محمد لطفي اليوسفي

أنشودة المطر - بـدر شاكر السياب

ظاهرة التضاد

 

يتحول النص، بموجبها، إلى حركة تستوعب في صلبها مفارقات الحياة، وكل ما فيه يوحي بحركة الجدل التي تعتمل في الواقع. تشمل هذه الظاهرة جميع العناصر المكونة للنص. نأخذ على سبيل المثال عنصرين:

: الألفاظ

و أول ما نلاحظه في هذا الصدد، أن الألفاظ جميعها تقريبا تأتي موظفة للإيحاء بالمفارقة الضاربة بجذورها في عمق الوجود، وما ينتج عنها من صراع. نأخذ كمثال هذه الكلمات

الموت ________________________ الميلاد
الظلام ________________________ الضياء
(المطر (رمز الخصب ________________________ الجوع
(عشتار (الأم الخالدة ________________________ (الأم (الرميم

: الصور

ترد الصور أيضا موقعة بمبدأ التضاد، نأخذ على سبيل المثال: صورة الأطفال في الكروم __________صورة العبيد في الحقول الخليج يطرح المحار __________الخليج يطرح عظام بائس غريق

يجب أن نشير هنا إلى أن هذا الانتقال من الضد إلى الضد يتبع نوعا من التسلسل الدوري المنتظم فيرفد النص بأبعاد إيقاعية تجنبه الاتكال على الوزن والقافية، وتقوم، في الآن نفسه، بتخليصهما من طابعهما الاكراهي فيصبح كل من الوزن والقافية مجرد عنصر إيقاعي داخل حشد كبير من العناصر المتناغمة

: ظاهرة الجدل بين الذاكرة والرؤيا:
يأتي هذا الجدل بمثابة الصدى المباشر لتواجد الأضداد وتصبح القصيدة مشروطة في تقدمها بنوع من الجدل الدائم بين الذاكرة: وكم ذرفنا ليلة الرحيل من دموع ثم اعتللنا- خوف أن نلام- بالمطر

: و الرؤيا

في كل قطرة من المطر
حمراء أو صفراء من أجنة الزهر
وكل دمعة من الجياع والعراة
وكل قطرة تراق من دم العبيد
فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد
أو حلمة توردت على فم الوليد
في عالم الغد الفتي واهب الحياة


تطرح الذاكرة مخزونها في شكل ومضات تنبع من الماضي (الطفولة- الغربة على الخليج- الصراع في عراق القهر والنضال) فتلجم الغنائية التي سيطرت على النص نتيجة طابعه الابتهالي، وترفده بنبرة واقعية
وتلح في الآن نفسه على أن تلك المفارقة الضاربة بجذورها في عمق الوجود موجودة بالضرورة في الواقع المعيش فينفتح النص على الواقع ويصوغه في شكل ومضات واقعية تشحنه بدلالات سياسية

وكل عام- حين يعشب الثرى- نجوع
ما مر عام- والعراق ليس فيه جوع
-----------------------------------
أكاد أسمع العراق يذخر الرعود
ويخزن البروق في السهول والجبال

وبالمقابل، تتحفز الرؤيا وتنشط لتوضح مسار تلك الصراعات وترسم توجهاتها الكبرى مؤكدة، دائما، على حتمية الخلاص الجماعي

هذا الجدل يتحكم بجميع حركات النص ويمزج الواقعي بالرمزي. فيصبح الرمزي عبارة عن مثير يحرك الومضات الواقعية ويستوعبها فتذوب في تلاوينه وتكف عن كونها ناشزة أي مقحمة إقحاما في (القداس الابتهالي). تبعا لذلك، تغلت القصيدة من جميع أشكال الانفعالات الآنية المسطحة. لكن الطابع الغنائي يتضافر مع بعض الألفاظ المشبعة بنبرة تفجعية واضحة (تنشج المزاريب- كم ذرفنا... من دموع- تسح من دموعها الثقال) ويسم النص بنفس تفجعي يمارس على توجهه الدرامي نوعا من اللجم يحبطه فلا يتأسس. بل كظل مجرد نزوع لا غير
تبدو هذه الفجوة، لأول وهلة، عميقة جدا. لكن الرمز يخفف من حدة هذا الانكسار ويحمل القصيدة على تجاوز كل أنواع المباشرة السطحية والحماسة الاحتجاجية

مزج الذاتي بالموضوعي

يتدخل الرمز مرة أخرى هنا ويسمع للنص بتجاوز البنية المتعارفة. فتستند القصيدة إليه وتتخلى نهائيا عن التصاعد المألوف الذي تنبني عليه القصيدة العربية القديمة. وبذلك تخلق بنيتها الخاصة التي تتماشى مع متطلبات التوجه الدرامي، فتتحول إلى مجموعة من الومضات تظل تخفق بشكل دوري داخل الدائرة الكبرى (النص)
ترد هذه الومضات في شكل تداعيات تطرأ على الرمز من داخله كما بينا سابقا، فيتحفز و تستقطب جميع الحركات، ويسمح للصوت الخارجي (صوت الشاعر) الذي يبرز لينقلنا من وحدة إلى أخرى ثم يختفي، بالتراجع والامحاء. هنا بالضبط يدخل الرمز ويشهد نوعا من التفرع الداخلي فإذا به (عشتار موت الأم- وطن القهر والصراع - خليج التشرد والضياع..). تنكشف هذه الوجوه المتعددة، تدريجيا، لتشكل عالما متناغما يمتزج فيه الذاتي، أي طفولة الشاعر (وكركر الأطفال في عرائش الكروم (...) كأن طفلا بات يهذي قبل أن ينام...) وغربة المناضل المطارد (أصيح بالخليج .. يا خليج/ يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى،) وآلامه في عراق القهر والجوع (وكل عام حين يعشب الثرى نجوع/ ما مر عام والعراق ليس فيه جوع) بالموضوعي، أي الصراع المصيري الذي تخوضه قوى التغيير

أكاد أسمع العراق يذخر الرعود
ويخزن البروق في السهول والجبال
حتى إذا ما فض عنها ختمها الرجال
لم تترك الرياح من ثمود
في الوادي من أثر

وتلتقي فيه الرؤيا (سيعشب العراق بالمطر) بالواقع (وفي العراق ألف أفعى تشرب الرحيق)
من هنا، تتمرد القصيدة على الماضي وتستوعب مسيرة الشاعر ووطنه. بتعبير أكثر وضوحا، إنها تلغي ما يسميه المصطلح النقدي القديم بالغرض، وتصبح الحياة بجميع مفارقاتها موضوعها الرئيسي
يجب أن نشير في هذا الصدد إلى أمر-ش بالغي الأهمية. يتمثل الأول في كون التلاقي بين هذه المستويات المختلفة يتبع نوعا من التسلسل الدوري أي يتتابع ويتناوب فيفرز إيقاعا داخليا يذوب في الايقاع النابع من الطابع الابتهالي الغنائي الذي ينبني عليه النص. أما الثاني فيتعلق بالتزاوج الذي يحدث بين المستوى الرمزي والمستوى الواقعي وبموجبه يسحب الرمز تأثره على الومضات الواقعية فيسمها بنوع من الشفافية، ويجعلها تذوب في النسيج العام وتنفتح، في الآن نفسه، على اكثر من معنى. تبعا لذلك "تكسر الكلمات صلبانها" أي تتخلى عن مباشريتها وتتسربل بالغموض فيكف البيت بالنتيجة، عن كونه صدرا، أو عجزا، ويتحول إلى وحدة ذات دلالات كثرة متناغمة بعضها يقود إلى البعض الآخر. ومن ثم تصعب بل تستحيل علينا قراءتها في ضوء ما نعرفه من الشعر العربي القديم. نأخذ على سبيل المثال هذه الوحدة



وكركر الأطفال في عرائش الكروم
ودغدغت صمت العصافير على الشجر
.أنشودة المطر

 

ونشير إلى أننا نستطع أن نأخذ كلمتي- الأطفال والعصافير- في معناهما الحقيقي وتظل الوحدة مع ذلك موحية نتيجة الصورة التي ترعها وما تخلقه من أبعاد تخييلية. لكن الرمز يسحب تأثيره. على الكلمتين يشحنهما بدفق دلالي فتوحي الأولى بتجدد الحياة وولادة "العالم الفتي" الذي بدأت إرهاصاته تلوح في الأفق. وتدل الثانية، بمعنى ما، على الحرية والانطلاق

بهذا تتمكن القصيدة من شد المتلقي وتحمله في "رحلة ذهنية" داخل دفق الدلالات المتعددة المنبثقة من عدول الشاعر عن الطريقة المنطقية في تشكيل الكلام. بالمقابل تقوم الومضات الواقعية بلجم التوجه الغنائي وتسمه، كما بينا سابقا، بنبرة واقعية تجعله كشف عن التناقضات التي تزخر بها مرحلة تاريخية تختزلها القصيدة وترسم توجهاتها الكبرى

هكذا تحاول (أنشودة المطر) أن ترسي بنيتها حسب ما يتطلبه التوجه الدرامي من عناصر مسرحية. لكن الصراع ظل، في الحقيقة، خافتا محتشما. فالذوات الحاضرة في النص لا تشارك في توتير الحركة الكبرى الماضية من العدم (الأم الميتة) إلى الحياة أو الوجود (عشتار أو عالم الغد الفتي)

صحيح أن صوت الشاعر ينجح في الانتقال من وحدة إلى أخرى مستخدما وسيلتين: المخاطبة والتداعي حتى لا يبدو ناشزا، ولكنه طفو على السطح على حساب تلك الذوات الحاضرة في النص، فتبدو "محنطة" أحيانا لا تشارك في خلق الحركات والأفعال على نحو بارز محدد. لذلك تصبح جميع أفعالها (العراق الذي يذخر الرعود/ المهاجرون الذين يصارعون عواصف الخليج/ العبيد في الحقول...) مجرد حركة صغرى داخل حركة حتمية كبرى هي حركة الحياة التي تحاول أن تكون وتتجدد (عشتار)

تبعا لذلك جاء الصراع الخارجي في شكل إشارات لا تسمح للتوتر الدرامي ببلوغ ذروته وجاءت رموزه (العبيد... العراق الذي يذخر الرعود...) غير فاعلة في النص على النحو الذي يسمح ببروز ذلك التوتر ودفعه إلى الأمام. إنها مجرد مشاهد تنبع من ذاكرة الشاعر مشبعة بالحنين، وتلحق بالرمز العشتاري لتذوب فيه

وبالإضافة إلى ذلك جاء الصراع الداخلي باهتا أيضا. ذلك انه يتجلى في شكل انفعالات يعيشها الشاعر،تستفيق ملء روحي رعشة البكاء) ولا ينقلنا إلى داخل الذوات الحاضرة في النص ويكشف ما تعانيه من تمزقات

يشكل هذا الإخفاق في الوصول إلى ذروة التوتر الدرامي الوجه الآخر لنجاح الشاعر في جعل صوته محملا للنص بأسره من البداية إلى النهاية. إن جميع حركات النص منبثقة، كما قلنا سابقا، عن هذا الصوت الذي يشهد، فيما هو يتقدم، جملة من الانبثاقات تظل تصعد من العمق إلى السطح أي تطلع من ذاكرة الشاعر محكومة بإيقاع المطر (الوجه الآخر للرمز العشتاري) الذي يجعلها تذوب من جديد في مستقرها (عشتار). هنا تتجلى إرهاصات النبرة الصوفية التي تحد من الطابع الغنائي الراجع إلى المخاطبة (مخاطبة الشاعر لرمزه) لكنها تعجز عن كسر المساحات التي يحتلها الصوت. بتعبير آخر، إن النص يعجز عن إرساء بناء درامي مكتمل فيستند إلى الصوت الخارجي الذي بزوده بطاقات جديدة (تداعيات الذاكرة) تسمح له بالتقدم. لذلك نجد ذاكرة الشاعر تطرح مخزونها على مراحل أي في شكل دفعات واضحة المعالم "الطفل/ المناضل المقموع)

من هنا يمكن أن نقول أن النص يطمح إلى "مسرحة" بنيته من ناحية وينزع، من ناحية أخرى، إلى التشكل وفق ما يتطلبه التوجه الدرامي من توتر وانفراج. لكن هذا الطموح يظل مجرد نزوع. وبذلك تكون (أنشودة المطر) قد أشارت إلى أفق جديد سترتاده القصيدة العربية المعاصرة وتمضي فيه بعيدا كما سنلاحظ عندما نحلل بقية النماذج المختارة.


يتبع