محمد لطفي اليوسفي

أنشودة المطر - بـدر شاكر السياب

في كل قطرة من المطر
حمراء أو صفراء من أجنة الزهر
و كل دمعة من الجياع و العراة
وكل قطرة تراق من دم العبيد
فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد
أو حلمة توردت على فم وليد
في عالم الغد الفتي واهب الحياة

بدر شاكر السياب مبدع "أنشودة المطر" جمع في شعره كل المفارقات التي خلخلت البلاد العربية وهزتها جذريا منذ بداية الخمسينات ثقافيا واجتماعيا

انه شاعر الحب، والثورة، والموت

لذلك يمكن أن نقول بأن قراءة نتاجه هي، بمعنى ما، محاولة للنفاذ إلى عمق تلك المفارقات وضبط إرهاصات التحولات الكبرى التي شهدتها القصيدة العربية. ذلك أنه- أي السياب- من أول المبدعين الذين مارسوا التغيير وعانوا من عذاباته عندما شرعوا في البحث عن القصيدة التي تلغي، نهائيا، مسألة الموضوع الواحد (الغرض) وتستوعب تجربة حياتية كاملة تقولها بلغة شعرية تستمد كل طاقاتها الفنية من النصوص ما يوفره من أبعاد جمالية تستند إلى علاقاته الداخلية وحركاته

لذلك سنحاول أن نقترب من هذه التجربة في أبرز لحظات تألقها وعطائها أي في المرحلة التي دخل فيها السياب حقل البحث عن القصيدة التي تحاول أن تقول عصرا كاملا من الصراعات (الأسلحة والأطفال 1 - حفار القبور 2 - المومس العمياء 3 أي مرحلة البحث عن الملحمة؟ يقول إحسان عاس 4

تنبني قصيدة أنشودة المطر (على علاقة مركزية تنشأ بين صوت الشاعر والرمز الذي يستدعيه (عشتار: آلهة الخصب) التي يتحول النص في حضرتها إلى قداس ابتهالي تمثل هذه الحلاقة دائرة مركزية أولى يتحلق حولها حشد من الدوائر المتتابعة. فنلمح في الدائرة الثانية الأم التي ماتت والطفل يهذي قبل أن ينام. ونرى في الدائرة الثانية "العراق الذي يذخر الرعود و البروق" الخ… حتى لكأن القصيدة سلسلة من التموجات الدائرية التي تقود الواحدة منها إلى الأخرى على نحو انسيابي تلقائي. لذلك يتجلى النص في شكل حشد من الومضات المتناوبة، تأتي لتضيء الواقع كشكل دوري وتكشف التناقضات التي تعتمل في صلبه، ثم تغور، من جديد، في منبعها (صوت الشاعر)

نتيجة لهذا الشكل الدائري، تتمكن القصيدة من الإحاطة بمسيرة الشاعر ووطنه، تنفذ في نبرة درامية، إلى دواخل هذه التجربة، محاولة أن تصوغها في قالب "أسطورة ملحمية"

إنها لم تعد مجبرة على التصاعد الخطي، بل صارت تعود بصفة مستمرة إلى الواقع من زوايا عديدة وتعريه بطرق مختلفة، لتصهره أخيرا في قالب وحدة متناغمة، لا يمكن أن تدرس من خارج منطقها الداخلي، أي دون الإمساك بالقانون الذي يديرها على ذلك النحو المحكم ويسمح لها بأن تدور على نفسها ولا تسقط في الرتابة والتكرار. هذا القانون هو: الرمز. انه الرابط الأساسي الذي يشد مفاصل النص ويجنبه الانكسار والتفكك، ذلك أنه يتحكم بجميع الحركات الداخلية التي تؤسس مجتمعة بنية النص الشعري ذاته

نظام الحركات

الحركة الأولى

تنشأ الحركة الأولى في شكل علاقة بين الشاعر والرمز الذي يوظفه. وتأخذ في التشكل فجأة، حتى لكأنها علاقة أبدية قائمة خارج الزمن. هنا يوظف الشاعر الجمل الاسمية ليوحي باللازمان. عيناك غابتا نخيل ساعة

السحر
وشرفتان راح ينأى عنهما القمر

هكذا تبدأ القصيدة، منذ اللحظة الأولى، برسم طموحها: أنها تريد أن تفلت من شروط الزمن وتتحول إلى نبوءة أو إلى أسطورة. وتضطلع الجمل الاسمية، ضمن نفس التوجه، بدور آخر، في غاية الأهمية عندما توحي بالسكون والهدوء. بذلك تأتي الجملة الشعرية الأولى وكأنها نوع من التجلي، وتأتي الصورة موغلة في الشفافية وتتضافر مع النبرة الابتهالية التي تسم صوت الشاعر لترسم منذ البدء مسار النص: انه يتنزل في عمق الصراعات أي في لحظة البدء، لحظة تحاول الحياة أن تكون.

الحركة الثانية

تأتي هذه الحركة بعد أن تكون الحركة الأولى قد بلغت ذروة الهدوء. وهذا الهدوء هو، في الحقيقة، حالة السكون القصوى التي تسبق البدء، بدء الحياة أو تجددها لذلك تأتي الحركة بعده مباشرة:


……. تورق الكروم
وترقص الأضواء كالأقمار في نهر

تبعا لذلك تطغى الصبغة الفعلية، وتتكاثر الأفعال التي ترشح بدلالة واحدة: إنها لحظة البدء (تورق الكروم... ترقص الأضواء... تنبض النجوم...). تأتي هذه الحركة بمثابة النتيجة للحركة الأولى، لذلك لا تلغي الهدوء إلغاء كليا بل تجاوره وتتقدم لتتجاوزه تدريجيا. فتحافظ الصور غلى طابعها الانسيابي وعلى شفافيتها لتوحي ببداية الحياة، حتى لكأننا في لحظة البدء فعلا. الطبيعة وحدها حاضرة (ا لكروم... ا لمياه... ا لنور).

هكذا تصل القصيدة إلى ضبط أجوائها وتبلغ أحد منعطفاتها الكبرى، فتستعصي على التقدم بشكل يصعب معه على صوت الشاعر أن يواصل الوصف. ذلك أن المواصلة تقود حتما إلى تعطل هذا التكثيف الشعري و إلغائه، والانتقال إلى موضوع آخر يجعل النص ينكسر من الداخل. هنا بالضبط يتدخل الرمز ويأخذ على عاتقه هذه المهمة الصعبة.

الحركة الثالثة

تأتي هذه الحركة لتنتشل النص: إنها تتغلغل هابطة داخل الرمز نفسه. فينفتح تدريجيا على جملة من الدلالات بتعبير آخر اكثر دقة، إن الرمز يبرز في شكل ذوات أو تجليات تظل، تظهر وتختفي بصفة دورية عبر مجمل مراحل النص. معنى ذلك: أن الرمز يظهر في اكثر من وجه ويلبس اكثر من قناع: إنه:

أ  -   عشتار، آلهة الخصب والعطاء، ربة الطبيعة والحياة المتجددة. ذلك أنها تستمد جميع صفاتها وخصوصياتها المميزة من عناصر الطبيعة (عيناك غابتا نخيل) وتسهم في إيجادها (عيناك حين تبسمان- تورق الكروم- ترقص الأضواء- يرجه المجذاف)
ب -   الأم التي ماتت عندما كان الشاعر طفلا. إنها "تنام نومة اللحود"
ج -   الوطن: العراق أرض التناقضات والقهر (ما مر عام والعراق ليس فيه جوع. وفي العراق ألف أفعى تشرب الرحيق)
د  -    الخليج: هنا تنشط الذاكرة وتطرح مخزونها في شكل ومضات توحي بغربة الشاعر أثناء ذهابه إلى إيران لاجئا (أصيح بالخليج يا خليج إ...!
هاء المطر: في هذا المستوى تطفو الصبغة الرمزية من جديد. ذلك أن كلمة المطر ترد، نتيجة دخولها في شبكة من العلاقات مع بقية الألفاظ، متضمنة لامكانات متعددة من الدلالات تتضافر، جميعا، لتوحي بمفهوم الثورة أو التجدد الدائم.



لذلك نجده حاضرا مع الأم في اللحد
مع الأطفال في عرائش الكروم
(مع العبيد في مواسم الحصاد)

إنه يرجع إلى مستقره (عشتار) ويتحد به. فتتخذ القصيدة بذلك شكلا دائريا، أي تتقدم في قالب تموجات دائمة أو دوائر مترابطة داخليا


التوجه الدرامي

يلعب الرمز دور الدعامة المركزية التي تسم القصيدة بنبرة درامية. ذلك انه يعطل النبرة التفجعية التي يتردى فيها النص أحيانا، يمكنه من استيعاب حركة الصراع، ببعديها الاجتماعي والوجودي.. فيصبح قائما على جملة من المبادئ يمكن أن نلخصها في الظواهر التالية



1
ديوان أنشودة المطر- منشورات دار مكتبة الحياة- بيروت 1969- انظر ص 220
2
نفس المصدر- ص 202
3
نفس المصدر- ص 173
4
إحسان عباس- بدر شاكر السياب- دراسة في حياته وشعره. صدر عن دار الثقافة بيروت 1969. انظر ص 149 وما بعدها