(محمد المزروعي
الإمارات)

عهد فاضل

محمد المزروعياختلف القراء والنقاد, على حد سواء, في مسألة تعيين التجريب الشعري في مساره الطبيعي. فهل هو إضافة إلى "استقرار" الشعر, أم هو تشويش عليه؟ أم أن التجريب ضرورة تلقائية لتنشيط الفكر النقدي باتجاه نص آخر؟ وبقيت مسألة التجريب قابلة للبحث على أكثر من صعيد, سواء النقدي منه أو الشعري. وأغلب الاتفاق - أو العرف - هو في أن التجريب لا ينبغي له أن يكون استبدالاً مطلقاً للسائد والقوالب التي ما زالت تحمل قابلية للحياة الشعرية النشطة.

يهمنا, في هذا السياق, العالم الشعري "التجريبي" في كتاب الشاعر محمد المزروعي "أرق النموذج" 2003, والذي يحمل عنواناً فرعياً موحياً: "الطبيعة الذهنية للامبالاة". إطلاق صفة التجريب على هذا الكتاب اللافت والغني بعوالمه ليس مستمداً من الأدوات بقدر ما هو مستمد من الدلالة. وهو, في هذا المعنى, يكون تجريباً لتضمنه مستوى المغامرة الشعرية المفتوحة على أكثر من مستوى. فهو يكوّن العدمي, شعرياً, في آليتين متناقضتين, إحداهما يكون العدم فيها تتويجاً لمشكلة العمل. والثانية يكون العدم فيها بنية ونظاماً معرفياً خالصاً. ليس من السهل الخوض في مثل هذه الإشكالية بمستوييها المتناقضين هذين. الأزمة الناتجة من استخدام الأرضيتين المشار اليهما هي التي قرّبت شعرية المزروعي من المغامرة, وبمعنى نريده للقراءة, قرّبته من التجريب.

في "أرق النموذج" ثمة ما يمكن أن يسمى سوريالية, وبهذا يتم التعامل التلقائي مع الكتاب كونه يتضمن المفارقات الحادة اللامعقولة والتجاور غير الواقعي بين الأشياء والكتابة شبه المتداعية اللاشعورية. إلا أن السوريالية, مدرسة وتاريخاً, قد "تبتلع" الكتاب لقوتها واشتهارها وسهولة تطبيقاتها, وكذلك قد تنفي الاشتغال اللغوي الخاص الذي قام به الشاعر. لذا من الواجب فهم "السوريالية" التي تظهر هنا وهناك على أنها من مستويات التجريب أو المغامرة الشعرية المفتوحة, لا على أنها تطبيق مدرسي نجيب لمذهب سالف.

في متابعة مستويي قراءة العدم الشعري والفلسفي على حد سواء, سنجد الخلطة التي يبتكرها المزروعي في فهم الأنا والعالم الخارجي على أنهما "نيتشوية معكوسة" تكون القوة فيها في مدى الانهيار وتفعيل اللاشيء: "أتذكّر, وبلا تحرر من الغم, إن مكاناً كنت فيه: هو صورة مثلي. فلماذا تهزمني الحياة, صانعة مني هذا الجالس يراقب الحيوان متمرغاً في سعادة كل شيء". الاستدعاء الذي يبدو للوهلة الأولى صوغاً مباغتاً لمفردات تحضر بلا تمهيد لا شعوري هو في الحقيقة تشغيل للنظام الشعري المشار إليه في السابق, وتعزيز هذه المباغتات من شأنه التذكير الدائم بالنظام: "أركن إلى تخلفي/ مطمئناً إلى حذاء واحد/ يرافقني من عاطفة إلى عاطفة/ حيث تسلم الجدران ثقوبها إلى المصابيح/ ونرى مع الشمس مبررات أخرى للحب/ مخططات جديدة للأعصاب/ وعيوناً ملأى بكهرباء فاشلة". ويمكن الحديث بأدوات الأنا, لكن لا على أنها الطريق النظري للتملك بل الشكل الأكثر غرابة للوحدة.

يستطيع القارئ التعامل مع الصوغ, في أي شكل جاء, على انه محاولة من الشاعر للحساسية, أو على أنها - في حالات لا ينتمي كتابنا إليها - نوع من الحفر الظاهري في الشعري حتى ليتغلب فيها المصنوع على المطبوع, بلغة النقد العربي القديم. لكن صوغ المزروعي المستجيب للنظام الخاص به غير معنى بالصوغ طريقاً إلى الهوية الشعرية, بل الاستمرار الارادي في عالم يكون فيه الشاعر نفسه النيتشوي المعكوس: "يمكن العلاقة بين وردة ومستطيل من الضوء أن تفتن الأشياء المحيطة بهما, إلى حد لا يجعلني خافتاً. غير أن النتيجة هي أنني سأقوم عما تمكن مني من عاطفة محاولاً تبديل وضع الوردة".

في حال تعامل الذات مع ذاتها كأنها طرف ثان, سيجد الضال ضلاله, مرة أخرى, وليس هناك من داع ميتافيزيقي لكي يكون الأب ذلك "الآس" في ورق اللعب الذي يفوز على بقية الأوراق في كل مرة: "والحزن وحده ليس كافياً/ كي أمر صباحاً على جسدي-/ أغير له شاش جروحه -/ مَنْ إذن يأخذ بيدي -/ معلقاً على كلمة صغيرة غير مقصودة -/ تأجيل الهجوم". ويمنح النيتشوي المعكوس فرصة لانهياره للتراجع: "جرأة هناك في الندم/ ندرة في الجروح/ وكل هذه العناصر التي كونتك/ ساق على ساق/ وبلا سماء". أو هنا في الإشارة العلنية إلى الموازاة بين ما يكون المعنى المؤجل أو غير المتحقق للأنا: "الحنان البطيء في النمو/ اختلاق الندى لبلورات مضادة للشوق/ التعود على كرسي في الزاوية/ انحناءة الظهر قليلاً/ الانحناءة بهذا القليل إلى الموت/ المغامرة بكشف الروح لسلالات نظيفة/ بينما أنت في انشغال يخلد في مومياء غير صالحة".

أشرنا في بداية المقال إلى المستويين المتناقضين اللذين تعامل بهما الشاعر مع العدمي في حال يكون فيها الأول أو الآخر, الامتداد أو التأسيس. هذا التأرجح أو الصراع هو في حد ذاته ينتمي إلى "التفكير الشعري" على خلفية عدم الحسم في المعنى النهائي للوجود. إن التشتت الظاهري - والذي يحمل ما يحمل من جماليات - هو الاستجابة الفورية للصراع, لجاذبية قوتين لا يمكن الفصل بينهما, ولينتبه القارئ إلى الفارق الكبير في الإيقاع والدلالة في هذا المقطع الذي, مرة إثر مرة يظهّر النيتشوي المعكوس: "الاعتياد عاطفة/ وأنا ميت/ على رغم أن الجسم في ما تشكله الثياب/ تحدد لدي/ ورغمه خارج الثياب محدد/ فأنا ميت/ والحائط بعد ساكني البيت/ الحائط حفر/ واختباء ما بين الصورة والنوم/ بجانب من ناموا قبلنا".

لا يجد القارئ نصوصاً كثيرة كتلك التي في "أرق النموذج" (لنعد ونتذكر التوتر الذي ينطوي عليه الاسم) بل أن الكثير من المكتوب الشعري السائد في السنوات الأخيرة يحمل من الاستقرار والتعود أكثر مما يحمل من الإرادة الشعرية المغامرة. وتجريب المزروعي, في المعنى الذي حددناه, يخلخل التعود السائد في الكتابة من طريق الجمع المعهود أو شبه المتوقع بين الأدوات والدلالات. وفي حال "أرق النموذج" يتحول التعود غرابة والمألوف جديداً والآلي مشغولاً والشعري, مرة أخرى, ويجب ذلك, فلسفياً أو فكراً شعرياً. وهو الطريق الإجباري والاختياري للموهبة التي تريد إرجاع قوة الجذب (لا النبذ) إلى الشعر والتفكير الشعري.

الحياة - 2004/01/4