أحمد العمراوي
(المغرب)

الاحتماء من الضياع

إلى عبد القادر الشاوي

أحمد العمراويتقديم :

السر هو ما لم تقله بعد، أو هو ما لا تود قوله . السر إبهام مقصود وتعمية إما لذاتها أو لغيرها. كل كتابة تحمل بعدين ( قائل ومقول ) يرتبط كل منهما بمتلقي الخطاب شعرا أو نثرا أو إشارات ...كل كتابة هي بمثابة إشارات فاضحة للكاتب وكاتمة للقارئ مهما امتلك هذا القارئ من قدرة على تأويل الكلام.
أنت تكتب لتكشف لي عن أسرارك وأنا أقرأ لأدخل معك أسرارك، وأبحث عن مكتوب كتبته، وإذا ما وصلتُ إليه انكشف السر ولم يعد للكتابة من مبرر .
كل كتابة تقوم على سر إذا انكشف ألغيت هذه العملية المعقدة التي تبتدئ بالتفكير أو بلاوعي مفكر فيه أو غير مفكر، لتنزل على الورق والآلة متتابعة أو متقطعة الأنفاس. هذه تأملات في أحوال الكاتب والكتابة .

الاحتماء من الضياع

هَمُّ الذات هو همُّ ما يحمله الجسد . جسدك هو حسدي ممددا فيَّ ومنك إلي . جسدي هو جسدك حين ينبش في أضلاع الذاكرة الذاكرة، والمتذكرة . جسد ، ذات ، ذاكرة ، وسيرة . سيرة ذاتية هي سيرة الجسد في مسامه ، أو فلنقل هي هذا الخارج في كينونة وأخوات كينونة . تشابه وتضاد وللذات سيرتها . للجسد سيرته. هي سيرة الكتابة روائيا ، تخييليا ، وبالتذكر المر أيضا.
كتابة السيرة الذاتية هي كتابة سيرة الجسد ، هذا الحامل ( لي ) و ( لك ) و ( لنا ) . جسدي سيقيم في زمن ما بعيدا عنك ، بدلا عنك ...
أنا صوتك في " واقع الأمر " " الواقع المادي " " الواقع العياني " . سأتعذب بجسدي عوضا عنك . كل الكتاب يتعذبون بدلا عن آخرين انطلاقا من ذواتهم وأجسادهم النحيلة في الغالب .
للذات سيرتها، و للجسد سيرته . وقد لا نفرق بين الذات و الجسد و بين الكتابة لدى الكتاب الكبار وعبد القادر الشاوي من بينهم . والقدرة على استعادة التفاصيل بطريقة أخرى إبداعية تمزج المتخيل بالواقع المر هي ما يميز كاتبا عن آخر .
أستعيدك ....
نستعيدك ...
" أستعيدني في الصورة الملونة المتقادمة، تلك التي تراقب الساحة بين مفترق يحاذي شجرة النارنج وينفتح على دورة الألم ناكرا عليها ذلك السهوم الذي في العينين المرتجفتين.أستعيد الصورة كأنها "وحدة أخرى، قل هو السراب هذا الذي قد بدأ، رعشة حيرى لن تعود كأنما إلى الله الخلود . إني نسيت عمرا قل في ظلمة لن يعود إلي جمرا ولن يعود اشتياقا، أو نظرة أبدا " . لم تعد صورة ، بل مجرد انطباع خائن في ذاكرة مستباحة .( الساحة الشرقية ص 89 ).
استعادة الصورة ، بل استعادة سراب الصورة هو الأهم. شريط التذكر يحفز الجسد والفكر ويدفع للأسفل، لليد التي ستسجل لحظات أخرى غير الأولى بقسوتها وتجربتها .

السيرة الذاتية ( الروائية ) لا تعني تسجيل لحظات العنف و الحب في ما مضى من أيامي .إنها أبعد من ذلك . فهي قول ما لا يقال ، أو ما لم يُعش بشكل عادي. خروج عن عادية الناس بل وأهم من ذلك بوح عن سر مكنون قد يكون من المستحيل التعبير عنه بدقة كما هو أو كما جرى في حينه، وهنا يأتي دور القارئ / المتلقي/ كاتب النص الجديد.

أتمم ما أكتبه لك ( لي ) الآن . أتمم ما عانيت وما أعاني ( تعاني ) يقول لك عبد القادر الشاوي. جسدي هو جسدك، قد تكون تعذبت أنت أيضا بشكل ما. فعذاب الذات قد يكون أعنف من عذاب الجسد في أحيان كثيرة.
جسد وكتابة وسيرة جسد بمتخيل وحلم ، فكاتب السيرة الذاتية روائيا يحلم بالانفلات من جسده واللجوء لجسد الآخرين. إلا أن كاتب السير ة الذاتية " السجنية " " واقعيا " يحلم بالانفلات من جسدين : السجن، وسجن الجسد. وكتابة الجسد السجني هي باختصار كتابة المستحيل . وقد يكون السجن في الجسد أقوى من سحن الجسد كما عبر عن ذلك المعري في كل شعره ، ومن هنا أهمية الإفراج عن السر المكنون بالكتابة الإبداعية شعرا ونثرا .
كتابة السجن قد لا تعني تدوين لحظات الظلام المدوخ بطائرات وأسطل مملوءة بمواد رديئة، أو بقطرت ماء تنزل منظمة على فضاء فارغ وطبلة أذن تتلقاها بعنف الصمت. قد لا تكون تدوين لحظات أعين تسعى إلى النوم، وجلادٌ بقامته السوداء يعيقها عن هذا النوم مع سبق الإصرار و الترصد.
الكتابة الجسدية الراقية هي كتابة إلغاء للجسد بمعناه الضيق، والانتقال به من المستوى المعيش كما عيش إلى مستوى التخييل والتخيل. لا كتابة بلا خيال. افتقاده هو مجرد تكرار لوهم الكتابة لا الكتابة.

اكتب جسدك ولكن قل ما لا أستطيع أنا قوله. انتفض مكاني، وسأنتفض أنا في مكاني وأنا أتلقى بوحك الصادق. السيرة الذاتية هي مزيج من حكي ذاتي واقعي دقيق في زمانه ومكانه، وبين خيال متخيل تنتجه اللغة، هذه الفاعلة الكبيرة المخلصة أحيانا من براثين الظلمة والمقيدة أحيانا أخرى لهذا البوح بما أنه لن يكتمل حتى ولو قرأه آلاف القراء المتمكنين من قواعد اللعبة اللغوية.
تخلص يا جسدي من آلامك. تخلصي أيتها الذات من مسام غرسها الزمن طويلا فيّ وأحاول عبتا التخلص منها أنا أيضا باليد التي أخط بها بعضا من جراحاتي على الورق، على الآلة، أو عبر الانترنت.

الجرح سيلتئم بك يا قارئي، ضوِّئني بعيونك و أَثْنِ عليّ أو لا تثن ، فقط ضَوِّئني بعيونك المفتوحة جيدا في وجه المرحلة.
السيرة الذاتية هي تجريب على تجريب، تجريب يدوي خطي كتابي، على تجريب حدث ذات يوم بسيناريوهات متعددة. كاتب السيرة الذاتية هو فاعل آخر غير المجرب الأول، بما أن التجربة الأولى في حالة الفجر مثلا "هي تجربة مستحيلة " كما عبر عنها عبد القادر الشاوي في أحدى اللقاءات.
لماذا يكتب الناس سيرهم الذاتية؟ سؤال لا مبرر له بما أنه حاجة لكل الناس. كل كائن يبوح بطريقته الخاص، فنا أو عمليا أو حتى عنفا. و السؤال الأهم ربما هو، كيف يكتب كاتب السيرة الذاتية؟ وما مقدار الأمانة في نقله تجربة عيانية جسدية ذاتية ارتبطت بالنفْس و النفَس لتتحول إلى سيرة على كل الألسن.

باح، يبوح بالسر فهو بَوَّاح، وكتب سره و سجله بطريقة إبداعية استنادا إلى سيرته الذاتية هو بوح ثانٍ يختلف عن التجربة الأصلية الأولى. قُل و اكْتب ففي ذلك بعض شفاء لنبرات حلقك التي خنقها جلادك ذات يوم، ولازالت أثارها واضحة في لألأة عينيك الذكيتين وأنت تنقلهما بسخرية هنا وهناك، وكأنما خوفا من جلادك القديم . البوح الذاتي و الإبداعي الجميل هو مخلص و مطهر لأيامك أيام طويلة ومستحيلة.
في آخر فقرة من ساحته الشرفية يشتت الشاوي بوحه علينا هكذا :
ا ل حَ قِ ي قَ ةُ ا ل مُ رَّ ة أ نََّ لِ كُـ لِّ شَ يْ ءٍ فُ رْ قَ تَ هُ وَ ا شْ تِ يَ ا قَ هُ ، حَ نِ ي نُ هُ وَ قَ سْ وَ تُ هُ ، دِ فْ ؤُ هُ وَ بُ رُ و دَ تُ هُ . الحقيقة المرة التي تطالعني أنا الذي أريد الهروب هكذا كأنني ممسوس بهوى الاغتراب . فلماذا لا أعود إلى الوهم الذي علمني الكبرياء ... على الأقل لأحتمي بشيء ، ولو قليل، من الضياع ؟
أليس الاحتماء من الضياع هو السر المكنون الذي تبحث عنه كل كتابة متلألئة كتابة عبد القادر الشاوي؟.

Elamraoui55@yahoo.fr