أمجد ريان
(مصر)

(1)

أمجد ريانداخل الحانوتِ الصَّغيرِ عَرَفْتُ أن التجْربةَ الآدميَّةَ تجْربةُ تكيُّفاتٍ واسعةٍ، وكانت الصبيَّةُ ترتدى بنطلون "جينز" فوق جَوْرَبٍ سميكٍ بِلَوْنٍ أصفر فاقع ، وأنا أفكّرُ فى سَيْطَرَةِ العقلِ على التفاصيل ، وفى الأجْسَادِ التى تَسقُطُ فى الموتِ على التوالى ، وفى البعيدِ كانت المرأةُ الوحيدةُ عند السُّورِ تُلْقى بحفْنةِ الوميْضِ من بين يديها ، فأسألُ نفسى : ما الفرقُ بين الهذيانِ والوقائعِ ؟ ، وفى اللّحْظَةِ نفْسِها ، كان حِمارٌ صغيرٌ يَقْفِزُ بحنانٍ ، بينما تحيطُ به سَحابةٌ من الغُبار ، وأنا أسألُ نفسى عن العقلِ ، العقلِ ، العقل ، الجُمْجُمَةُ المُصَفَّحَةُ تُحيْطُ بالعقل ، الجُمْجُمَةُ تُحيْطُ بالكَوْنِ كُلِّهِ وبحرَكَةِ المَجَرّاتِ ، وإلى الدّاخِلِ ، جهةِ العُنُقِ ، ستكونُ البِذْرَةُ الحيَّةُ على امتدادِ العُمْرِ ، فأغْرَقُ فى أحْلامِ اليَقَظَةِ ، وكَشّافاتُ الضَّوءِ موجَّهَةٌ إلى الحُبِّ الذى سيختَصِرُ العالم .

(2)

الجُمْجُمَةُ هى العُلْبَةُ العَظْمِيّةُ التى جرى التّاريخُ كُلُّهُ داخِلَها ، وهى مفتوحةٌ للمُسْتقْبَلِ أيْضاً ، لكى نَتَقَدَّمَ ، واثقين ، ممسكين بقواريرَ من "الكريسْتال" ، ممتلئين بحسِّ الفوْضى المُمْتِعَةِ ، بحِسِّ التَّشَرُّدِ ، أو بِنَشْوَةِ التَّناسى ، بينما تَتَقَلَّصُ الرِّياحُ المتْرَبَةُ التى تهاجِمُ البيوت ، بَيْد أنى أظلُّ أتأمَّلُ هذه المرأةَ التى تكْشِفُ عن ساقيها وهى تعبُرُ فى السَّماوات ، وتحتها بالضَّبْطِ تمتدُّ البيوتُ التكْعيبَّةُ الحزينةُ ، تنْتظِرُ الميْعاد : رحلةُ السَّفَرِ تعَطَّلَت على "الويتينج ليست" ، والمارَّةُ يُسْرعون بصورَةٍ كوميديّةٍ وهم يهرولون ، وهى الهَيْكَليَّةُ الحَرَكَيّةُ ، المَنْظومةُ الرَّمْزيَّةُ التى تَتَوازى مع كلِّ حَرَكَـةٍ أخرى : عظامُ الرأسِ والعمودِ الفِقَرِىِّ والأضلاعِ ، إنه الهَيْكَلُ الكُلِّىُّ ، بعِظامِهِ الحُرَّةِ : ثابِتةٍ ومُتَحَرِّكةٍ داخلَ الأحْزِمَةِ ، والأرْبِطَةِ والأوْتارِ ، حَركيَّةِ الوجودِ كُلِّهِ .

(3)

الظاهرةُ النفْسيَّةُ ظاهرةٌ مَعْرِفيّةٌ ، ومن النافِذَةِ الضَّيقَةِ أرى كيف اخْتفتْ الضِّحْكَةُ بين النّاسِ ، وكيف انقَرَضَتْ ممازحاتُ الباعةِ فى الأسْواقِ ، ومُكَبِّراتُ الصَّوْتِ تُطْلِقُ الأصواتِ المَبْحوْحَةَ ، ونحن لم نتمكنْ من الوصولِ لأىِّ شَىءٍ على الإطلاق !! ، وعندما يَعْلو الغُبـارُ الوجوهَ والملابسَ ، ويُصِيْبُ حافّةَ الكَتِفِ ، ولو لِبُرْهَةٍ ، تَتَدَاخَلُ التكْويناتُ فتخْلُقُ إيقاعاتٍ مختلفةٍ ، ونحسُّ أننا مُتَعَجْلون : يَشْحَذُ كلٌّ طاقَتَهُ ليطْرَحَ كلَّ مالديهِ من قُدْرَةٍ على الحُلْمِ : قَبْضَةُ الكَفِّ تحْلُمُ ، والحناجِرُ التى أحْرَقَها البُكاءُ تحْلُمُ ، وأنا أبحثُ عن المُخْتفى داخلَ سُلْطَةِ الاسم ، وأغْمِضُ عينىَّ فأرى "الباليرينات" يَقْفِزْن بأصابعِ أقدامِهِنّ الخَفيفَةِ على أرضِيَّةِ الحُجْرَة .

(4)

كنتُ أنقَبِضُ عندما أرى شارَةَ الموتِ : جُمْجُمَةٌ وتحتَها عظمتان متقاطعتان ، وبخاصةٍ عندما أتحدَّثُ مع الرّجُلِ الذى يجلسُ على "الكاونتر" ، فيَرُدُّ علىَّ دون أن ينْظرَ فى عينىّ ، أما الرجلُ الوحيدُ فى المَقْهى فَذَقنهُ الشَيْباءُ نابتةٌ ، وشَعْرُهُ مُشَعَّثٌ ، وعيناه زائغتان ، وأنا أسألُ نفسى كيف أقاومُ الشَيْخوخَةَ فى ضوءِ النَّهارِ ؟ الجَماجِمُ الكريسْتاليةُ استخدموها فى طُقُوسِ الحَضاراتِ القديمةِ ، وفى الحَضاراتِ الحديْثةِ يستخدمون ضِحْكَةَ المُهَرِّجِ ، وعلامةَ الخلِيَّةِ الحيّة .
عندما دار "يورى جاجارين" حول الأرضِ سَقَطَ حراً فى الفَراغِ ، وأكَّدَ معنى الذّاتِ لإنسانيَةِ التى يعملون على تهميْشِها الآن ، فيحفرون المقابِرَ الجَماعيّةَ التى تَتَراصُّ فيها الجَمَاجِمُ مثلُ كُراتٍ هَشَّةٍ ، على الرَّغْمِ من أن الدِّماغَ موْطِنُ الألغازِ والمعْجِزاتِ ، الدِّماغِ جَريدَةُ الوجود .

(5)

فى ضَجيجِ الصَّباحِ وأصْواتِهِ ، أنقَضُّ على أكْرَةِ الباب ، وأضْغَطُها بكلِّ قوتى لأتمَكَّنَ من أن أرى بُقْعَةَ الضَوْءِ فى مَتاهَةِ الظِلّ ، وأتمَكَّنَ من أن أرى كيف بات وَشيكاً أن أسْتلِمَ المظروفَ البريدّىَّ الذى وصل تواً ، فأمْسِكُهُ بيدِى ولا أريْدُ أن أفتَحَهُ ، فقط أملأ صدرى بالشَّهيقِ العَميقِ ، وهناك فى المِنْطَقَةِ السُّفْلى من الجُمْجُمَةِ فتْحَةٌ يمُرُّ عَبْرَها حَبْلُ الحياة : النُّخاعُ الشَوْكىُّ الذى يوصلُ العقلَ بالجَسَدِ الكَوْنىِّ ، فأحِسُّ بالخطِّ الذى يربِطُنى بالأفقِ ، وأنظرُ ذاتَ اليمينِ ، وذاتَ اليَسارِ حيث غابَةٌ من لَوْحاتِ الإعْلاناتِ تتَوَزَّعُ فوقَها كَلِماتٌ تُضِىءُ وتَنْطَفىءُ ، وصورٌ أيقونيَّةٌ مُفَتَّتَةٌ ، تُغْرِقُنى فى العواطِفِ الواهمةِ ، فأخاطِبُ نفسى : ينبغى أن نَعومَ فى غِبْطَةٍ نخْلُقُـها بأنفُسِنا .

(6)

أعمقُ ما فى الجُمْجُمَةِ حفرتا العينين ، مشيرتين إلى تاريْخٍ من التَحْدِيْقِ ، وأنا لا أكفُّ عن تحَسُسِ جُمْجُمَتى بيدىّ ، وأظلُّ أحَرِكُ فَكِى السُفْلىِّ ، فهو جزؤُها المُتَحَرِكُ ، وأظَلُّ أجْترُّ كلَّ مامضى من العُمْرِ ، مدفوناً داخلَ هذا الحَيِّزِ بحَجْمِ الكفَّين مضمومِين ، فأسْمَعُ الصَّفيرَ الخَفيفَ ، ماذا تقولون ؟ هَيَا بنا خلْفَ المَمْشى الزُّجاجىُّ : ألم تمنحْكَ الحياةُ سِرَّها بعد ؟ ، أنا أريْدُ الاقترابَ من معنى الرّوحِ ، وأريْدُ أن أجْعَلَ الخَطَّ الخارِجِىَّ للدِّماغِ يَنْدَمِجُ بقُبلاتِ المُحِبِّين .