في يوم شتائي قارص من نهايات عام1989 نظر موظف الحدود الأردني إلي تابوت خشبي أمامه، وتناول جواز السفر ليثبت الواقعة:
اسم حامله: السيد غالب سلامة هلسا. مكان الولادة: مأدبا. تاريخ الولادة: 1932، اسم الوالدة: فضية. (مكان العمل: فارغ)، مكان الإقامة: دمشق.
الطول : 176، لون العينين عسلي. لون الشعر: أشيب.
لم تكن تلك معلومات كافية ربما؛ فطالع الموظف بعين فاحصة ختم السفارة الأردنية بدمشق، ثم حول بصره إلي صورة صاحب الجواز رقم (ب 141265)، الصادر عنها، وتأمل ختم الدخول من الحدود السورية الأردنية والذي يحمل تاريخ 19/12/1989، تناول موظف الحدود أخيرا قلمه وثبّت الواقعة: دخل متوفياً .
هكذا دخل الروائي الأردني الأبرز غالب هلسا بلده الأردن بعد غيبة امتدت زمنا طويلا، حيث كان قد ترك موطنه منذ أواسط الخمسينيات ولم يكن مسموحا له أن يعود إلا كما عادها في النهاية محمولا في نعشه أواخر ثمانينيات القرن العشرين، وقد كانت طوحته المنافي في عدد من العواصم العربية والتي كانت علي الدوام تجد سببا جديدا لترحيله أو إبعاده.
ولسنوات قليلة خلت، كان يتم تداول روايات هلسا وكتبه في الأردن بطريقة أشبه بتوزيع المنشورات السرية، لكن مع مرور الذكري الخامسة عشرة لرحيله التي تصادف يوم مولده بالضبط 18 كانون الأول، فقد عاد هلسا ليتصدر واجهة الابداع الادبي والفكري الاردني حيث بادرت عدة مؤسسات ثقافية الي اعادة طبع مؤلفاته، فيما استأنفت رابطة الكتاب الاردنيين منح جائزة سنوية تحمل اسمه.
تنقّل غالب هلسا وعاش في اكثر العواصم العربية توهجا واشتعالا بالاحداث: القاهرة، بيروت، بغداد، دمشق، اضافة الي العاصمة الاردنية عمان التي قضي فيها فتوته وسنوات شبابه المبكر، وكان طوال حياته نموذجا للمثقف الغرامشي ساعيا الي ان يكون جزءا من البناء العضوي للحراك السياسي والثقافي اينما حل وذهب، حيث انتمي للأحزاب والحركات السياسية اليسارية في كل بلد عاش فيه، كما أنه ساهم في صياغة خيارات ابداعية وفكرية لجموع المثقفين الذين عايشهم في العواصم العربية، وخصوصا في مصر حيث أسهم بتشكيل جاليري 68 الذي كان له دور اساسي في بلورة خيارات جيل السيتينيات.
امتاز غالب هلسا بين اقرانه وابناء جيله من الروائيين والقاصين بأنه مارس التنظير الفكري والفلسفي الي جانب كتابته الادبية، كما ان في رواياته علي وجه الخصوص ملامح اساسية مهمة من خطوط فلسفته الفكرية العامة، والتي لم تسع فقط نحو تحرير الانسان في سياقه الاجتماعي فقط بل وطمحت الي خلق انسان جديد من الداخل، وقد انعكس كل ذلك في بناءات روائية وطروحات فلسفية علي حد سواء، بحيث جاءت تلك الفلسفة متضمنة في ثنايا الاعمال كجزء عضوي منها، وليست محض غطاء ايديولوجي مقحم عليها من الخارج.
لقد اقتحم هلسا اعتي اسوار تابوهات الحياة العربية، ليس فقط ما ثبت في مقولاتها الرسمية؛ بل انه قدم نموذجا جماليا فلسفيا من جهة، ورسم ملامح لصورة المبدع والمثقف التثويري من جهة اخري حتي داخل الاطر الثورية والفكرية والسياسية التي انتمي لها، وهنا نجدنا امام ظاهرة فكرية ايضا، وقد ترسّم ذلك منذ بدايات اعماله سواء ذات الصبغة السياسية ـ الفكرية او الجمالية الادبية.
ففي الوقت الذي انتمي فيه فكريا الي اطروحات اليسار العربي ، فقد مارس نقدا جدليا للكثير من المقولات والبني الايدولوجية المتشنجة، الامر الذي انعكس بالضرورة في رؤاه الادبية، وهنا نجد ان التجلي الفني لرفض الواقع لديه يكمن في ثورية البناء الروائي الذي اقترحه في رواياته وقصصه وذلك عبر رفض الزمن الواقعي وخلق شخصيات هي في جانب كبير منها في منطقة مبهمة وغامضة بين الوهم والواقع، بمعني انتمائها لصورة حلمية عل نحو ما، أي في منطقة التخييل تماما بحيث يبدو ذلك معادلا فنيا لفكرة تحطيم الزمن التقليدي بكل ما فيه من مفاسد ومآزق وأزمات، وهو تجل ما لفلسفته الرافضة والباحثة عن فردوس آخر.
كما ان رفض غالب هلسا لمحددات الجمود العقائدي والدوغما السياسية، وانحيازه الي النموذج الجمالي في الانسان والمجتمع، قد تمظهر في عين ناقدة التقطت الواقع الفعلي، مما تأسّس عليه بالضرورة رفض لما شاع من نمط كتابة الواقعية الاشتراكية وتحديدا لجهة تنميطها وتسطيحها الثراء الانساني العام في جملة من المقولات المقحمة التي لا تحفل بالوظيفة الجمالية والانسانية للفن، وهو امر لم يثر مطلقا الاهتمام الروائي والجمالي عند غالب، ولم يلب بالضرورة اشواقه المتفجرة بمختلف صنوف الابداع والفكر، بل والاهم تلك التي لم تقدم ادوات ديناميكية في التعامل مع الداخل والخارج الانساني المعقد.
تمتاز كتابات الروائي غالب هلسا علي نحو اساسي ببعديها التأملي والفكري الذين يندمجان في سرديته. وحسب تعبير الروائي المصري ادوار الخراط فقد كان هلسا من اوائل الذين شقوا طريقا هاما في الابداع الروائي لجهة الافصاح عن رعب وجودي يكتنف قدر الانسان في مداراته وتحولاته النفسية والاجتماعية، وقد تجلي ذلك في تقنيات السرد الروائية لدي غالب وخصوصا في بناء مشاهد عبر التقاطها بعين شديدة الحساسية.
بني غالب هلسا معماره الادبي الروائي من خلال نظرته للعلاقة الجدلية بين الفلسفة وعلم الجمال والتي تنطلق من علاقة النظرية بالواقع، فقد رأي ان التعصب ينشأ عندما يسود الاعتقاد بأن النظرية هي الاساس وان الواقع قد خلق علي صورتها ومثالها، الامر الذي يقود بالضرورة في منحاه السياسي والاجتماعي الي تدمير المؤسسات وسيطرة القمع البوليسي لارغام الواقع علي اطاعة النظرية، وتعد رواية الروائيون في الخط الاساسي العام رصدا فكريا ونفسيا لهزيمة 1967 وتأثيراتها والتي تمخضت في النهاية عن نزع آخر قناع عن وجه المؤسسات ودفع الفردية الي اقصي درجاتها.
لقد أنجز هلسا رواية حديثة تميزت بالجرأة الفكرية التي قامت علي فلسفة تكشف النقاب عن امراض المجتمع دون وجل، كما انها تنظر الي الانسان من خلال موشور يحلل اطيافه ومستويات وعيه ولا وعيه، فقد نخرت التركيبات المجتمعية بسلطاتها المتعددة روح الانسان، وبالتالي تصدت الرواية الي اظهار اهوال الصراعات ومستويات التسلط المتعددة، وانبري الروائي الي ممارسة دور الفيلسوف والمحلل النفسي والمؤرخ معا، لكشف طبقات الصراع وطبقات الوعي علي حد سواء، من خلال تسليط الضوء علي المضامين التي لم تجرؤ الرواية التقليدية علي تحليلها او حتي الاقتراب منها كالحرية والانعتاق والتسلط والشطحات المخزونة التي تراود الانسان ويخجل من التعبير عنها اضافة الي اجواء الكوابيس والهواجس البشرية المختزنة في طبقات اللاوعي.
لقد انعكست الفلسفة الجمالية والفكرية عند غالب هلسا في تطوير انساق سردية ناقشت القضايا الانسانية ضمن نسيج كلي فكري ونفسي واجتماعي محكم في مستويات متداخلة، فالشر مثلا ومستويات التسلط ومآزق العقم الطبقي والحضاري لا تعالج معزولة عن بقية العوامل التي ساهمت في بناء الشخصيات من الداخل، ولذلك نري الحب قد امتزج بالجنس والامل بالعجز، والجلاد بالضحية، كل ذلك في السياق الانساني، ولكن في الوقت نفسه، ضمن تمايز مستويي الاخلاق العليا والبهيمية البشرية، وما يقابله اجتماعيا من تعالق الضرورة بالحرية في جميع اشكالها ومستوياتها.
البطل كما يظهر في جل روايات هلسا يسعي الي الثورة من اجل ذاته ومحيطه في معظم الاحيان، لكنه يقع ضحية نفسه ومجتمعه في نهاية الامر، ولعل اهم ما يدلل علي ذلك هو شخصية ايهاب في الروائيون وهي قمة عطاء غالب الروائي ان جاز التعبير، ولعل السبب في تلك الخصائص التي ظهر بها البطل في ذلك الشكل يكمن في فلسفة جمعت بين شخصية المتمرد والضحية في الآن ذاته، وهي شخصية تكمن بنيتها في الجمع بين المتناقضات في داخلها، اذ تتردد بين المعاناة واللانتماء، وبين الالتزام والفوضوية، وبين القداسة والجريمة، وهو بناء ينتمي في حدوده العامة الي النظريات الفرودية في تقسيم النفس البشرية بين الانا والهو والانا العليا، وتلك تعد واحدة من ملامح فلسفة هلسا في تعقبه لخلفيات ابطاله وبناءاتهم.
لقد تأسس علي ذلك اندثار مفهوم البطل التقليدي فقد اظهره هلسا وكأنه شهيد ذاتي الصنع اي ذلك البطل الذي يضع نفسه في خضم الظروف التي تطحنه، علي انها تعكس في الوقت ذاته صورة جديدة لزمن آخر جديد، حيث تتمثل الروح مفهوم البراءة الطفولية المقترنة بحلم الام الكبري في مواجهة عالم معقد معاد يكون نتيجتها الانهزام في مواجهة العالم، وعموما يظهر ابطال هلسا الاساسيون كأنهم طريدو الفردوس ودائمو البحث عنه، لكن البطل مع ذلك لا ينتهي دائما الي استعادة الحضن الامومي ـ الوطن المفقود .
يشار الي أن غالب هلسا نشر خلال حياته سبع روايات: (الضحك)، 1971. (الخماسين)، 1975. (السؤال)، 1979. (البكاء علي الأطلال)، 1980. (ثلاثة وجوه لبغداد)، 1984. (سلطانة)، 1987. (الروائيون)، 1988. كما أصدر مجموعتين قصصيتين هما: (وديع والقديسة ميلادة)، 1969 و(زنوج وبدو وفلاحون)، 1976.
كما وأصدر عددا من الكتب والدراسات الفكرية والنظرية مثل : الجهل في معركة الحضارة ، العالم مادة وحركة ، و نقد الأدب الصهيوني . هذا فضلاً عما ترجمه من أعمال نظرية وأدبية مثل جماليات المكان لجاستون باشلار، و الحروب الصليبية لعاموس عوز ، وأعمال أدبية لأدباء عالميين مثل سالنجر وفوكنر وغيرهم.
وترك هلسا تراثا واسعا من المقالات والدراسات النقدية والفكرية، والتي قام اصدقاؤه الكتاب وأجيال اخري جديدة بجمعها صدرت في كتب بعد رحيله منها: ادباء علموني..ادباء عرفتهم من جمع وتقديم ناهض حتر، و دراسات نقدية للكاتب موفق محادين، وكذلك المغترب الأبدي وهو مجموعة من الحوارات حققها وقدم لها الباحث احمد خريس اضافة الي كتاب الهاربون الي الحرية والذي صدر عن دار المدي في دمشق. كما وصدرت عنه عشرات الكتب والدراسات والأبحاث التي تناولت ادبه وفكره وحياته.
القدس العربي
31-12-2005