة البلجيكية التي كانت تعوده في باريس وقـد
أخذ منـه الطش مـأخذه، إذ لم يعرف الطبيب دواء داء يرد الموت، ويمكن
أن يكون كذلك موجها إلى الدنيا نفسها. فالدنيا، مثل الحبيبات، مـا أحبته
ولا عطفت عليـه، في حين كـانت تحب وتغدق العطف عـلى من لا ظـل لـه يقارب
ظل السياب 1 الذي "يلف المجلة ومن فيها،) ممن يسيطرون على مورد رزق شاعر
ما كان يطمع بـأكثر من عيشـة الكفاف. لكن إعادة النظر في موقع السياب
على خارطـة الشعر العـربي المعاصر يجب أن تتسم بموضوعيـة ترفض "أن تجعـل
من الشفقة التي أثـارها موت السياب أو النقمة التي بعثتها تقلباتـه في
الحياة رائـدها للحكم عـلى شعره " 2 .
في رسالة دكتوراه عن السياب قـدمت في السوربـون أواخر عـام 1980 يورد
الباحث 3 ما يزيد عن أربعمائة كتاب وبحث عن الشاعر بـاللغات العربية
والإنكليـزية والفـرنسية والصربيـة، إلى جانب 37 عنوانا من أعمال السياب
شعرا ونثرا وترجمة، إضافة إلى 55 كتـابا ومرجعا ممـا يتعلق بدراسـة
شعر السيـاب من قريب أو بعيـد. ولا أحسب هذا العدد إلا قد تضاعف منذ
تاريخ مناقشة الأطروحـة تلك حتى هذه الأيام. فكيف للمرء أن يستوضح
صورة السياب الشعريـة اليوم، بعدما جرى كل الذي جرى في الشعر العربي
المعاصر، وبعد أن راح كثير من شعراء اليـوم يعيدون كتـابة أشعـار السياب
إذ ما نزال نسمع "أصـداءه في قصائـد شعراء ولدوا بعد موته أو قبيل
موته " 4 . لكن عددا قليلا من هذه الأبحاث والكتب أساسية في تقويم
شعر السيـاب وشخصيتـه، وأحسب أن كثيـرا سـواهـا يعيـد ويقتبس ويناقش،
ويكرر أقوال سابقيـه دون الاعتراف بفضـل السابقـين، إلا من رحم ربي.
ولا بأس من بعض الصراحة المؤذية في الإشارة إلى أن بعض دراسـات "المستعربـين"
أو "المستشرقـين" لا فـرق، لا تتسم بالدقة التي يفترضها المصابـون
بعقدة الخـواجا. فهذا البروفسور (أندريه ميكيل) الأستاذ في (الكوليج
ده فرانس) يترجم إلى الفرنسية قصائد من السيـاب ويذكـر في مقدمتـه
أن السياب ولد عام 1927 فيخصم من عمره القصير سنه ليجعله يعيش "سبعا
وثلاثين سنة من الصراع والأسى" 5. والأطرف من ذلك أنـه يتـرجم قصيـدة
"إقبـال والليل" ويضع هامشا أكـاديميا يقول أن "إقبال" إشـارة إلى
"محمد إقبـال الفيلسوف والشـاعر الهندي المسلم (1873- 938 1) الذي
جمع بين تراث التصوف والآراء الغربية الحـديثة..."6 فحتى إذا لم يكن
الباحث على علم بهذه الحقيقة الجوهريـة في حياة الشـاعر زوج (إقبال)
فإن سياق القصيدة يشير إلى ذلك في وضوح شديـد لا ينتظر أن يغيب عن
أي قارئ، فضلا عن أستـاذ جامعي مستعـرب. كيف يغيب عن أي قارىء شعر
معنى :
...يـا أم غيلان الحبيبـة"
...لولاك ما رمت الحياة
...إقبال مدي لي يديك
مات حبـك في ضحاه
".. وطوى الزمان بساط عرسك
والخطاب جميعه بصيغة المفـرد المؤنث. فلا حول ولا.. لا أريد الاستـرسال
بمـا لا يرقـى إلى ذلك من أمثلة لـدى مستعربين آخرين، أو "مستغربـين"
ناطقين بالعربيـة، وجـدوا في "اشتراكية" بدر المزعومة موضوعا صحفيا
"يدبج" منه ثلاث مقـالات في (الأهرام) لا تحفل بدقة التـواريخ ولا
بـالأحكام النقدية الجـارفة عندما تكون القصائد "غير اشتراكية" لأنها
عند ذلـك لغدو قصـائد "تافهة.. رديئـة... فاتـرة... غريبـة" 7. وهذه
الأحكـام صدرت عـلى قصائد "جميلة بوحيرد" و" الأسلحة والأطفال" و"بور
سعيد" و"المومس العمياء". والزبد يذهب جفاء دائما.
أما ما ينفع الناس فلا يزيد عن بضعة كتب وأبحـاث جادة تنـير بعض مـا
خفي من إشـارات الشاعر إلى مسائل ثقافية قد لا تقع في حدود معرفـة
القارئ، وما ينبغي له، أو تشير إلى بعض الأمور في سـيرة الشاعر تضيف
إلى الشعر غنى. من هذه الكتب دراسة الأستاذ الدكتور إحسان عباس بعنوان
"بدر شاكـر السياب: دراسة في حياته وشعره (1969). أحسب أن هذه الدراسة
تتميز بالرصانة والدقة، وبالإنصاف قبل كـل شيء. فهي تتناول حيـاة الشاعر
اعتمادا على معلومات استقاها البـاحث من أصحاب الشـاعر ومعاصريه ومن
مجموعة من رسـائله غير قليلة. إن هذه المعلومات ضرورية لدراسة الشعر
دراسـة موضوعية، وبخاصة لدى متابعـة الينابيع الثقافية التي يستقي
منها الشاعر وأحسب أن كثيرا من الدراسات اللاحقة عن السياب قد استندت
إلى هذا الكتاب المهم، ولا أحسب أغلب مـا تبعه إلا من بـاب التنويعـات
عـلى اللحن الـرئيس. صحيح أن معلومات إضافية قد ظهرت بعد حين، ولكني
لا أجد تلك المعلومات قد أضافت كثيرا إلى صورة السياب في حياته وشعره
فـوق ما نتعلمه من كتاب الدكتور إحسان عباس. وثمـة كتاب الدكتور عيسى
بلاطة، وهو أطروحتـه التي نال بهـا الدكتوراه من جامعة لندن، وقد نشرها
بالعربية أول مرة عام 1971 بعنوان (بدر شاكر السياب: حياته وشعره).
ومع أن هذه الأطروحة لم تدرك كتاب الدكتور إحسان عباس، الذي يقول في
مقدمته إن الكتـاب تأخر صدوره سنتين عن المـأمول، إلا أن الـدكتور
عيسى بـلاطة قـد استند إلى أغلب المصادر التي استند إليها الـدكتور
إحسان عباس، وأضاف ملحقا بعدد من القصائـد غير المنشـورة أفاد منها
عدد من الباحثين بعده. وثمة كتاب المحامي محمود العبطة بعنوان (بدر
شـاكر السياب والحركة الشعرية الجديدة في العراق) (1965) وهو كتاب
لـه أهمية خاصة نظرا لعلاقة المؤلف الوثيقة بالشاعر. وهناك كتاب خضر
الولي بعنوان آراء في الشعـر والقصة (1956) أفـاد منـه كثـير من الباحثين.
أما رسائـل السياب التي جمعها وقدم لهـا ماجـد صالـح السـامرائي (بـيروت
1975) فقد يسرت للبـاحث ما يظن أنـه جميع رسائل السياب إلى أصدقائه
ممـا يتعلق بسيرتـه الأدبية، وهي مـادة تنير الكثير من شعر السياب
وتفسر أمورا كان يمكن أن تبقى غامضة لولا هذه الرسائل. ولا شك أن عددا
من المقالات التي نشرتها مجلات مختلفـة وبخاصـة مجلة الأقـلام قد أنـارت
جوانب مهمـة من حيـاة السياب وشعره. يرى أغلب الباحثين أن مسيرة السياب
الشعريـة يمكن أن تقع في ثـلاث مراحـل: الأولى رومانسيـة البواكـير،
وتمتد بـين أول قصيدة عاطفية كتبها عام 1941 بعنـوان "على الشاطئ"وهو
في الخـامسة عشرة من عمره، وتشير بشكـل واضح إلى مؤثـرات علي محمـود
طه، وحتى حدود عام 1950 حيث نشر ديوانه الثاني "أساطير" الذي يعد مرحلة
انتقـال عن الشعـر الـذاتي ورومانسيـة جمـاعـة (أيـولـو) و (الديوان).
وثمة المرحلة الثانية وهي مرحلة الانتماء السيـاسي وتمتد من حـدود
عـام 1949 حتى عام 1960 عـلى وجـه التقـريب، وهي الفترة التي شهدت
نضوجه الفني رغم توجهات فكرية لم تكن بالغة الإقناع له ولا لكثـير
من الناظرين في شعـره بشكـل دقيق في هذه المرحلة الأولى التي مـا لبث
أن تخـلى عنهـا راجعا إلى الانكفاء عـلى الذات بما قد يوصف بمرحلة
الرومانسية المتطورة. تمتد هذه المرحلة من حـدود عام 1960 حتى وفـاتـه
في 1964/12/24. هنـا نجـد النضوج الفني الذي يرفده ما تيسر له من روافد
ثقافية، يقوي منها ويطوعها لموهبته وأوضاعه الخاصة ما تراكم لديه من
تجارب في حياة قصيرة، تجارب ليس فيها غير الألم والخيبات المتنوعة.
إن بعض الأرقـام والإحصاءات قـد تنير جـوانب مهمة من شعر السياب. فقد
لوحظ أن السياب كتب 99 قصيـدة في مرحلتـه الأولى التي امتدت 8 سنوات؟
ثم كتب 50 قصيدة في مرحلتـه الثانيـة التي امتدت 13 سنة، وكتب 95 قصيدة
في مرحلته الأخيرة التي امتـدت 4 سنوات مؤلمة على مستويـات عديـدة
من جوانب الخبـرة. وهذا يعني أنه كتب في المرحلتين الرومـانسيتين الأولى
والثـالثة 194 قصيـدة في مدى 12 سنة، بينمـا كتب 50 قصيدة في مـرحلة
انتمـائه السيـاسي التي امتدت 12 سنة كذلك، شملت الانتمـاء اليساري
والخـروج على ذلك الانتماء أيضـا. وخلاصـة ذلك، عدديا، أنـه كتب في
المرحلتـين الرومانسيتـين أربعـة أضعـاف مـا كتب في مرحلتـه الـوسطى
من الالتزام، التي تعادل سنواتها مدة المرحلتين الأولى والثالثة معا
8.
1 |
عبارة
المرحومة سميرة عزام، نقلا عن د. إحسان عبـاس، بدر شاكر السياب:
دراسة في حياته وشعره (بيروت - دار الثقافة، 1969)، ص 411 |
2 |
المصدر نفسه، ص
418 |
3 |
عبد الكريم حسن،
الموضوعية البنيوية. دراسة في شعر السياب (بـيروت: المؤسسة الجامعية
للدراسات والنشر والتوزيع، 1983). 7 |
4 |
خيري منصور "ملكوته
الشعري تحد ماثل، " الأقلام، 1987/8، ص 95 |
5 |
andre Miquel,
Sayyad, Le Golfe et le Fleuve (paris Sindbad, 1977) p. 11 |
6 |
المصدر نفسه، ص
89 |
7 |
حسن توفيق، شعر
بدر شاكر السياب. دراسة فنية وفكرية (بيروت. المؤسسة العـربية
للدراسات والنشر،1979)، ص 2 1-4 1 |
8 |
المصدر نفسه، ص
168، وقد لا يكون هذا العدد دقيقا جدا |
يتبع
|