أحمد العمراوي
(المغرب)

الشعر ديوان العرب هذا ما فتحنا عليه أعيننا منذ بدايتنا المدرسية الأولى، تعلم الشعر وحفظه يبدأ في المدرسة المغربية وغيرها، يبدأ منذ مرحلة ما قبل التعلم ويستمر طيلة الحياة المدرسية الى مراحل التخصص. شعر علي شكل محفوظات، والمحفوظات قصائد عمودية صغيرة إيقاعية تلائم سن المتمدرس لا انفعالاته ووجدانه وحاجياته الداخلية.

الشعر ديوان العرب لان به خارجيا علي الأقل دونت مختلف العلوم الاخري متنا منظوما بالزجل لتسهيل الترابط بين عالم ومتعلم في النحو والصرف والمنطق والفقه والفلك والأصول، قد يتلو كل متن من هذه المتون شرح وحاشية وحاشية حاشية وهكذا.

وهو ديوان العرب لكونه ضرورة حاجية تمتد من الفقير الى الوزير، من العالم الفلكي والرياضي والطبيعي الى العالم المهتم بالعقيدة والأصول والفروع أحكاما وقياسا. كل امام في الدين هو شاعر، هكذا كان الأمر، وهو وجه آخر يعبر بامتياز عن المقولة المحفوظة: الشعر ديوان العرب.

مجتمع الشعراء داخل مجتمع الأدب كان مجتمعا متوازنا بين الأغلبية والأقلية، مجتمع يميل الى الأغلبية ويكفي ان نذكر مسألة الشواهد الشعرية التي يستشهد بها النحاة والبلاغيين وعلماء اللغة العربية قديما لنتأكد من ذلك. ألم تفصل مصنفات خاصة في شواهد المغني او شواهد ألاغاني او شواهد أي كتاب آخر في علوم الصرف والنحو والفقه والأصول وما الى ذلك.

يلتجئ عالم الحياة وما بعدها للشعر كشاهد علي ما يقول، وقد يلتجئ الى ذلك مفسر القرآن، كما يلتجئ إليه الفيلسوف المتأمل (الإمتاع والمؤانسة) و(طوق الحمامة) او يلتجئ إليه الفيلسوف المستبطن للذات العميقة وأسرارها كل حسب رؤيته (الفتوحات المكية) و(إحياء علوم الدين). كل حسب حاجته، وكل بالمقدار الذي تتطلبه هذه الحاجة.

وفي المغرب لم يختلف الأمر الى عهد قريب، وزراء وقادة سياسيون شعراء: (علال الفاسي، إدريس بن إدريس)، ومفكرون متميزون شعراء: (عبد الله كنون مثلا)، والشعر/النظم ديوان العرب الى عهد قريب، فما الذي تغير الان؟
اعتقد ان المسألة تحتاج الى بعض التوضيح فنحن ننطلق من مسلمة جاهزة تلقيناها في مدارسنا، ورثناها وحفظناها وأقمنا فيها ولم نفكر في الانسلاخ عنها او مناقشتها إلا حديثا حيث المثاقفة و العولمة و الحداثة و ما بعد الحداثة مفاهيم دخلت البيت وأقامت ولا عيب في ذلك في زمن أصبح فيه العالم قرية صغيرة إلا ان هذه الإقامة قد تحدث بعض التشويش بشكل قد يؤدي الى صدمة الحداثة.

الآخر يثيرني فأثار وأتساءل قليلا عن سبب ذلك، ورغم ذلك ابقي الى حد الان رغم التغييرات الشكلية متشبثا بالمقولة السالفة: الشعر ديوان العرب إذا كنت قد رضعت بما فيه الكفاية من ثدي هذه اللغة العربية الممثلة لديوان العرب، احفظ أبياتها، واردد في نشوة تلاطم روحي هذه الأبيات، مستمتعا بتناغم قوانينها وهي تشكل نفسي، وقد لا اهتم إلا فيما بعد بالجوانب الداخلية لهذه الإيقاعات وتأثيرها علي النفْس والنفَس.

ويتم أخيرا الاتجاه الى الرواية والقصة والسرد، ويتم البحث في خبايا هذه السرديات المنسابة بأسئلة عميقة (عبد الفتاح كليطو مثلا) تفصيل وتفصيل تفصيل شرقي تارة غربي أحيانا أكثر فما الذي سيحدث؟
ستعوض ألف ليلة وليلة المتنبي. ويعوض الجاحظ ابن قتيبة، او يتعانقان. وأسئلة أخرى، وراهن آخر، وثورة علي العمود وعلي التفعيلة، وتداخل بين النثري والشعري وتراجع نسبي لسلطة الشعر لصالح السرد. تراجع نسبي بالنسبة للمتلقي المهتم بديوان العرب بالشعر لصالح أجناس أخرى قد تكون الرواية والسرد والقصة، وقد تكون الصورة الثابتة او المتحركة بالتجسيد او التصوير الآلي الفني وما الى ذلك.

مجتمع أغلبية يتحول الى مجتمع أقلية

إذا كانت الأقلية الفاعلة la minorite active وسنستعير المصطلح من علم الاجتماع ونحوله لميدان الأدب إذا كانت هذه الفئة الفاعلة هي التي تسعي لتغيير المجتمع بمشاريعها وطروحاتها التي تخرج عن السائد والراسخ، معرفيا، وثقافيا، علميا وأدبيا بخصوصيات تتمثل في جدة الطروحات، في المبادرة، في المثابرة، في التناسق والاستمرارية في مشروعها، وفي الدفاع المستميت عنه من اجل التغيير والتجديد، إذا كانت هذه الأقلية الفاعلة بهذا الشكل اجتماعيا، فما هي تجلياتها داخل مجتمع الأدب وفي مجتمع الشعراء بالتحديد؟
من المفروض ان تكون هذه الأقلية فاعلة أولا لكي يتسنى لها القيام بدور الريادة. بدور المرآة العاكسة التي علي صفحتها ستقاس درجة وقوة المجتمع الأدبي كله. بها يتم تكسير الأغلال المقيدة من اجل البحث عن حرية وجدة وتجديد. ولكن الحاصل في تحليلنا علي الأقل هو هذا التناقض بين المجتمع والشعراء من جهة، وبين لفظ أقلية كجماعة وبينها كأفراد من جهة أخرى. لقد استطاع شعراء أشخاص عبر العالم ان يؤثروا علي مسارات شعوب بأكملها إما لحظيا: بابلو نيرودا، و غارسيا لوركا او فيما بعد كما هو الشأن بالنسبة للعرب: المتنبي وأبو نواس قديما، أدونيس ومحمود درويش في المشرق ومحمد بنيس في المغرب حديثا. تناقض ظاهري بما ان ما نقوم به هو استعارة مزدوجة من علم لفن، ومن فرد لجماعة، وما يهم هنا هو إثارة القضايا لتسهيل الدخول الى التفاصيل التي بدونها سيبقي كل تحليل عبارة عن ترف فكري مكانه المتحف لا المستقبل الذي هو هم مجتمع الشعراء، كل الشعراء.

لكي تصير هاته الأقلية فاعلة ستحتاج الى بعض الوقت في زمن أصبح فيه التباطؤ مستحيلا، زمن سريع سنحتاج فيه الى تغيير رؤيتنا للمتخيل فيه بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) وما تلاها وما يتلوها الان، وما سيتبعها من تغيير للعقليات وللدواخل سلبا وإيجابا. تغيير لطرق التعبير تبعا لذلك. لقد صنع الإنسان الحديث حضارة وصنع معها أنظمة للتحصين اعتقد معها انه من المستحيل اختراق جدرانها بخارج/ داخل مهما كانت قوته. ووقع الاختراق: اختراق للمكان العمودي، تبعه اختراق للرؤى كلها: روحية او مادية. والصمت سيعم وسيصاب الشعر بالخرس مؤقتا، وستنزوي الأقلية الفاعلة لركن سيقودها الى الشلل واللافعل قبل ان يقع الانتفاض بشكل آخر قد تكون الثورة التكنولوجية والانترنت قائدة له نحو مجهول يصعب تصوره والشعر ديوان من؟ في زمن الاختلاط اختلاط الأجناس البشرية والأدبية. اختلاط الأجناس البشرية والأدبية. اختلاط الرؤى والمواقف. اختلاط المفاهيم والتصورات.
في مرحلة الخمسينات كان الشاعر الأمريكي المتمرد آلن جنسبورغ قد كتب في السياسة والنبوءات بيانه المعروف الشعر العنف والحملان المرتعشة والمسمي ايضا: بيان يوم الاستقلال ضمنه تساؤلاته العنيفة عن أوضاع العالم بعد نقد لاذع لأمريكا التي اعتبرها دولة بوليسية آنذاك يقول في بيانه: كم منافقا يوجد في أمريكا؟ كم حملا مرتعشا يخاف من الاكتشاف؟ ما الذي لدي متآمري السلطة لتحديد مسارنا للوعي، استمتاعاتنا الجنسية، عملنا المختلف وحبنا؟ متي سوف نكتشف أمريكا؟ من يسلم: المال والبوليس ومليون يد لقتل وعي الله؟ من يبصق في الوجه الجميل للشعر الذي يغني من مجد الله والبكاء في غبار العالم؟

لقد شكل آلن غنسبورغ مع وليام بوروز وجاك كيرواك ما عرف بكتاب جيل الغضب بإضافة الروائي والشاعر شارل بوكوفسكي إليهم يشكل هؤلاء مجتمع أقلية فاعلة غير مسار الأدب والشعر في أمريكا والعالم بالشعر والفعل الشعري انطلاقا من التجربة الذاتية.

بيانات السورياليين وعلي رأسهم اندري بروتون غيرت مسار الشعر والفكر والأدب في اوروبا والعالم. أقلية فاعلة.
جماعة شعر ومعها أدونيس وشوقي أبي شقرا ومحمد الماغوط وانسي الحاج أقلية فاعلة لا زالت تفعل فعلها في مجتمع الشعر الى الان سلبيا وإيجابا فما الذي يحدث الآن؟ هل سيؤدي تراجع المتخيل والخيال الى تراجع دور الشعر؟ هذا المنعوت بديوان العرب وجامع شتاتهم القولي، الفاعل في مجتمع سريع الحركة والدوران. هل نحتاج الى جماعات او بيانات او مدارس للشعر الان للقيام بهذا الدور الفاعل؟

اسئلة تبقي مفتوحة بما ان همنا هو إثارتها وتعميق إثارتها قبل البحث عن الجواب النسبي الذي سيقود لأسئلة أخرى. لنشخص هذا المجتمع في المغرب انطلاقا من القضايا التي لن تكتمل إلا بالوصول الى التفاصيل.

مجتمع الشعراء هو مجتمع أقلية داخل مجتمع الأدب أذن، بعد ان كان علي ما يبدو مجتمع أغلبية بالنسبة للأدب العربي، والسبب هو طغيان السرد والرواية والقصة من جهة وطغيان الصورة من جهة أخرى. فما هي سمات هذا المجتمع الان؟

الصوت الشعري لمجتمع الشعراء تتجاذبه عدة جهات تسجل علي شكل صراعات صغيرة قد تتحول الى حروب حين يصل الشاعر مرحلة البلوغ الشعري. صراع علي عدة مستويات نذكر من بينها:

  1.  الصراع مع الآخر المشابه: الشبيه في التصور والرؤية والرؤيا وفي المتخيل. فلا مدرسة شعرية موحدة رغم التشابه. النثري مع نثري آخر. وشاعر التفعيلة مع شبيهه رغم التصالح الظاهر الذي يخفي ما يخفي. (لو انتصر الشاعر الشبيه لصاحبه كتابة ونقدا لكان الصراع صراع قصيدة لا صراع أشخاص).
  2.  الصراع مع الآخر المخالف: قصيدة عمودية وقصيدة تفعيلة، قصيدة تفعيلة وقصيدة نثر مثلا. هو صراع مشروع ولكن طغيان الذاتية قد يحوله الى صراع مرضي.
  3. الصراع مع الذات: من اجل اثباتها داخل مجتمع الأغلبية. أقلية مختلفة، ولغة مختلفة، ومتخيل مختلف. ولكن المشكلة تتعقد حين يركب الشاعر الوهم، وهم قيادة الآخرين بذات حالمة في مجتمع أصبح فيه الحلم كابوسا، والمتخيل عولمة، والبقية الآتية أعظم.
  4.  الصراع مع اللغة: اللغة العادية أصبحت أداة غير مطاوعة لكون الأسس الاستعارية التي بني عليها الشعر منذ القديم بدأت تتقوض، وأصبحنا نلاحظ هروبا نحو الطلاسم والإبهام والمقصود الذي قد لا يفهمه حتى الشاعر نفسه. واللغة الشعرية ستتحول من بحر الى كلمات متقاطعة يصعب تجميعها.
  5.  الصراع مع الأجناس الأدبية الاخرى: وتجليات هذا الصراع هو سؤال عريض طرح في المغرب وخارج المغرب هو: هل هذا زمن الشعر أم زمن الرواية؟ سؤال يسعى للبحث عن إثبات الذات للبحث عن الريادة. وهو سؤال مغلوط في رأينا بما ان الإبداع هو كل متكامل، إذا شكل فيه الشعر ومعه الشاعر مجتمع أقلية فاعلة أصبح رائدا حقيقيا للمجتمع ككل، ولكن بالاقتراب من هذه الأجناس مع ترك المسافة الضرورية بينه وبينها.
  6. صراع مع الصراع: حين يتغلب الوهم الشعري علي الشعر يتصارع الشاعر مع صراعه، مع كل هذه الأنواع ويستمر ويطول صراعه تارة، ويتوقف شيطان شعره تارة ويثور عليه وقد تبقي العادة أي التعود علي الكتابة.
    الكتابة بالعادة هي ما يتبقى وهي ما يميز الوضع الشعري العام العربي والمغربي منه بشكل خاص. وهذا أمر قد لا تكفي إثارته في القضايا. بل لا بد من ملامسته في الدخول لتفاصيل اللغة والأسلوب لدي الشعراء المغاربة المحدثين. وهذا ما سنقوم به في المرحلة اللاحقة نحن مدعوون جميعا، شعراء ونقادا وقراء للمساهمة فيه، من اجل وضع مجتمع الأقلية في قلب المرآة، ساطعة مشعة متنبئة بكل الأخطار للدفاع عن مجتمعها هذا.
    شاعر من المغرب

قدمت هذه المداخلة خلال المهرجان الوطني السابع عشر للشعر المغربي الحديث المنعقد بشفشاون أيام 11/12/13 نيسان (ابريل) 2002.