أمجد ريان
(مصر)

امجد ريانتمتدُّ البلاد البعيدة
تحت باب البشر ،
وأنا أبقى مستيقظاً
غيرَ منفصلٍ عن الأحاسيس
وغيرَ منفصلٍ عن الضَّياع ،

الظلمةُ تحت قميصى ، وأنا أمشى تحت خيمة الزحام ، أبحث عن نقطة الحلم : كان "التيشيرت" مناسباً لجسدى وفضفاضاً بالشكل الذى أحبُّه ، وعلى صدره رسموا غصناً شجرياً يقف عليه طائرٌ محلق ، وكنت أنطلق فى الميدان شاعراً بالحرية ، وبالرغبة فى العَدْو ، ولكن اعذرونى : عقولُنا تهذى ، وأقدامُنا تهذى .
كنا نتعمَّدُ أن نتلاصقَ ، وكأن هناك حوارٌ بين الجسدين ، وكان جسدُها يُذَكِّرُنى بجذعِ الشّجرة ، وأحسُّ بأننى مسجونٌ فى الإيحاء ، أمتلئُ بالتراجيديا ، وباللحظات الحزينة التى تطيرُ بى حتى آخر الشارع .
نحن نرمى أجزاء منا ـ لا مؤاخذة ـ فى سَلَّةِ المهملات ، والإحساسُ على حافّةِ اللّونِ الطازَج ، نريدُ لُقْمَةَ الحقِّ ، ونحن جالسـون ، وعلى أكتافِنا تَتَدلّى الأغصان :

اصعدْ أيها الزئبق
لتصلَ حتى المستوى الأعلى
لكى نعلِنَ الوصف
ارتفعْ أيها الزئبقُ إلى المستقبل
اصعدْ ، وارفع الهيكلَ العظمىَّ معك .

نريدُ أن نصلَ إلى الحدِّ الذى لا يُوصَف
نريدُ الفَرَحَ ، ونريدُ أن نعرفَ الأشياء
وأن نتجاوزَ الغَضَبَ والانتظار .

لازلنا تحت الشجرةِ العجوز ، نحسُّ بالشَّغَفِ بالأنثى ، أونقفُ قُبالةَ المرآة ، ساعين للانتصارِ على الهواجس ، بينما يُوغِلُ الكلامُ ويتشعَّبُ ، هل نسقط فى أغنية ، أم نقِيمُ من الطين حائطاً تحت الأجنحة التى تشطُرُ السماء .

الفتاةُ الجميلة
قادمةٌ من الطريقِ المقابل
وأنا قررتُ أن أبتسم لها ،
ولكنى لم أتمكن ،
كان وجهُها
على الرغمِ من جمالِهِ
صارماً ،
ويبدو أن المرأةَ
هى التى تُعطى
الإشارةَ خضراء .

لقد بَقِيتُ فى التوهُّجِ نفسِهِ ، بقيت عند الأنثى ، و الموتُ العتيقُ فى المسافات ، وفى الخلف تصعدُ الحديقة ، بأزهارِها المطموسة ، وكلُّ كِيانٍ يَتَفَجَّرُ فى تفاصيلِهِ الصغيرة .
كلما مَسَسْنا الحقيقةَ يصعد الندم ، والساحاتُ الواسعة ابتعدت ، ولكن المرأةَ تأتى ملساءَ القدمين ، مهضومةَ الخَصْرِ ، فخمةَ الفَخِذين ، ناهدةَ الثديين ، تأتى المرأةُ حمراءَ الخدين ، المرأةُ دائماً تأتى صريحةً بسيطة ، تضعُ يَدَها على المسألةِ برمَّتِها ، والبريقُ خامد فى حناجرنا .
لِسَّه .. لم يحدثْ بعد أن عَبرنا فى الممراتِ الخضراءِ البهيجة ، أو مررنا بأصابعنا النحيلةِ على الحنان ، وهناك دمٌ مهدر ، والعَدَمُ يناورنا ، وأنا أمشى أهتز فى الشارع ، أتلفَّتُ فى كل الاتجاهات : أصدق كلَّ ما يُقال ، ولا أصدقُه .
المعنى الإنسانى العميقُ للجنس يحاصرُ الحساسيات ، والإنسانُ محتاجٌ ، يدورُ فى العَوَز ، والطرقاتُ تمتدُّ على الخرائطِ ، والكَفُّ الصغيرةُ لازالت تلوّح ، والأبوابُ الخائفةُ تفاجؤنا ، وعلى مقعدِ المترو المواجه لمقعدى كانت امرأةٌ تبكى بحرقة ، بدونِ شهيق ، كانت شديدةَ الأناقة ، والدموعُ تتساقطُ حتى شوّهَت ماكياجها ، فتحتْ حقيبَتها ، وأخرجت المنديل ، وأخذت تمسح أسفل عينيها ، وعلى امتداد الخدين البضين ، لكن الدموعَ لا تريدُ أن تتوقّف .
تحت العماراتِ الكالحةِ طارت عيناى فى الأفق ، وفى المقلتين مكانٌ مناسب للاشتعال ، وكلُّ شىءٍ يمكن أن يثير الجدل ، وعلى الرغم من العمائرِ المسترخيةِ ، فالداخلُ ديمومةٌ لا تتوقف ، ومن الممكن أن تتأكدوا : انظروا إلى البلكونةِ المقابلة على سبيل المثال ، فتاةٌ تنشر الغسيل ، وصدرُها شبه عار ، وهى تمثل دَوْرَ أنها غافلة ، ويمكن أيضاً أن تنظروا إلى الناحية الأخرى : الكتبُ الضّخمةُ خلف زجاج النافذة ، ورغم لوحات الجوعِ فوق سـرير الحصى ، ورغم النارِ المعتمةِ فى شفاهنا ، فالأسئلة تظل داخل القوس ، وفى الخروج الإجابةُ كلها .

الإلهامُ عادةً يأتى فجأة .

من فضلكم صالحوا الجسد
لإنه يصاحبكم طوال العمر ،
ضعوه فى البريق المتقد ،
وتأملوا الصباح
فى المرايا ،
وضعوا الزخارف الملونة
فوق رأس الجندى الورقى
حتى تتراجع المعانى المعنوية ،
ونحس روح المدينة
خلف أضواء الأبواب .

لقد سمعت نداء الانتظار الطويل ، ورأيت الجسد الذى يتلوى فى الفراغ ، فوقفت على الباب أمشط شعرى بأصابعى ، متذكراً كيف أن الحروب نفسها كان الجنس من وراءها وكان الجسد يشعلها : هيلينا وكليوباترا ، وعشتار وأفروديت .
على كوبرى قصر النيل كانت المرأة تحمل رضيعتها من زوجها الذى لا تحبه ، فجأة ألقت بها فى الماء عامدة ، ثم أخذت تصرخ صراخاً رهيباً أوقف المرور ، وجعل السيارات تتوقف .
أما الأجساد المصابة باللوكيميـا ، فهى تظل تنادى الوجود ، والوجود لايسمع ، أين الحياة إذن ؟ لا أحد يستطيعُ أن يحدّدَ الاتجاه ، لا أحد يستطيع أن يصاحبَ الروحَ الصافيةَ الشفافه ، ورغم هذا ، تندفع الهرمونات فى النظرة واللمسة والرائحة واحمرار الخدين ، ورغم هذا تستضيفنا الحروف ، ويبقى الإنسان يتمطى على عرش الحجر .
يرن الهاتف ، والإنسان مشغول لايرد ، يرن الهاتف والإنسان مشغول ، ولايجد وقتاً لكى يجيب ، الإنسان مشغول ، ولكنه لا يعرف فى أى شىء ينشغل ، يلف حول نفسـه ، ويروح هنا وهناك ، لأنه مشغول ، والهاتف لا يتوقف عن الرنين .

4 يونيو 2011