هنري فريد صعب
(لبنان)

(لبنى الأمين- البحرين) أمس، فيما كنت أقلّب صفحات مجلد “لوفيغارو ليتيرير” العائد الى أوائل الثلث الأخير من القرن العشرين، استوقفتني زاوية فرنسوا مورياك التي كان يدأب في كتابتها، وقد تصدّرتها رسالة طالب في السّوربون إليه، عرض له فيها موقف جيله من الشعر المعاصر، وموقف هذا الشعر من جيله.

قال مورياك: “رسالة طالب السوربون اليوم، أذهلتني وهزّتني. شكرني فيها على كلمتي عن فرنسيس جام.
هذه النظرة الطفلية الى العالم التي هي كل شعر جام، على حدّ قوله، غير أنّي كلّما تقدّمت في هذه الرسالة الطويلة، اكتشفتُ أن هذا الشاب يعاني قلقاً هو قلقي أيضاً، وأنّ شهادته ذات أهمية كبيرة”.

وقرأت الرسالة. وذُهلتُ بها بدوري. كأنها بنت اللحظة الحاضرة. مآخذ الطالب الجامعي على الشعر يومذاك، لا تزال هي هي في يومنا. إنها انعكاس فاضح لوضع الشعر في الوسط الطالبي والجامعي، أو الوسط الذي يُفترض أن يكون المستهلك الأكبر للأدب والفكر: سُئل مرة جان پول سارتر، من هم قرّاؤك؟ فأجاب على الفور: طلاّب الجامعات ومعلّموهم.

المطروح الآن عالمياً هو إعادة تقويم للشّعر. فالعالم يتقدّم في سرعة. بينما يعجز الشّعر عن اللحاق به. ولو راجعنا المدارس الشعرية للمسنا لديها دائماً نوعاً من التحايل العجيب للخروج من هذا العجز. وهكذا وُلدت الرومنطيقية من عجز الكلاسيكية، والرمزية من عجز الرومنطيقية، وكذلك كان شأن الدادائية فالسورياليّة. من دون ذكر لباقي الأسقاط التي كانت لا تلبث أن تموت في مهدها. وإنما تبقى دليلاً على مغالبة ذلك العجز.

همُّ الشعر منذ نشأته، البحث عن عرائس الكلام. لكن قرانه بها كان دائماً قران متعة، فهو يمتصّها كنحلة مجتهدة، ثم يتركها لمصيرها. الشعر مع ولعه بالكلمة، لا يطيق عشرتها طويلاً، كما عرفها في أوّل لذّة جماع. إنّه في حاجة لجوجة الى ابتكار عرائس أخرى من أجل لعب أدوار أخرى على خشبة العصر. وإلاّ فقدَ عنصر المفاجأة قوته الدائم. وهذا ما نَشِطت المذاهب الشعرية في تجسيده كجماعة أو أفراد. إلاّ أنّ الشعر منذ أكثر من قرن تقريباً لا يزال يدور في حلقة الثالوث الشعري: بودلير، رامبو، مالارميه. هذا الثالوث الفرنسي الذي تدين له الحداثة العالمية بلا مبالغة، وباعتراف النقّاد أجمع. وما تلك المذاهب غير تنويعات له. تماماً كما يقال، إنّ كلّ الفلسفة في أفلاطون وما بعده مشيد على أسسه.

قلت في غير مكان، هل يمكن أن نستمر في دوار هذا الثالوث وأنساله، في عصر التكنولوجيا المتسارع الذي نعيشه؟ ماذا تهمّ مثلا هلوسات “إشراقات” رامبو وذرّيّاته إنسان اليوم؟ ألم يحن بعد لأفعى الشعر الحديث أن تسلخ جلدها؟ كثيرون من مثقفي العصر باتوا يطرحون هذه الأسئلة. وعلى المعنيين أن يخرجوا من هذه الدائرة السحرية.

هل من قتلة جدد؟

يقولون مات الشعر. الشعر لا يموت. فكما استطاع مبدعون سابقون أن يبعثوه، كلما أُعلن دفنه، لن يُعدم اليوم من يبعثه مجدداً. لكن الموت الحقيقي في الواقع هو الدوران المستديم حول محاور حداثته نفسها. فهل من قتَلة جدد لأولئك الآباء الحداثويين الذين سبق لهم أن قتلوا بدورهم أباءهم في نجاح باهر لا نزال مأخوذين به.

إنّ هذا العالم ذا الدماغ الالكتروني، وإن يكنْ بارداً، هو العالم الذي أُعطيناه، والمجال الوحيد لحياتنا واختبارنا. فهل يحقّ لنا ونحن نعرف ذلك، أن نستبدله بالكلمة الشعرية ذاتها التي باتت تضيق عن أشكال هذا الاختبار وهذه الحياة؟ إن قراءة الشعر اليوم ليست، وهنا المأساة، غير استبدال ما غدا ملكنا الوحيد، بما لا وجود له.

إنّ اللاشخصية المغِمّة في التجهيزات الحديثة أحدثت انفصاماً لا يُجبر بين عالم الأشياء والكائنات والكلمة الشعرية المستعملة الى الآن. فكلّ جهد هذه الكلمة، هو نذرها الوحيد للتجسّد في ضياعها فوق الجمود النهائي للاشياء والكائنات مخلّفة إيّاها في موتها. هذا الشعر الحلولي أصبح برغمه متعالياً نهائياً. فالنّقاوة، أقلّ من أيّ عهد مضى، ما عادت من همّ هذا العالم، عالمنا، كما هو في حضوره وصيرورته. إن الكلمة الشعرية المعروفة حتى الآن، لا تستطيع دِراكَه ولا إثارته. لم يبقَ لها غير نسيانه. لكنها إذ تتركه في جموده تهرب منّا بعيداً. لعلّ هذه الكلمة الشعرية، الثمرة المباشرة للقلب والمخيّلة قد أوجدت زمانها. ولعلّ على قدر الأزمان التي بدأت في هذا العالم اللايُطاق، يولد نوع جديد من الشعراء يختلف جذرياً عن السابق، فيقبل انعكاسات أيّ تكيّف جديد، ويتلاءم مع الأشكال والنماذج الجديدة.

الرسالة – الشهادة

لنقرأ الآن معاً شهادة الطالب الجامعي:
“في عالمنا الحاضر كما هو، ما عادت تمكننا قراءة فرنسيس جام، ولا أيّ شاعر معاصر. وهو أمر كان جدّ مختلف لسنين خلت. ففي هذه السنين الأخيرة نخال كأنّ كل شيء ترسّخ نهائياً في سرعة شيطانية في اتجاه مادية عمياء وتدنيس نظامي.

“ما يعنينا الآن هو عالم آخر يبدو فيه الشعر رسالة ميتة، وحتى، وبالأخصّ، غير ممارس، لأن الزمن حيث كانت تحيا الأشياء جامدة صامتة، حيث كلمتا قلب ونفس كان لهما معنى، وحيث پروست ومورياك وريلكه كانوا ممكنين – ذلك الزّمن ولّى. حتى الشعراء المحدثون أمثال پيار جان جو، پول إيلوار، رينيه شار، اندريه بريتون، أصبحوا ينتمون الى عالم بائد. كذلك المتأخرون أمثال إي بونفوا، وجان كلود رينار، الذين يتحدثون عن الأشياء مجازاً أو بغير مجاز، كالشجرة، العصفور، النهر، النار، الحب، الحضور والقلب، هذه التي تكاد تنعدم في حياتنا اليومية، وقلّما تشكل موادّ اختبار. في حياتنا لا وجود للأشياء والأشخاص. ولكن لموادّ ميتة وكائنات مولودة – ميتة.

“ذلك الزمن ولّى، حيث الكلمة الشعرية كانت تهاجم عالماً غائصاً في الأوحال أو تتحدّث عن إحياء للحقائق المتفسخة، حقائق، رغم تفسّخها، كانت لا تزال موجودة. فقبلَ سنين، كان يمكننا العيش مع الأشجار، الماء، الرّيح والأشخاص الذين حضورهم الحقيقي يطيق أن يكون مركز نظام تجد فيه الحياة معنى ومذاقاً. كان القلب لا يزال يجرؤ على الكلام. فأنا اليوم، حين أقرأ شاعراً مثل سان جون پيرس أو رينيه شار أحس في ذاتي بانبعاث حقائق مندثرة عليّ تذكّرها لكوني عرفتها من زمان في عالم آخر، ولا علاقة لها بحياتي الحاضرة، فكيف بشاعر مثل فرنسيس جام، وحتى مثل هؤلاء المتأخرين أمثال جان كلود رينار أو إي بونفوا؟ يخيل إليّ عند قراءتهم أننا نفرّ الى نقاوة عالم بعيدة عن أي نقاوة في حياتنا الحاضرة أو الآتية. خير ما في الشعر الحديث يجهد في البحث عن نقاوة غير نقاوتنا. فأن نشغف بعد بطبيعة الشعر المعاصر الذي لا يكذب، والذي يشغله الحيّز الإنساني وحده في عمق، أشبه ما يكون بالانتحار أو بنوع من الشلل ويعني في أي حال الالتزام بعزلة فائقة. حالما نطلّ على الخارج، كل ما يوجد إطلاقاً أو يكون المهمّ في الحياة، يساهم متحداً في إطلاعنا على مبلغ هذرنا حين نكلف بالأشياء والمشاعر والحقائق التي بطلت نهائياً.

“أنا واحد من شباب العصر الذين يكثر الكلام عليهم اليوم. إن المتمرّدين الحقيقيين، متمرّدي الوجود بينهم، قلّة ضئيلة. أولئك الذين يتألمون حقاً ويعون حقاً العدم الذي نُلزَم بأن نعيشه.

“هناك بالفعل إلزام. الاختيار لا يُسمَح به. هناك ثورات كثيرة أعمق للغاية وأوعى من المحاولات التي حصلت، لكن القيام بها مستحيل من الآن فصاعداً. ان التكيف الحاضر بثقله الفائق ناشط في حركة لا تعرف النكوص. مهما يكن فإن أكثرية الطلبة لا تشكّل في نظري إنسانية ممتازة. فالاختناق يأخذ بهم والغموض واللاشعور. هم أشباه في التكيّف، في رخاء القناعة بالشّراسات واعتلال الشعور الدنيوي الراهن. وإذا ما جرؤ، حتى من هم بين المجاهدين العاملين على تقويم ثوري للإنسان والعالم على التفوه ببعض كلمات كالطفولة، النّفس، العزلة، الحبّ، - من دون أن نذكر الله – ألفوا أنفسهم على الفور أشبه بكائنات غريبة تعود الى إنسانية ما قبل التاريخ.

“عملي ينحصر في دراسة جوبوسكيه. وها أنا إذ أختلي في غرفتي الحديثة، وأفتح كتب هذا الشاعر الممتاز المنسية، يتملكني إحساس أحياناً بأنّ التأمّل مع شاعر في اللغة، في الطفولة، في الحب، هو نوع من الانخداع، في معنى أنّ التأمّل في جمال الأشياء الحقيقية هو عبث وهرب أثيم داخل حقائق عالم ميت (...)

“إنّي، حين أترك آثار الشعراء لتناول الطعام مع [شباب العصر] وسط كل تلك التجهيزات العملية التي ستصبح ركيزة المستقبل القريب (تحقق ذلك)، أحسّني قمت بسفر طويل وغريب، كأنّي قادم من كوكب آخر. يقول ريلكه: “ما جدوى الشعراء في زمن البؤس؟” وها أنا أطرحه عليك، لأننا لا نوجد في بؤس جزئي، ولكن في شبه له شامل يتفاقم يوماً بعد يوم (...).

“المقدّس مات في القلوب. ولذا قبل أيّ شيء نموت تدريجاً كلّ يوم ويقيناً أنّ هذا التدنيس متناسب طرداً مع مستوى إنجازات الحلول المعاصرة. إنّ كثراً يحلمون بمدينة الفراغ في المستقبل، الفراغ الذي لا يقوى من الآن على العيش ساعة من العزلة. وبعد، لعلّ قلب الانسان يتغيّر مع العالم، لكثرة التكيّف، ناسياً عطشه وجوعه ورغباته القديمة؟”.

***

وعليه، لا يقولنّ لي أحدٌ أنّ هذه شهادة طالب في إحدى جامعات الغرب. وهمومهم هناك غير همومنا. أظن بعد انفتاح أصقاع العالم بأسرها، بعضها على بعض، وتحوّلها الى قرية هائلة، لا تفوت أيّ فرد فيها شاردة ولا واردة، هل يصحّ الحديث عن مناعة مجتمع ما؟

قد نخالف هذا الطالب الجامعي في بعض النّقاط، إنّما لا يسعنا إلاّ أن نضمّ قلقنا الى قلقه كما فعل مورياك.
ولنكفّ بعدُ عن نعي الشّعر. فسقوط أوراق الخريف لا تعني موت الربيع. ومشكلة الشّعر هي مع حداثته الخريفيّة التي ملكت طويلاً حتى عجّزت. وإن إعادة النّظر في مفهومها الشائخ، كفيلٌ بإعادة ربيع الشعر، أي في اختصار، المطلوب فقط تحديث الحداثة.

الأربعاء 17 تشرين الثاني 2004