هنري فريد صعب
(لبنان)

(CHRISTINAS )غاية السّفر الأولى الوصول. لذا يمتصّ الوصول معظم رحيق السّفر. لكنّ السفر في الجوهر عُريّ خالصٌ يستدفئ بأجنحة الزّمان. وهذا بدوره عُرْيٌ آخر يستدفئ بحوصلة المكان. لكن حوصلة المكان في حاجة دائمة إلى عري الزمان. وهذا العري الزماني مرتبط بجوهر السفر ومتّسقٌ معه. لكنّ السّفر من جهته كارهٌ له ويحاول التملُّص منه سريعاً بقدر ما يستطيع، همُّه الأول والأخير: متعة المكان.
لذا كان على السّفر كي يتغلَّب على الزّمان أن يقهر أوّلاً المسافة. ولجأ إلى وسائل شتى حتى وصل إلى سرعة الصاروخ. وبقيت المسافة عصيّةً عليه. إذ لا يمكن إلغاؤها تماماً، إلا بالنسبة إلى روح طاهرة أو من طريق التعاطف والصداقة والحب. فالمرء لا يكون حيث يقيم جسده بل حيث من يحبّ. وفي حالات "عجائبية" فقط يُعطى للمرء أن يوجد في غير مكان. مما يلغي لديه ضرورة السفر. فالقديس انطونيوس البادواني، يقال، كان يدافع عن والده المتّهم ظلماً في مسقطه ليشبونة، فيما كان موجوداً في بادوفا مدينته المختارة. وثمّة كائنات خارج قانون الزّمان والمكان والمسافة. فالملاك لدى القديس توما الاكويني يمكنه أن ينتقل من مكان إلى آخر من دون أن يُحدث "عبوراً".
السفر إذن في منشأه وغايته، إلغاء: إلغاء الزّمان والمسافة، يليه إلغاء الذات، ففي إنجازه موته، أي عند اتصاله بالمكان. ومثله مثل الفعل الجنسي أو النّار التي تأكل ذاتها عند انتهاء وليمتها. وهو نوعان: عيني ومجرّد. وكلاهما أنواع. وأسماها السّفر المتعمّد. وميزته أن ينكر ذاته كجوهر.
إنما هناك مقاومة للتضحية يقوم بها الانتقال في السفر: ال"هنا" يرغب دائماً في الاستيلاء على ال"هناك". الصفة الانتقالية معرّضة دائماً لهجوم الرّغبة في البقاء بعنف. الحبُّ العابر معرّضٌ لهجوم النّوستالجيا الدائمة. فيما المسافر عبر صحراء شاسعة أو في طائرة أو سفينة بعيدتي المدى، يشعر بالاستقرار. إنه لا يسافر. وهنا مفارقة السفر: مظهرٌ ل"الصيرورة" متأمَّلٌ ومُرادٌ في سبيل "الموجود"، ولا يوجد إلا من طريق افتراضٍ لهذا "الموجود" ينزع إلى أن يتحوّل إلى "موجودٍ" بعينه. مسافر للتجارة مثلاً، يتمسّك بعاداته. يبحث عن الغرفة نفسها في الفنادق نفسها، وعن المكان نفسه في المطاعم نفسها. وهكذا قد يصبح الرحّالة مقيماً برغمه. انه السّفر الذي يُعدِم السّفر.
وتلك الميزة المتعمدة تجعل من السفر أكثر من فعل انتقال. هل يمكن القول أن الحيوانات الزاحفة والطائرة أو الداّبة على أربع أو المائية، تسافر عن عمد؟
السفر المتعمّد ميزة إنسانية. وما بقي من سكّان الأرض ينتقل بدافع الجوعَيْن الجنسي والمَعِدي والحرّ والبرد. ولا أعني أن الإنسان في منجىً من تلك الضرورات الثلاث. فأهداف السفر في الواقع لديه، لا تُحصر. وتتمظهر بحسب الغرائز والمشاعر التي تتقاذفه، بدءاً من اللاقصدية حتى الأقلّ قصديّة فالأكثر. أولاً، سفر الضرورة. وهو من أقدم الأسفار. ويتقاسمه الإنسان مع الحيوان منذ وجوده.
ثانياً، السفر القسري. وتمارسه عادةً المجتمعات الساديّة أو الديكتاتورية وأحياناً المازوشية. ومن أنواعه: الإبعاد أو  التّرحيل مع حَظْر العودة، أو السّوق إلى معتقلات جحيمية نجد أمثلةً لها في بعض مجتمعاتنا العربيّة. وفي روايتي سولجنتسين "أرخيبل غولاغ" بأجزائها الثلاثة الضخمة و"الدائرة الأولى"، سِجلٌ وافٍ لعذاباتها الحمراء.
وأيضاً النفي الإجباري أو الاختياري تحاشياً للقتل أو استباقاً للحكم بالنفي خوفاً من المخبّأ (كشأن أرسطو مثلاً)، مع الأمل في العودة (كشأن دانتي وأوفيد).
والهجرة. وهي الأكثر تعمّداً. حيث يفضّل المرء الرحيل على العيش في البؤس أو القهر. وبطلها ينقل وطنه معه. ففي أميركا مثلاً، نرى أحياء صينيّة ويابانيّة ولبنانيّة... بعاداتها ومعالمها وأسمائها المستنسخة. وقديماً قال الشاعر العربي: وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى...
ولعلّ اللبنانيين هم الأكثر هجرةً بين الشعوب، فالمهاجرون منهم يشكّلون اليوم ثلاثة أرباع المقيمين، وذلك من غرائب الديموغرافيا.
وتلفت في هذا النفي الطوعي العلاقة بين الظاهرة الإنسانية وفِعل الكتابة. فالمهاجر أو المنفي إرادياً يُلفي نفسه حين يحطّ قدمه على أرض غريبة محاطاً بأناس غرباء عنه جنساً ولغةً وتواصلاً، فيُمنى للوهلة الأولى بضيق وعزلة لا يلبثان أن يزولا لتخلفهما نوستالجيا ممضّة. ولا يجد خير معزّ له أو متنفَّس لأحاسيسه المستثارة، غير الأدب.
وأن يكتب المرء، يعني أن يضع نفسه في موقف المراقب لفكره الخاص، والأوبة بهذا الفكر إلى رحمه. فالنفي الطوعي أو الإرادي يضع من يعاينه في مواجهة انوجاد جديد عليه أن يطابقه مع انوجاد سابق. وفي الانوجادين، أن المرء الذي ينفي نفسه مثل المرء الذي يكتب، يتعرّض لازدواجية الذات أو الفكر. المنفى، إذن، فعلٌ إنساني وفكري معاً. وذلك ما يسبغ على الكلمة الغنى والالتباس، حتى لغوياً.
فالسّفْر (بتسكين الفاء) لغةً: الكتابة. من سَفَر الكتاب أي كتبه. والسَّفَرة: الكتبة، جمع سافِر: كاتب. ذلك أن الكتابة تَسْفِر (أي تكشف) عمّا يُحتاج إليه من الشيء المكتوب (معجم مقاييس اللغة). وقال ابن جنّي (عالم بالنحو): "ينبغي أن يكون السَّفْر (بمعنى الكتابة) من قولهم سفَرت البيتَ أي كنسته. فكأنّه من كنست الكتابة من الطّرس". وقال الزجّاج (عالم أيضاً بالنحو واللغة): "قيل للكاتب سافِر، وللكتاب سِفْر، لأن معناه أنه يبيّن الشيء ويوضحه". وقال الأزهري في معجمه "التهذيب في اللغة": " سُمّي المسافر مسافراً لكشفه قناع الكنّ (أي السّتر) عن وجهه، ومنازل الحضَر عن مكانه، ومنزل الخفض عن نفسه، وبروزه إلى الأرض الفضاء. وسُمّي السّفَر سفَراً لأنه يَسفِر عن وجوه المسافرين وأخلاقهم فيظهر ما كان خافياً منها".
والأدب العربي مدينٌ لأولي النفي الطوعي بالكثير من انطلاقته الحداثية. فهؤلاء "السَّفَرة" الأفذاذ بثّوا فيه دماً جديداً لا يمكن نكرانه. ولأعلامه كجبران ونعيمة وأبي ماضي والريحاني والقروي وعريضة والمعلوفين (فوزي وشفيق) تأثيرٌ كبير على مدى القرن العشرين ولا يزال، وخاصّةً جبران الذي يُعدّ من الجذور العربية الأولى لما يُسمّى "قصيدة النثر" ("دمعة وابتسامة" و"النبي").
"أنا غريبٌ في هذا العالم (يقول جبران كشاعر أحسّ أنّه مقتلعٌ وجودياً، وكانسان حياتياً). أنا غريب وفي الغربة وحدةٌ قاسية ووحدةٌ موجعة غير أنها تجعلني أفكّر في وطنٍ سحري لا أعرفه (...) أنا غريبٌ وقد جبت مشارق الأرض ومغاربها فلم أجد مسقط رأسي ولا لقيت من يعرفني ولا من يسمع بي (...) أنا شاعر أنظم ما تنثره الحياة وانثر ما تنظمه. ولهذا أنا غريب وسأظلّ غريباً حتى تخطفني المنايا وتحملني إلى وطني" ("الشاعر: العواصف").
وقد يكون فرانز كافكا الأبرع تعبيراً عن كون الشعور بالنفي متعلّق بالوضع البشري بمعزلٍ عن أي انتقال. فنحن في مفهومه "خارج الحياة". في روايته "القصر" مثلاً يطل البطل "ك" إلى قرية عند أسفل تل يرتفع فوقه "قصر"، بناءً على دعوةٍ تلقّاها كمسّاح أراض، كما يدّعي، من سادة هذا القصر. ولن هذه القرية بقصرها وبما فيها وما يحيط بها تظلّ ضبابية: الأرض بكاملها في الواقع ربما، هي مسرح منفاه الرمزّي.
وتقرب من ذلك، دينياً، النظرة المسيحية إلى العالم. فالإنسان عندها منفيٌّ على الأرض بعد طرده من الفردوس. وهو يتقبّل هذا النفي الموقّت بكل طيبة خاطر، لأنه هبةٌ من الله، آملاً في أن يُستدعى إلى جواره كي يحيا أبدا في وطنه الحقيقي.
ثالثاً، السفر العدواني. وهو أنواع: سياسي، اقتصادي أو تجاري، دعائي عقائدي، وعسكري. ومثاله حديثاً غزوة اليانكي لشعب العراق التي تستخفي وراء أقنعة هذا السّفر جميعاً. ولن أضيف. فالتاريخ متخمٌ بهذه الأقنعة وموهَن.
لكن ما تجب الإشارة إليه، أن هذا السفر هو أشدّ الأسفار ضرراً وخطراً. وأنواعه تتلاقح تناوباً. فقد يقفز من نوع إلى آخر. وقد يطول أو يقصر. وفي كل الحالات تظلّ آثاره شاهدة على كوابيسه، إلا في الندرة، ربّما يكون له أثرٌ طيّب.
رابعاً، سفر الفضولية. وهو توأم المغامرة. وأفضاله على البشريّة لا يمكن أن تُجحد. إلاْ أنّه أحياناً قد ينقلب عدوانياً. فاكتشاف كولومبس لأميركا كان إفناء للهنود الحمر السكّان الأصليّين، وتناهبت الاكتشافات الأوروبية خيرات القارة السوداء وإنسانها وحيوانها.
وفي إطاره، السفر إلى الكواكب أو إلى أعماق الأرض والمحيطات.
خامساً، السفر للسّفر. وقد أطراه بودلير في الأبيات الآتية من قصيدة طويلة عنوانها "السفر":

"ولكن المسافرين الحقيقيين وحدهم أولئك الذين يسافرون
من أجل السّفر، بقلوب خفيفة كالبالونات،
لا يتحوّلون أبداً عن أقدارهم،
ومن دون أن يعرفوا لماذا، يقولون دائماً: لنرحل!
أولئك أولي الرّغبات الغمام،
الحالمون، كمثل مجنّد مدفعيّة،
بلذائذ شاسعة، متغيّرة، ومجهولة،
لم يعرف العقل البشري لها اسماً بعد!"

سادساً، سفر الحجّ. وهنا يحضرني موقف لويس ماسينيون عندما سُئل: لماذا نذهب إلى القدس ما دام الله في كل مكان؟ فأجاب: "إن المكان لا يفرض الصلاة ولكن يلائمها. وإذا كان الحاجّ ينفي ذاته فلكي يهتدي إلى موطن. ومن طريق "تركيب للأمكنة" يتداخل التاريخي في الخالد".
ورمزياً، الحجّ هو عودة إلى المحور، إلى سُرَّة العالم. وللبشرية محاور مقدّسة بحسب معتقداتها. كل مكان مقدّس لديها هو بمقام نقطة التقاء الأرض بالسماء. وقد يكون جبلاً أو تلاً، أو شجرة، أو هرماً، أو حجراً، أو هيكلاً، وغير ذلك. في الإسلام مثلاً، الحجر الأسود في مكّة المكرّمة، يُدعى يمين الله. وكل من أوتي له أن يستلمه يشهد له يوم القيامة. وجبل عرفة أو عرفات، وحيث لا يتمّ حجُّ المسلم إلاّ بالوقوف به. وجبل الجلجلة حيث صُلب السيد المسيح.  وجبل الزيتون الذي يركّز لوقا كل انتباهه عليه، لكونه هدفَ الصعود إلى أورشليم (لوقا :19 29)، ومنه وفقَ التقاليد الرؤيوية (زكريّا 14/3-4) ينطلق الرب ليغزو العالم.
تلك أبرز الأسفار العينية. أما المجرّدة، فنوعان: روحي وأدبي.

  1. روحياً، كل رتبةٍ طقسية لتأهيل منضمٍّ إلى عقيدة، هي تجاوزية، بدءاً من الوثنية إلى يومنا. فالمعمودية مثلاً، في المسيحية، هي عبور من ظلمات الخطيئة إلى نور المسيح (أفسس :5 8-14). وبعض التعاليم يذهب إلى اعتبار عبور نوح مياه الطوفان، إنباءً بعبور المسيحي مياه المعمودية، عبوراً محرّراً بفضل قيامة المسيح (معجم اللاهوت الكتابي).
    وفي الصوفيّة، عندما ينتمي المريد إلى "الطريقة" (وهي مجموعة من القواعد والرسوم التي يفرضها الشيوخ على مريديهم) يبدأ ما يسمّونه "السّفر". وهو يتألف من جُملة مقامات على السالك أن يتحقق بها، ولا ينتقل من مقام إلى آخر يليه حتى يصل إلى درجة الكمال فيه (اللُّمَع لأبي نصر السرّاج الطوسي).
    وفي مختلف الحضارات تقريباً، نجد "المركب المأتمي" لنقل الميت إلى العالم الآخر، والمركب قديماً هو أداة السّفر الأولى بامتياز. وبحسب "كتاب الموتى" للمصريّين القدماء، كان يُنعت هذا المركب باسم اوزيريس، لأن الميت يتّحد بأوزيريس مع اتحاده أيضاً بالشمس (رع) حيث غبطته القصوى. وإذ ذاك يصبح عبور المركب مماثلاً رمزياً لعبور (رع) المحيط السماوي.
    وذلك ما حمل غاستون باشلار في كتابه عن "الماء" على التساؤل عما إذا لم يكن الموت أصلاً أوّل ملاّح، ولم تكن "عقدة قارون - نوتي الجحيم" في أُسِّ كل مغامرة بحرية. 
  2.  وأدبياً، يقدم لنا الأدب العالمي في مجال السّفر، أعمالاً خالدة، أذكر منها "رسالة الغفران" للمعري. وتدور حوادثها بين موقف الحشر والجنّة والجحيم. و"الكوميديا الإلهية" لدانتي بين الجحيم والمطر والفردوس. وملحمة جلغامش في رحلته بحثاً عن نبتة الخلود. وأسفار السندباد البحري الشهير بأخياره الأسطورية في ألف ليلة وليلة. ورحلة ابن بطوطة. ورحلة ابن جُبَير. ورحلة السّيمورغ في "منطق الطّير" لفريد الدّين العطّار. وكتاب الرحّالة ماركو بولو. والأوديسة لهوميروس. والأنيادة لفيرجيليوس  الذي ضمّنها رحلةً إلى الجحيم أيضاً في نشيدها السادس. وأسفار غليفر لجوناثان سويفت. ورحلة الشرق لجيرار دو نرفال. وأسفار تشايلد هارولد لبايرون. و"أليس في بلاد العجائب" للويس كارول. وروايات جول فيرن المبنية في ذكاء علمي خيالي سبق انجازات هذا العصر بأعوام عديدة في غزو الفضاء وأعماق الأرض والبحار...
    وذلك كله قليل من كثير. ولم أبغ منه، قلّ أو كثر، القبض على ماهيّة السفر، وهي منيعة، بل متعة السّفر إلى تلك الماهيّة. ولعلّ أمتع الأسفار ما يقوم به المرء داخل ذاته.

النهار
السبت 10 أيار 2003


إقرإ ايضاً: