أحمد العمراوي
(المغرب)

Elamraoui-1@iam.net.ma

الألم، الأمل، الشعر، الكتابة: تجميع لألفاظ لغوية في حالات إنسانية داخل نقطة ضوئية نونية الدوران، تنفتح نصف فتحة للأعلى أملا، وتنزل هاته النقطة في الوسط ألما. أكثر المناطق أملا هي أكثرها إيلاما. العضال يُشقي من العضال كما يقول الشاعر، واللحظات المتطايرة هي ما ينسكب على اللغة ويفيض شعرا فتنشأ القصيدة. كيف نفرق بين شعر الألم وألم الشعر؟ وكيف ينشأ الأمل داخل كل هذا ؟
الشعر حالة فردية بصيغة الجمع. والألم كذلك. يتلون كل منهما تبعا لتلونات منطقة الظلمة في ذات الفرد. منطقة الفراغ ترتج بالألم - الذي قد يكون لذيذا حسب الظروف ومولداتها - في ذات المبدع، وقد يؤدي ذلك إلى الاستعصاء على الفهم مؤقتا. هذا هم الإبداع والفن والخلق بكل أصنافه، وهو في الشعر والتشكيل أدَقُّ لكون هذين الصنفين ينبعان من نفس المنطقة المظلمة التي فتح فيها الصياد بطن الجدة المظلم، وعوضه بحجارة ثقيلة وازنة تعوض الحلم بالأرض، وسيتكرر ذلك المشهد في الزمان والمكان كلما استمرت العناصر المشكلة لوجودها: [الطفلة - الجدة - الذئب - الصياد - البطن - الحجارة - الظلمة - الفراغ ...]. ومع التأويل يأتي الشعر.

الألم غربة، والشعر كذلك، كل منهما يحتاج إلى الخروج بوحا أو نصا وإلا وقع الانتكاس والاكتئاب.تحرر الذات من ظلها مؤقتا يعطي شعرا، والألم هو الخيط الرفيع الذي يتحول أملا، أو رجاء مؤقتا للبحث عن توازن لقلق يخلخل يقينه بظن لا يخبو إلا ليظهر كالظل، كالطفل الباحث عن أوليته الشعرية.

هل الشاعر شخص فوق العادة تبعا لهذا بما أنه من المفروض أن يتألم أكثر من الآخرين ؟
حين تساءل فرويد سؤاله العميق: من أين يأتي الشعر ؟ فإنه قصد ولاشك لحظة الخروج (خروج القصيدة ) في ارتباطها بمختلف المهيجات التي يمكن ربطها بالتصعيد العاطفي Sublimation)). الألم يؤدي إلى التصعيد العاطفي. وقد يؤدي إلى مجيء الشعر أو ولادة الشاعر حين تتوفر عناصر أخرى أهمها اللغة. إلا أن المبدعين حين يمتلكون اللغة والتصعيد، ينشئون هوة بينهم وبين الآخرين "والمبدعون أنفسهم يتلذذون بهذه الهوة التي تفصل بينهم وبين الناس الآخرين (العاديين) ويؤكدون لنا دائما أن كل إنسان يحتفظ بشاعر داخله وان موت الشاعر لن يتم إلا بموت آخر إنسان في هذا الكون" (1).

المبدع نفسه إذن لا يستطيع - أو لا يريد - أن يعطي جوابا عن هذا السؤال: من أين يأتي الشعر؟. أو لا يستطيع أن يكون مقنعا على الأقل. وولادة الفن الشعري لو تستطيع أن تكشف فينا نشاطا موازيا لنشاط الشاعر لفهمنا ذلك. ولكن هذا غير ممكن، فالشاعر يباعد عادة بينه وبين الأشياء كما يرى فرويد ومدارس نفسية أخرى أتت بعده. لنبحث عن الجواب في مكان آخر وبصيغة أخرى أقرب إلى الشعر واستنادا إلى عناصر متعددة بالإضافة إلى هذا الجانب النفسي في تحليل الشاعر والبحث عن طريقة الخروج - طريقة ولادة القصيدة - نقصد ما يعرف بالألم.

الشعر حلم متحرك، حين يرتبط بالألم يركب الشاعر حجرا ملتهبا قد يعصف بالجسد فيذيبه أو يقوده إلى منطقة النسيان، أو قد يوقف الصوت لا امتداد هذا الصوت، لكون موت الشاعر هو حياة لشعره، نذكر هنا من العرب المحدثين: بدر شاكر السياب، نجيب سرور، ومن المغرب أحمد بركات، عبد الله راجع، أحمد المجاطي وكل الآخرين.ونذكر من غير العرب: أرثور رامبو، وأنتونان آرتو، فالألم يؤدي إلى التصعيد النفسي، والتصعيد يولد الإبداع فتأتي القصيدة منشورة على جسد الأشياء وانطلاقا منها، عاصفة مسترسلة عصية على الإيقاف. وقد تأتي ومضة برقية في توهج حار بنبه لحظة الانخطاف التي يتناسى فيها الجسد ألمه.

في لحظة الانخطاف يتعانق الضدان في متعة أبدية هي أصل اللذة، فتخرج الآه متألمة من هذه المتعة التي هي نفسها لحظة القصيدة المؤدية إلى الشعر. لحظة إبداع خطي تخطيطي أساسه الشعري هو متخيل الحلم القادم من منطقة الفراغ، الباحث عن الامتلاء وعن الثمالة، عن السكر باللغة وفيها، لتعويض مسارات اليومي والهامشي بالمتخيل .

في فراغ مؤلم ومتألم يكتسح جسد المبدع فضاء المكان الصغير و يكتسح جسد الكون المكان الكبير. فامسك قلمك واترك الريح تهدهد أصابع الألم لعل شيئا ما يهدأ في داخلك المريض حبا للغة والريشة، للشكل والتشكيل. يد قد يعجز المبدع عن التحكم في حركتها ساعة البدء الآتية من طفولة لا يستطيع التأويل أن يلامسها إلا جانبا.

الألم والفراغ أو فضاء الألم:

"هناك فضاء فارغ في داخلي لا أستطيع أبدا ملأه " (2). هكذا عبرت " كورت كجار" Ruth Kjâr . وهي امرأة غنية جميلة، ذكية تزين غرفتها بلوحات فنية جميلة، لا تحتاج ماديا إلى أي شيء. ولكن الفراغ بداخلها لا ينتهي. كثيرة السفر ولا يعوزها شيء. ستتزوج من شخص غني أخوه كان رساما معروفا بالبلد . وجدران منزلها مزينة بلوحات عديدة هامة من بينها لوحة لهذا الرسام الشهير. في رأس سنة ما سيأخذ الرسام لوحة كانت معلقة بفناء البيت، كان قد أعارها لأخيه وزوجته. سيخلف هذا الأخذ فراغا يشبه بطريقة ما فراغ "روت كجار" الداخلي، فراغ في الحائط ( الخارج ) وفراغ في المرأة ( الداخل ). والحائط فارغا سيؤثر هذا على جمالية المنزل رغم كل اللوحات الأخرى. فكر الزوجان في ملء هذا الفراغ ولكنهما لم يجدا لوحة مناسبة تروق لروت. مرة وهما جالسان أطلقت روت ابتسامة أثارت انتباه الزوج. "ما رأيك أن أرسم لوحة بنفسي على هذا المكان الفارغ في الحائط" قالت الزوجة. وافق الزوج. اشترت روت كجار لوازم الرسم ووقفت أمام الحائط. تخطيط وتفكير ورسم. ثم تَمَّ استدعاء الصهر الرسام لإبداء الرأي وتقييم العمل. " هل تعتقدين أنني سأصدق أنك أنت التي قمت برسم هذا الحائط ؟ هذه اللوحة رسمت من طرف فنان محترف علق الرسام. ولكن من يكون هذا الشيطان الذي لا أعرفه ؟ " . اعتقدت روت أنه يتهكم عليها ولذا انصرفت غاضبة.

لم يكن حلما ما قامت به "روت" ولذا لم تنم كثيرا تلك الليلة. هي مشتعلة ملتهبة وسعيدة لأول مرة سعادة حقيقية. وعليها أن تواصل، فلا مجال للتراجع الآن. أصبحت رسامة تعرض لوحاتها على نقاد الفن التشكيلي الذين كانوا يستحسنون عملها.

لكي نفهم حالة هذه الرسامة علينا أن نعرف ماذا رسمت روت. باستثناء لوحة تشمل أزهارا، لم ترسم سوى وجوه شخصيات مختلفة. رسمت صورة أختها الصغرى مرتين. ثم لوحة لامرأة مسنة وأخرى لأمها. يتبين من وصف "كارين ميكياعجوزا وقدتها ما يلي: " لا يمكن لروت أن تتوقف الآن.اللوحة الآتية تمثل امرأة عجوزا وقد ظهر عليها الإحباط بفعل السنين. جلدها منكمش. شعرها أبيض. عيناها المتعبتان مرعوبتان. وكأنهما تقولان: " لا تقلقوا علي، لقد أوشك زمني على الانقضاء ". اللوحة الأخيرة ستبين أم روت إرلندية تعيش بكندا. صلبة واقفة. متحدية لا زال أمامها الكثير لتفعله.

" لقد امتلأ الفضاء الفارغ (3) " وعوض الإبداع الألم القديم الجديد.

محاولة السيطرة على الألم إذن، تتم بالإمساك بخيط القلم رسما أو شعرا. تعرية واختراق لهذا الظلام، وملء لفراغات قد يتورط فيها المتلقي لكونه سيشارك في فك خيوط الظلمة بالتأويل. وحالة " كجار" هي جزء من حالة النساء بل ومن حالتنا جميعا
فهم الفراغ أدى إلى ملء هذه المساحة الفارغة التي أتصور أنها مظلمة كظلمة بطن الجدة. رحم سيولد متعة بعد الفهم. هذا ما حصل بالقلم، بالتشكيل. فهل يمكن إعارته إلى الشعر ؟ من الواضح أن العلاقة بين الشعر والتشكيل هي علاقة بين يد ويد. يد الشاعر ويد التشكيلي. الخروج الأول للوحة والخروج الأول للقصيدة يأتيان من رحم واحد وحلم واحد بهدف الملء.

الحالم لا يدرك أنه يحلم لحظة حلمه، والعلاقة بين المحلوم والحالم والحلم علاقة معقدة مشفرة تحتاج إلى تفكيك. وكذا الشعر، حلم متحرك لرائيه، سيفككه أخره المتلقي. وإذا فكك هو حلمه فسيدخل مغامرة قد لا تحمد عقباها، تماما كما حصل لفرويد وهو يفسر أحلامه التي رآها .

ذا أضفنا الألم كمعاناة باطنية لعنصري الحلم والشعر فما الذي سيحصل ؟.

"إن معرفتنا بالحلم تتم بشكل غير مباشر، الحالم لا يستطيع أن يقول شيئا عن المحلوم لأن طريقة عيشه لا تتضمن المقول ولا المفعول ولكن تتضمن فقط المحلوم" (4).

المتألم يعوض بالحلم خسارات الذات والأحداث، ويصنع لنفسه وللناس عالما من الكلمات يتوحد فيه الحرف بتجلياته. الحلم مسألة فردية لا تكتسي طابعها الجمعي إلا في المجاز. الحالم متفرد مختلف، ظلمته لا تشبه ظلمة الحالمين الآخرين. ظلمة الحلم واحدة والحلم واحد وما يتعدد هو المحلوم، والألم كبيرا كان أم صغيرا لا يكتسي طابعا جمعيا إلا من تعدد الحالمين وتعدد المحلوم، ووحدة الألم كمعاناة هي ما يوحد الشعراء.

قصيدة الحلم هي قصيدة واقعية بما أن الحلم واقع آخر. فالحلم ينتج عن إزعاج يصيب النوم. فما كنا لنحلم لولا مزعج طرأ في أثناء النوم. والحكم استجابة بإزاء هذا المزعج ( 5). والإزعاج في الشعر هو آلام الشعراء الصغيرة والكبيرة، ولعل الفرق بين الحالم والشاعر هنا يكمن في مدى القدرة على المشاركة وإشراك الآخرين في هذا الحلم، في هذا الإزعاج الذي حصل، في زحزحة لحظة الهدوء بواقع آخر أكثر عنفا. واقع آخر ينشأ في فراغ لابد له من ملء وإلا حصل الجنون الذي غالبا ما يتجنب الشعراء لكون كل واحد منهم يحمل نبتة جنون هي شعره. طلاسم تحتاج إلى مؤول عالم بعناصر الحلم الذي ما هو في نهاية الأمر سوى كلمة أو نص مكتوب بطريقة مصورة، له لغة خاصة مكونة من نحو خاص، وبلاغة خاصة، ومفردات خاصة بها.

ارتباط الشعر بالمعاناة مسألة معروفة وحين يختار بعض الشعراء الكتابة الأتوماتيكية فإنهم لا يخرجون عن هذه المقولة إلا ظاهريا بما أن المؤول هنا هو المتحكم صانع التأويل. الكتابة الأتوماتيكية -وقت الاشتعال- لا تأتي بافتعال، فهي لحظة تأتى من فراغ - هذا هو المفروض نظريا على الأقل - والفراغ هو غير الخواء. الفراغ تفرغ وإفراغ للذاكرة من حمولاتها ومقروئها العادي والمنظم رغم استمرار الذاكرة في التحكم.

تجربة الألم تشبه تجربة الخوف. فهل حدث لأحدنا أن عاش دون خوف حتى يعيش دون ألم ؟ الخوف جزء من الشعر، كما القلق، كما الحزن، كما الألم. لكل شعر طفولة، فهل للألم طفولة؟ هل يكبر الألم؟ شاعر الطفولة الحقيقية وشيخها هل يتألمان بشكل واحد ؟
هذا النوع من الأسئلة يقود إلى مسألة التجربة الذاتية في علاقتها باليومي المعيش وتقلباته وخطواته التي قد يقود بعضها للهلاك خطأ كما حصل لشاعر الهند "لوكينات باتاشاريا" .قد تقود لمحن جسدية متعددة كما حصل لعبد اللطيف اللعبي وكل الشبهين. كما حصل للحلاج موته الآخر من أجل الاحتراق والاختراق. آلام الشعراء لا حدود لها تمتزج بسخرية قاهرة لدى "بوكوفسكي' أو حزن مغلف بمجد يمجد القبر لدى أدونيس أو مجد ينتصر على الموت كحالة محمود درويش. في المغرب قد يكون محمد بنيس أكثر الشعراء ألما رغم المجد والشهرة والعثرات وهذا ما يظهر في نثرياته وفي عنوان ديوانه الأخير: "نهر بين جنازتين".

ما الذي يصنع الآخر الحلم أم الألم ؟ هل الألم هو المؤدي للحلم، أم أن الحلم هو المؤدي للألم ؟ وأين نضع الشعر ،هل في أقصى منطقة الألم الجسدي، أم في أقصاها نفسيا رغم صعوبة، بل وعبثية الفصل بينهما ؟
حين تتحرك الأحلام الفردية والجماعية للشعراء فعلى خلفية ألم وآمال أمة وإلا فالإغراق في الذاتية يؤدي للتقوقع. فالقصيدة مفرد بصيغة الجمع (أدونيس) وهي علاج للمسافة الفاصلة بين الذات والأشياء. (قاسم حداد). وهي خواتم منغلقة منفتحة نلامسها باستمرار (أنسي الحاج) .أو هي هبوب للشمعدان( احمد بلبداوي). أو خضخضة لزجاج أخضر مهروق على أجسادنا ( رشيد المومني).

ن حركة الحلم هي إشراك ومشاركة وتشارك بين ألم الفرد وآلام الجماعة. بين تجربة الجسد واليد والوجه، وتجربة حركة المجتمع. وفي الطليعة يقف الشاعر مواجها متقدما وجها لوجه أمام مدافع الكون والناس والأشياء، وأمام مدفعية اللغة. هذا الكائن اللساني المفعول الذي سيحول مفعوله إلى فاعل يفعل أفاعيله في الخلق والخلائق. راجا مدهشا مبهرا ولكن - خاصة - حالما حلما جماعيا جميلا رغم قدومه من أعتى ظلمات الألم.


إقرأ أيضاُ