هنري فريد صعب
(لبنان)

قراءة في فينومينولوجيا السّفر لفت نظري في احدى المكتبات التي اتردد اليها عادة، كتاب عنوانه "لماذا تكتب؟"، من اصدارات "كتاب الجيب" الفرنسية في اواخر القرن الماضي. فتلقفته. وكانت لي معه جلسة مشوقة. الكتاب يضم تحقيقا من 411 صفحة مع اكثر من 400 كاتب وشاعر من مختلف انحاء العالم، يجيب عن سؤال واحد: لماذا تكتب؟ وهو سؤال، وإن بدا بسيطا في طرحه، فهو يحمل في خلفيته كل اسرار الخلق الادبي. نحن اذاً، امام وثيقة ادبية تقدم رسما ذاتياً للأدب العالمي المعاصر يُظهر لنا دخيلة كل كاتب او شاعر، حتى ولو اجاب بكلمتين او ثلاث كما حال البعض. وقد اخترت للقارىء اجوبة بعض المعروفين في العالم العربي، ليشترك معي في الاطلاع على هذه الاعترافات الممتعة، والتي لا يخلو بعضها من الغرابة، لأسماء قرأ لها وأحبها: صموئيل بيكيت (دبلن – ايرلندا).

- لا اصلح الا لذلك.

ورخي لويس بورخيس (بوينس آيرس – الارجنتين) لا اقوى على التوقف عن الكتابة. كنت دائما ادرك ان قدري هو قدر ادبي كقارىء، وكذلك ككاتب بدون تبصر. اكتب تلبية لعجالة، لضرورة داخلية. ولو كنت روبنسون كروزويه في جزيرته، او ادمون دانتيس في كونت دو مونتي – كريستو، لما كتبت. حتى سن الثلاثين، كنت اقرأ ما يكتب عني. بعد ذلك، توقفت، وعندما انشر كتابا، فان اصدقائي يعرفون ان عليهم الا يحدثوني عما كتبت. وهكذا، فأنا انشر كتابي من دون ان اعرف شيئا عن النقد، سواء اكان جيدا ام رديئا، منصفا ام ظالما. ولا حتى عن مبيع الكتاب. فهذا يهم المكتبات او دور النشر، وليس الكاتب.

وانا لا اكتب لعدد صغير او كبير من الناس. افعل ذلك فقط، عند الضرورة. ولا ابحث عن مواضيع. انتظر كي تجدني المواضيع... كما يمكنني ان استبعدها. واذا الحّت بالفعل، اكتب عندئذ كي استطيع الانتقال الى شيء آخر.
واذكر هنا هذا القول الشهير لكيبلنغ: "على المرء ان يعرف مجابهة الاخفاق والنجاح، وان يعالج هذين التضليلين بالطريقة عينها". لأنه ليس لأحد من الاخفاقات والنجاحات بمقدار ما يظن.

وانا لا اعيد قط قراءة ما كتبت. يحدث ان يسألني الناس: "ماذا تعني اذاً تلك الجملة، في تلك الحكاية؟" وأجيبهم: "لقد كتبت تلك الحكاية في حينها. ولم أُعد قراءتها بعد ذلك". انني اكتب حكاية ما في زمن محدد، ثم يأتي أناس لديهم ملء الوقت لاعادة قراءتها. وهي في الاخير تخص القارىء اكثر من كاتبها.

انه لأمر مَرَضي أظن، ان نفكر في الماضي، ان نفكر في اعياد المولد. فأنا احاول ان اعيش للمستقبل. وأن افكر في ما سأكتب، وليس في ما كتبت.

في هذا المنزل، عبثا تبحث عن كتاب لي. لن تعثر الا على كتاب مسالم عن البوذية وضعته أنا وأليما خورادو، وترجم الى اليابانية.

اني احاول ان اذود عن مكتبتي. فمن أكون لأتشبه بفولتير او بمونتاني؟
واذ ارى فجأة انه سيحدث شيء ما، اضع نفسي في موضع مناسب، وأنتظر... ويجيئني حينئذ شيء ما، قد يكون قصيدة، او حكاية، او صفحة نثر. وهذا يتكشف لي لاحقا.

وانا قلما اتدخل في ما اكتب. وبما انه ليس لي آراء محددة في الموضوع، مثلا من الناحية الاخلاقية او السياسية، فاني احاول الا ادع آرائي تتدخل في ما اكتب، وقد قال كيبلنغ: "انه يحدث لكاتب ان يكتب اسطورة، من دون ان تعطى له معرفة مغزاها. اي انه وسيط لقصة خيالية، اما قراءتها في ما بعد فمختلفة". وعليه، فان عملا ادبيا بكامله، قد يتخذ مدلولا ابعد مما قصد الكاتب، مدلولا غريبا عنه. وهذا ما يتوافق مع التصور القديم لربّات الفن، والروح القدس، او مع تصور ميتولوجيتنا المعاصرة، التي ليست جد جميلة، والتي نسميها اللاوعي.

غبريال غارثيا ماركيز) أراكاتاكا – كولومبيا(
- كي يحبني اصدقائي اكثر.
نجيب محفوظ (مصر(

- يجب ان ارجع الى الماضي لأجد الجواب. لماذا اكتب؟ اكتب للمتعة... لأرضي قوة غامضة... ولا شيء خارجيا دفعني الى هذا الفعل.
في ما بعد، طرأت اسباب جديدة تؤيد هذه الرغبة في الكتابة. الرغبة في ان اتحمل عبئا ما... ان آخذ قسطا من الرفعة... ان اثاب على عملي... أن أظهر للآخر المبادىء التي تتهيأ طوال بحث ما... وان أُقرأ بكل بساطة.
واليوم انا لا اميز بين العيش والكتابة.

توفيق الحكيم (مصر)

- ما يهمني في تاريخ حياتي ان كل فكرة كانت لي متعة. وان استوفي موضوعا ما كان همي الاوحد. لكن التضحية بكل شيء من اجل التفكير تتأتى بلا شك من شيء ما مضاد للطبيعة، عندما لا يبحث المرء الا عن اللذة والسعادة. غير اني لم اكتب الا في سبيل هدف واحد: ان اجعل القارىء يفكّر. وبعد تأليف مئة كتاب، الاحظ ان اعمالي كانت غير مجدية.
يوسف ادريس (مصر).

- اكتب لأني أحيا، واستمر في الكتابة لأني اريد ان احيا في شكل افضل.
الطيب صالح (السودان)

- اود ان اقر بأني لا اعرف بالضبط لماذا اكتب، لأني لم أشأ في الواقع أن أصبح كاتباً. غير أني أنتمي الى ثقافة تكتب تقليدياً وتحترم الكتابة. وحين كان عليّ أن أبتّ أمر دروسي الجامعية، فكّرت أن أدرس الزراعة. كان ذلك في 1948، في السودان الذي كان يتطلّع الى التحرّر من الحكم البريطاني، كما كان يعاني مشاكل مادية متعددة. عهد ذاك كان الاطباء والمهندسون قلّة قليلة. وكان السودان يعوّل كثيراً على بعض الطلبة الذين يحظون بدخول الجامعة. فأن أشاء أن اصبح كاتباً في مثل تلك الظروف، يشكّل نوعاً من إرضاء الذات غير مقبول. فقد كانت الزراعة، الطب، والتقنية، تبدو مجدية أكثر من أي شيء آخر.

لكني لاشعورياً كنت أرغب في أن اصير كاتباً؛ لأني كنت أحس منذ زمن بعيد بأني سُكبت في قالب ما: كنت كثير الانفراد، شديد التأثّر، كثير التأمل. وكنت أحب الكلمات. كنت أقرأ في نهم. وأحسّني على أفضل انسجام مع الأدب أكثر من العالم الذي أعيش فيه. وكنت أعرف ايضاً أن أعالج الكلمات ببعض السهولة. لكني لم أشأ أن أكون كاتباً. وحتى الآن، فإن الكتابة تبقى لي حصيلة توتّر بين ضغط داخلي ورغبة واعية في الهرب. لقد اكتشفت، كما كثيرون قبلي، أن الفن يُضني الحياة. وللاستجابة كلياً الى دعوته، علينا أن نعرّض أنفسنا لمصير مخيف. ولا شك أن هذا هو السبب الذي من أجله حتى الآن، أحبّ أن أؤكد أني لست كاتباً أبداً. وفي الواقع، فأنا لا أكتب بقدر ما يجب، آملاً ربما، ألا يلاحظني آلهة الفن، وأن أتمكن من متابعة طريقي في الحياة، من دون أن يسيئوا إليّ، مع محاولة التودّد اليهم من حين الى آخر، ولكن مع الاستمرار في العيش ببساطة، من دون أي حادث مؤسف.

هذه كانت نماذج من الاجوبة. وهي في معظمها تصوّر أصحابها في حيرة من أمرهم أمام هذا السؤال. فهم لا يعرفون لماذا وكيف ساروا في هذا الدرب الشاق. حتى الذين يدّعون الالتزام العقائدي أو ما شابه، جاءت أجوبتهم غامضة، أو مناقضة لكتاباتهم، وشخصيتهم الادبية، وتكاد لا تختلف عن سواها.

الواقع، أن طاقة الفن أو الطاقة الابداعية، هي زئبقية الطرح والمعالجة. إنها تشذّ عن كل تحليل أو قاعدة. كما أنها ليست وقفاً على مشيئة أو ارادة. إذ هي ليست اكتساباً أو اختصاصاً. كأن أقول اريد أن اصبح كذا وكذا. إنها قدرية لا علاقة لمالكها بها. فهو إناء لها لا أكثر، يمدّها بالماء والهواء والغذاء، كي تنظر بعينيه، وتنطق بشفتيه، وتفكّر بدماغه، وتمارس وجودها في جسده. لذا، يحار الفنان حين يُسأل، لماذا تكتب أو ترسم أو تعزف الخ... إذ كل ما يذكره أنه وجد ذاته مدفوعاً الى ذلك. حتى أن بعضهم يحاول الفرار من قبضتها، ظناً منه أنها عرض، غير مدرك أنها ملازمة له، يأتمر بأمرها، وانه ولد لتحقّق ظهوراتها بواسطته.

يحضرني هنا ما ذهب اليه رالف والدو إمرسون، أحد الكتاب الاميركيين في القرن التاسع عشر. فقد خال "أن هناك شخصاً واحداً هو مؤلف كل الكتب الموجودة في العالم. ففي صفحاتها نجد وحدة جوهرية، لا يمكننا معها نكران أنها من عمل انسان واحد كلي المعرفة". أي بمعنى آخر، أن هناك طاقة واحدة، دأبها أن تحل في أجساد متعددة، عبر القرون، كي تفرغ ما تحمله في ذاتها من صور ورؤى وأسرار، تضيق عن استنفادها ولادة واحدة لجسد واحد.

وأخال بول فاليري في هذا الاتجاه، حيث قال: "إنه يجب ألا يؤخذ تاريخ متعمق للأدب، كتاريخ لمؤلفين ولحوادث مجرى حياتهم أو مؤلفاتهم، بل كتاريخ للعقل بما هو عقل مستهلك لـ"الأدب". وهذا التاريخ يمكن أن يوضع من دون أن يذكر حتى أي اسم لكاتب واحد".

قريباً من ذلك نقرأ في قصة "الخالد" لبورخيس: "لقد ألّف هوميروس الاوديسة. ولكن على امتداد أمد لانهائي، في ظروف وتغيرات لانهائية، يكون من المستحيل الاّ تؤلَّف الأوديسة ولو لمرة واحدة. إذ لا أحد هو شخص في عينه. انسان واحد خالد هو كل البشر..."

النهار
25-11-2007