هاشم شفيق

من كليلة ودمنةهناكَ نشأنا
قريباً من الماء،
نفتضُّ محّارةً
ونراودُ موجاً
لنصطادَه بالسنانيرِ،
ما همّنا سَمَكٌ لابط ٌ
في الرمال على الجرفِ،
بل همّنا الضوءُ والمقتنى
من نجومٍ مخبّأةٍ تحت ذاك الحصى
والترابِ المبطّنِ بالصدفِ الساحليِّ
وألوانِِ تلك الجذورِ/
الصخيراتُ زرقاءُ
تلك السماواتُ شذرٌ
تُلوّنُ أقدامَنا في الشواطئِ،
تصبغُ أظفارنا بضياء البدورِ...
هناك نشأنا/
الوسادةُ كانت معبّأةً بالغيومِ/
السريرُ من النخلِ نصنعُه في الهواجرِ
والشرشفُ العائليُّ
من الليفِ ننسجُه ليغطي سماءً،
هناكَ نشأنا
دُمانا من القشّ
والطينِ والأغنياتِ،
ولا همَّ كان هناك
سوى اللعبِ القرويِّ
مع الفتياتِ الصغيراتِ
ذات الشرائطِ
نلعبُ بالشهبِ الساقطاتِ
على الحقلِ مثل الكراتِ
ونلعبُ بالثمراتِ التي سقطتْ
جافةً في الظلالِ
ونشربُ ما يتبقى
من الظلِّ مبترداً في الوريقاتِ،
نشربُ ذاك الندى
والنعاسَ بأجفاننا
نشربُ الصمتَ في الأجماتِ
ونعلكُهُ بضجيجٍ،
نخربطُ ما نظّمهُ الكونُ والأهلُ/
نحرقُ أحطابنا في الليالي
ندفئُ أقمارنا الخضرَ/
في الليلِ نستدرجُ القصَّ
عن غانياتِ المدائنِ
والحَضَريّاتِ تلك اللواتي يَنمْنَ
على شَبَقٍ ناعمٍ في الحرير السويسريِّ
عن سينما ريكسَ
روكسي
ميامي
وعن حانةٍ جلستْ في الضفافِ
تداعبُها في الظلام السواحلُ
والقمرُ المستديرُ على قدحٍ نابضٍ بالكحولِ...
هناك نشأنا
على تمرة الأشرَسي
وعلى حبّة البرَكه
حقولُ السبانخِ والبامياء
اختفتْ في مساماتنا،
وحليبُ الجواميسِ أيقظَ فينا الذكورةَ
أيقظَ نهراً يفيضُ بداخلنا،
سارحاً في الحنايا
وتحت الضلوعِ،
ونحنُ وراء البراري نطيرُ،
نحلقُ في عشبةٍ،
فوق غصنٍ نكونُ،
صغاراً بلا واعزٍ ومديرٍ،
فنحنُ نديرُ الفضاءَ،
نملأُه بالوساوسِ
والحركاتِ الطليقةِ،
مخترقينَ البهاءَ المركزَ
في وجَنات الطيورِ،
هناكَ نشأنا
بمستنقعات الضياءِ،
نخوّضُ في الكحلِ
قرب جهاز العروسِ
ومحملها الخشبيِّ
وحنائها المتطايرِ بين المرايا
بين الخلاخيلِ،
قرب القرنفلِ
منتثراً في المخادعِ،
تحت اللحاف المزركشِ
بالمسكِ والزعفرانِ،
هنالك كنا
نفتّشُ عمّا تبقى من الحَلويّاتِ
والكعكِ البلديِّ المخبّأَ في الأبديّةِ
في ظلمات المكان،
هنالكَ قرب الجنادبِ
تستنطقُ الليلَ في عَنَتٍ،
قرب تلك الذبالة لاهبةًً في الروازينِ
قرب الصلالِ تمدّ الزعافَ إلينا
وقرب العناكب تبني مفاتنها في الزوايا،
هنالكَ قرب الهريرات تلحسُ أفقَ المنازل،
ناعسةً في شتائلَ من بصلٍ ذهبيٍٍّ،
هنالكَ كنا
كحرّاسِ ريحٍ
يديمون ضوء الأعالي
يسيرون بين المجرّاتِ
منتعلين الثريا
ومحتطبينَ سُهيلاً وأقرانه
في دروبٍ حليبيّةٍ،
ثم نهبطُ للسطحِ
ممتلئينَ ضياءً،
ففي الجيبِ نورٌ تضوّأ
نحفنُه كالنقودِ
وفي الوجهِ لمعٌ
يضيءُ الحواجبَ والقسماتِ،
فنغفو بلا هاجسٍ مستطيرٍ
بلا غُصّةٍ نَشَأت من صروف الزمانِ،
ننامُ حذاء الدواجنِ
في خمّها برغلٌ عسجديّ
تماهى مع الماسِ،
ثمّةَ نصحو على خفْقِ
أجنحة الطيرِ فوق الرموشِ
على طبلِ عُرْسٍ
تسلل للدورة الدمويّةِ
على صوتِ صَنجٍ
سرى في الوريدِ
على دقة الهاون المتهاونِ
حيث الروائحُ تصعدُ
في ضفّة من بذورٍ وطينٍ،
هناك استفقنا
على لطمةِ الخدِّ
حين يغيبُ العزيزُ
وراء الغياهبِ
مختلياً بالجدارِ
وصفّارةِ العسسِ العسكريِّ،
استفقنا على صرخة الانقلاباتِ
وقت السحورِ
مُهيِّئةً للبلادِ النشيدَ الحماسيَّ
حيث القطاراتُ تأخذُ أسرى ومعتقلينَ
إلى نقرةٍ في الصحارى الغريبةِ
تلك التي قضمتها الذئابُ
وماتَ بأطرافها الهاربونْ.

(شاعر عراقي)