عهد فاضل

نادراً ما تخرج المجموعات الشعرية التي يصدرها الشعراء اليمنيون الجدد في صنعاء وعدن الى العالم العربي، ما يجعلهم في حال من العزلة. علماً أن أعمالهم تنتمي الى الحركة الجديدة التي يشهدها الشعر العربي المعاصر. هنا قراءة في 6 مجموعات صدرت في اليمن.

في بعض الكتب الشعرية الصادرة حديثاً في اليمن، وهي تطرح اختبار الشكل وزمنيته، وتحديداً من الشعر اليمني الجديد، نقرأ النسيان الذي تحاول فيه أصوات شابة أن تكتشف فيه أسماءها، بحيث لا يعود النص الى وراثة نفسه، بل تعود الكتابة الى لحظة التشكل، غير آبهة إلا بالنسيان، النسيان الشعري، الذي هو علامة لا يضيع الشعر من بعدها. اكتشاف النسيان، هذا، هو الذي يضع الخط الفاصل بين الأب والابن الضال، وما لم يكن مكتوباً في الوصية يصبح اختياراً ذاتياً يستعيد به الابن موجوديته.
بعض من الأصوات الشعرية، في الشعر اليمني الجديد، وإن كانت لا تختصر المشهد، وهذا ما لا تريده، في الأساس، فهي تختزن إمكاناً على الإشارة والتسمية، وبأن ما أعتقد بأنه أُقفل عليه باب الاجتهاد، ولِد للتو محمَّلاً بالأسئلة. هذه هي جدلية النسيان الشعري. يتحدد النسيان الشعري، للمفارقة، بالشعرية ذاتها. فهي التحويل الخاص الذي يجعل الموضوع ذاتاً، والصورة اكتشافاً، والمعرفة حدساً. البلاغة، مثلاً، نسيانٌ للمعطى الخارجي، تستدين منه ثم لا تعود إليه.

كتب شعرية ستة، أو لنقل أصواتاً، لما تحمله من أسلوبية ونسيان، تحويل ومبادلة، صدرت في أوقات متقاربة تعطي صورة عن الحدث الشعري اليمني الجديد وإن كانت لا تختصره بالكامل: "الصيرورة /شجرة تحمل فؤوساً" لعمار النجار، صدر عن مركز عبادي للدراسات والنشر - صنعاء 2002. و"حياة بلا باب" لأحمد السلامي، صدر عن الدار السابقة أيضاً 2002، و"الشباك تهتزا لعنكبوت يبتهج" لمحمد محمد اللوزي، إصدار خاص، صنعاء، 2002. و"الألم أناقتي" لمحمد القعود، صدر عن الهيئة العامة للكتاب، صنعاء 2001. و"على شفاه الوقت" لجميل مفرّح، صدر عن الهيئة العامة للكتاب، صنعاء 2001. و"ترميمات" لعلي المقري، الصادر عن الهيئة العامة للكتاب، صنعاء، 1999. وان كانت هناك مدة ما تفصل بين هذه التجارب، لجهة الجيل الأدبي، ألا أن ما يؤخذ في الاعتبار هو المزاج الشعري الذي وحَّد تلك التجارب في سعيها الى النسيان، الإضافة والوجود. فكيف إذا كانت التجارب تلك متقاربة، الى حد كبير، في الجيل الأدبي؟ والجدير ذكره أن مفهوم الجيل، في الأدب، لا يمتلك دلالته الكاملة إلا عندما يمرّ بالتحول الجذري القاطع. عدا ذلك يكون "الجيل" إشارة مرور مجازية موقتة، الى مناخ كامل.
منذ البداية، يشير محمد اللوزي إلى حال "العصيان" أو "التأفف" من مشهدية الاعترافات الرسمية بالشعر، فيقول عن نفسه: "لم يشارك في أي مهرجان محلي أو عربي أو دولي"، وأن الشاعر لم "يحصل على أي جائزة أدبية". أي أنه يبدأ من نقطة صفر متمردة، غير عابئة بقبول الآخر لها، وهذا يعكس موقفاً شعرياً، أيضاً، في الوقت الذي يعكس موقفاً شخصياً. كذلك الإهداء الذي لم يكن سوى مجموعة نقاط، ومثلها المقدمة التي جاءت مجموعة لا متناهية من النقاط وحروف الترقيم. هذا الممر المشاكس، العاصي والرافض، يترك أثره في القراءة، لأنه ذو طابع استباقي، يهيىء لقبول نسيان، بل لتدمير وتجاوز، ويجعل من حال الاستعداد قبولاً لهذا الوافد، وإمراراً له، من دون كثير من التناقض الطبيعي الذي يحصل، عادة، في التواصل، بين الكتابة والقراءة، أو بين شعرية الشاعر وشروط القارئ التي لا تنتهي.
هذا العصيان ليس مجرد موقف من علاقات الشعر، بل يتخذ شكلاً أخلاقياً ساخطاً: "في الحفلة التنكرية التي ستقام غداً/ لم يعد ثمة أقنعة نلبسها/ وسيلبس كل منا وجهه". ان تكون البديهية قائمة على تدمير معنى الهوية، التي صار معناها العكس، أي القناع كما حدّده، فهذا ممر لخلق انطباع بتوتر العلاقة الحاد بين الشاعر وقطاع الآخر، هذا التوتر من شأنه أن يعيد ترتيب مشهدية العالم المحيط، كما أنه يتكتم على إحساس ما بالفقدان: "إنني مهمل من كل الكائنات/ مهمل كمفتاح على طاولة". على رغم جماليات التشبيه الذي أجراه لتوضيح حال الإهمال، المجازي ربما، في صورة المفتاح المهمل على الطاولة، فإن عنصر الشبه ليس هو المقصود، لأن كل الأشياء يمكن أن تتعرض للتجاهل والإهمال. لهذا فإن قوة المدلول تكمن في المشبّه به، ألا وهو المفتاح، هذا الذي يحمل مغزى الفاعلية، المقدرة والولوج، الافتتاح والمباشرة. مهمل كمفتاح تساوي نداء عاجلاً الى من يهمه الأمر بأن هناك إمكانات فاتحة قادرة، وكذلك إمكانات ذات طابع فرويدي، لما يدل إليه فيزياء المفتاح، لم ينتبه إليها أحد. وهي وإن كانت تعب المتمرد من تمرده، فهي ذات إطار نفسي، تشبه طقوس التعبير عن الذات والنوع، في المجتمعات الجماعية، حيث يغدو الرقص والركض فعلا جذب.

النسيان الفجيعة
النسيان، هنا، لم يأت محمّلاً بقوة الأنا كما درج في الأنا الستينية المتعالية، الراغبة بالتغيير، والحالمة بمقدرة هائلة على الفعل وتوزيع الأدوار، بل جاءت في الإطار المسالم الهادئ، الذي ورث الفجيعة التي لحقت بقوة الأنا السالفة، فلم يقع في ما جرَّبته، ولم يمد ريشته الى محبرتها، وها هو يقرأ العالم الخارجي ضمن نظام حسابي مختلف، يحول البديهية الى سؤال، والمسمى الى مجهول: "يحسب الأعمى/ أن كل ما حوله جدران/ ويحسب المبصر/ أن كل ما حوله فراغ/ وحين يمشيان/ يصطدم المبصر بالجدران/ ويتعثر الأعمى بالفراغ". إذا عدنا الى مسألة القناع الوجه الذي سيرتديه الجميع في الحفلة التنكرية، نعثر على منشأ نظري الى هذه الإشارة، إضافة الى دلالتها الاجتماعية الساخطة، حيث نسبية المعايير وجزئيتها، وهذا أحد أسباب نسيان الأنا المتعالية التي تكونت في إطار لا تاريخي، يعتمد الفرضية بمركزية الأنا في الكون، ويرث هذه المقولة التي تعرضت للاهتزاز منذ القرن السادس عشر الميلادي.
ولكن هذا التعالي في الأنا عاود الظهور مع نهاية الحرب العالمية الثانية وسقوط الرهان على النموذج الصناعي، أو النموذج الغربي، في إطار من ولادة الدولة، الذي عزز بدوره، في الثقافة العربية المعاصرة، الشعرية تحديداً، مركزية الأنا. في بعض التجارب الأدبية التي ظهرت مع بداية الثمانينات، شككت الأنا بذلك المحور الذي أُطّرت فيه، وتجربة اللوزي من إحداها، الآن، في نثر معمول على أساس من المنطوق الذي يفرد للسطر الواحد مساحة روي تمكن، الى حد كبير، من انتهاء المعنى والتدفق اللاشعوري، مع نهاية النطق. وهذا شكل ما من المعيارية التي تساهم في "انضباط تكتيكي" موقت، ريثما يكتشف الصوت الشعري نسيانه الكامل، المعرّف والمسمّى.
التشديد على الدور الذي لعبه التصوف الإسلامي في الرؤى الشعرية الجديدة، مجلة شعر وما تلاها، ساهم في النسيان الشعري المعاصر الذي ابتدأ مع نهايات الخمسينات، من القرن الماضي، ولما كانت الكتابة تتحدد طبقاً لموازاتها الكاملة مع النموذج الخليلي، أو "نِصْف الخليلي"، لئلا ننسى العلاقة بين الشعر الحر والعمودي، جاء النسيان الشعري الجديد على خلفية تغيير العلاقة مع الأشياء، وأن ما أُخِذ في البداهة، يُرَدّ في السؤال، هذا إضافة الى موضوعة النثر وما حمله شكلها من صدمة، وحده. كانت الإفادة من التصوف لمصلحة الإيمان بتعالي الأنا، إذ افادت من نظامه المعرفي اللاتاريخي، فضمنت به تفوقاً سيكولوجياً يسّر كل أحلام التغيير في الشعر. هذه الانتقائية في التعامل مع التصوف لها أسبابها وسياقاتها، التي ما من ضرورة لذكرها الآن، إلا ان هذه الانتقائية أدّت الى ظهور آلية الإخفاء والإظهار: إخفاء المأسوية التي يتكتم عليها الوعي الصوفي، وإظهار تمجيده أحادي الجانب، للمستوى الذاتي.

وفي كتاب "الصيرورة/ شجرة تثمر فؤوساً" لعمار النجار، نقرأ شيئاً من تجاوز التمجيد الأحادي الجانب، واستدارة الوعي الصوفي الى المكان المغفل: مأسوية الإحساس الشعري، حيث يتأصل النسيان هنا كبادرة لإهمال الانتقائية، وليصبح تغيير العلاقة بين الأشياء ذا مرجعية شعورية حادة: "ما زالوا يركضون/ في كل اتجاه/ يركضون في الاتجاه الذي جاؤوا منه/ من دون أن يغيروا مجراهم/ إنهم يركضون وحسب". أو في قلب الأدوار الذي يجعل من ذات المتكلم بديلاً من الموضوع لتأمين الصورة المغفلة التي ذهبت في الانتقائية: "شجرة سرخسية/ تشمخ عالياً/ كأنما لا شيء/ يستحق/ بالأسفل". وهنا كيف يبدو وعي الوحدة مفتاحاً لإمرار العبث؟ "كان الإنسان صخراً/ وسيعود صخراً/ ثم يدركه السرمد/ ثم لا يدركه شيء". حتى ان انعدام الامكان في العثور على معنى ما للآنا يتحول حواراً بين الذات والذات.

بين الطبيعي والإنساني
التداخل بين الطبيعي والإنساني ينعكس في تبنٍ أجراه الشاعر للموضوع، فما عادت الصخرة مجرد إشارة الى الانغلاق، القسوة والصمت، بل هي المعنى غير المجازي عن الافتقاد والعزلة: "مرة تدحرجت صخرة كبيرة وسحقت المدينة/ لعلهم حزنوا على الأجساد المسحوقة/ لكن أحداً لا يدري أن الدم الذي يلطخ الصخرة/ من نزيف جراحها الدفينة". ومن قوة الإحساس بفاعلية الغائب، على حساب فاعلية الحاضر - الذات، فإن القوة الممنوحة للحي نقلت الى الموتى، في جدلية من الحياة والموت، على إيقاع تبديل الأدوار: "على هذا القلب/ تتفتت كل صخور العالم /أما صخرة القلب فلم تتفتت/ إلا على الخيط الواهي/ للابتسامة الشاحبة/ لميت...". هذا، وكل الرؤى المأسوية المشار إليها في كونها نسياناً للأنا الأعلى الشعرية المتعالية، صممت بدائلها الشعرية على أساس الوعي التوحيدي الصوفي الذي أشار إليه الشاعر أكثر من مرة: "من الصفصافة الكبيرة ورقة/ الورقة التي تأكل طرفها دودة/ الدودة التي يقضم ذيلها طائر/ الطائر الذي تلتصق بريشه الجهات/ الجهات العالقة/ بالأبد". مع نظام يرتب الثنائيات تبعاً لمفهوم مبدأ الإزاحة: "ما أكثر القش/ في مخيلة الغريق".

إن هذا التقابل بين نوعي الأنا - المتعالي والنسبي - ليس من شأنه، وحسب، أن يحدد أسباب النسيان الذاتي الخاص بالشاعر، بل يظهر مدى تأثير السيرورة التاريخية في تجربة الشعر، فلا يعود مقولة استباق للواقع، أو تأطيراً ميتافيزيقياً له، بل جدلية حية، من داخل، وبلا مقولة، بل بالتجربة وحدها.
يبقى طول القصيدة مكاناً صالحاً للتفكير بالتنامي الشعري، أو بقوة الفعل الدرامي، في البناء الشعري. والعلاقات اللغوية عندما تنضبط في سياق الفعل ورد الفعل، يصبح من الجائز توالد النص المفتوح، في أكثر من نهاية غير مدبّرة. كلما تقوّى الدافع الدرامي تكون النهاية المنتظرة الوحيدة عالماً من الصور والأفكار والانخطافات التي لا توحي وكأن الشاعر قادها في القسر والإرغام. ولأن الحس الدرامي يرتكز إلى المبدأ الثنائي الشهير، فلهذا يخصب واقع الاحتمالات الممكنة في النص. ففي المنظور الحسابي لعلاقة الثنائي الداخلية تكون الظاهرة الناتجة من ثنائيتهما أكبر بكثير من واقع التوحيد أو الاندغام. وحاولت الفلسفة الانتقال من الثنائية الى الوحدة فلم ينجم عن هذا الانتقال الاّ تعزيز الثنائية أكثر فأكثر، وقد انتهى الأمر مع ميشيل فوكو الى عودة الارتكاز الثنائي من خلال "القوة والمعرفة" كبنية تفكير ذات أساس كلاسيكي.

الشاعر أحمد السلامي في "حياة بلا باب"، غامر في طول نسبي للقصيدة، وهو اقتراح قد يفيد زيادة الربط الممكنة بين الشاعر وأسلافه. نسيانه، هنا، نسيان لسياق التغير في الكتابة، ممثلة شيئاً من المعارضة لمثيلاتها، سواء في الجيل الأدبي، أو الشخصية الشعرية. الثورة على الثورة لا تحتكر في الاجتماع السياسي، وحسب، بل في الاجتماع الشعري، إن أراد القائل دمج مفاتيح الاجتماعين، بعضهما بالبعض الآخر.

الهدوء الظاهري الذي يسم لغة الكتاب ما هو إلا محاولة لتزيين الابن بصفات الأب، ليس لأن الابن - المجازي - تضجر من إبنيته، بل لأن موقفاً أدبياً ما يختبئ في السطور، فتبدو الجملة هادئة، في الوقت الذي تتضمن جدلاً حاسماً: "يسكرون بالضجيج/ لا يبالون بسمعك الرهيف/ يكسرون عاداتك/ وبلا أسف يضحكون/ لا شيء يستحق الحركة/ ولا أحد كذلك". ضجيج الأبناء السعداء باكتشاف إبنيتهم ليس مصدره الحسم النهائي للوراثة وتسيُّد الواقع، بل مصدره ارتباكٌ مفترض، يُجمع عليه الجدد أنفسهم، بأن على المتمرد ألا يخلو بالكامل من مزايا المتمرَّد عليه: "لم أكن أعرف أنني وحيد لهذه الدرجة/ وحيد خيالات أبسطها أن أطير/ وحيد رغبات ألحّها الهدوء/ كل شيء يصرخ في وجهي بصمت/ ينبهني الى العزلة". ضمير المتكلم، هنا، وفي هذا الإيقاع السردي، لا يحقق الانطباع بالحميمية وحسب، ولكن فيه نسياناً للنسيان الحالي، حيث كثير من الأنوات الشعرية باتت تتعامل بعنف مع الأنا المتعالية، وتطرح نفسها المتمرد المطلق المناقض، لنراها في كثير من الأحيان في شك من ذاتيتها. الشاعر السلامي يتخذ الموقف المطالب بوراثة المتمرد للمتمرَّد عليه، وإلا ستكون الأنا حقلاً سهل العبور لحركة الآخر: "لا أحد، هنا يشبه نفسه (مطالبة علنية بعودة منتصرة للأنا)/ كل شيء عاد جديداً /كأن انخداعي بالأشياء يبليها/ السذاجة تصدق الحواس/ وثمة حاسة معطلة استيقظت للتو".

مغامرة السلامي في طول القصيدة، جاءت متوازية مع المزج بين أنا التعالي وأنا النسبي، وليس التنامي الذي ينتج من مثل هذه العلاقات إلا الاستجابة العفوية لهذا الصراع. وعندما نتحصل على طول نسبي للقصيدة، لديه، نضمن أن نوعاً من البلاغة تم تجاوزه، في هذه الكتابة. أي أنه يَرِث في مكان، ويثور في مكان. كل شروط الحس الدرامي توافرت، إذاً، وبلا تردد: "الصفر خصمٌ لحياد العبث ونقطة من عرق البداية/ العالم يلعب شوطاً طويل اليأس/ والحجرة ضيقة/ على رغم أنها بلا جدران". لكن نسيان البلاغة لا يلبث أن يستحضر المنسي نفسه، ليأخذ الكل صفات الكل، في مثل صورة أخّاذة كتلك: "منشار الفجر يقترب". كل احتمالات تفعيل دور الصراع، الكامن والظاهر، يوفرها السلامي، ومجرد تعزيز الصراع، كمرجع تقني للمعنى، يؤكد نسيان النسيان الذي يعمل عليه. فثروة الأب تُنفق بلا طائل، والأبناء يضيعون الوقت: "أريد الصمت الذي في نومهم/ ينامون/ وحبال أصواتهم تتلوى خارج الغرف".

الحس الدرامي، ذاك، يعبر عنه في أكثر من مصدر، عادة، في الشعر، صراع الخير والشر، البطولة والهزيمة، المرئي واللامرئي، وكل الثنائيات التي تتكفل النقض في ما بينها. ولكن هناك أشكالاً أكثر بساطة وأكثر حميمية تنقل هذا الحس الدرامي الى واجهة الاجتماع، والهدف هو هو، نسيانٌ للعلاقة، منتهياً الى نوع من الحلول والتسويات التي تكفل التوازن الموقت.

إذا كان طول القصيدة مكاناً صالحاً للبحث في الحس الدرامي، فإن التكثيف والاختصار ينطويان على أكثر من دلالة. فهما ممكنا الحضور في القصيدة الطويلة، أيضاً، لأن التكثيف، في النهاية، مسألة نوعية أكثر مما هو مسألة كمّية. لكن القصيدة القصيرة تزيد من "خطورة" الأثر الناجم عن تجاهل التكثيف، ففيها ينكشف الصوغ غير المكثف بسرعة وعنف، ما يترك انطباعاً بأن خللاً ما يتوزع هنا وهناك. ويتخذ التكثيف مسافة واحدة من كل الأطراف، فالكل يجب أن يستخدمه وينجح في صوغه. التكثيف، كاللغة، مادة الكتابة.

* * *

تجارب شعرية يمنية شابة تصطدم
بالأشكال الراسخة للقصيدة العربية

هنا جزء ثان وأخير من مقالة تتناول ست مجموعات شعرية صادرة في اليمن. وكنا أمس نشرنا الجزء الأول.
الشاعر محمد القعود في "الألم أناقتي"، يسلك التوقيعات طريقاً في نسيان المتن الشعري، فهو من خلال هذه التوقيعات يخرج من سرب المتن، ويدخل في انخطاف وتكثيف يعكسان موقفاً ما من الشعرية، أو لنقل من الأشكال الموجودة للقصيدة. والتوقيعات دأب عليها عدد من الشعراء العرب في الوقت الذي بدأت فيه مسألة قلق الشكل النثري بالظهور، وغياب إمكان معايرة كتلك التي رافقت بداية ولادة قصيدة النثر. ومن أشهر الكتب العربية في هذا المجال كتاب الشاعر أنسي الحاج (خواتم) الذي ما زال إلى الآن مثار جدل بين أوساط القراء من حيث التنوع الذي عكسه الحاج والنقلة في الكتابة الشعرية، ليتجاور الشعري بالتحليلي، والحدسي بالعقلي. ولأن هذه التجربة ما زالت تحتمل الكثير من العمل والتطوير والاستخدام فما زالت تمتلك الكثير من مزايا الجذب والاستقطاب على مستوى القراء، وليس الكتّاب وحدهم. محمد القعود دخل في دائرة التوقيع تلك عاكساً بعض "النهايات" في التجربة: "الأدب قنبلة موقوتة بالفقر". وكذلك انعطافة الى جهة السياسة تحتملها التوقيعات لأنها تستوعب الكثير، بل تكاد تستوعب كل مواضيع الكتابة: "الشهيد ما زال يبحث عن قبر يحميه من لصوص المبادئ".

اختيار الموضوع، في التوقيعات، أمر يبدو، للوهلة الأولى، سهلا ومتيسراً. وما هذا إلا لأن التوقيع فيه صفة السهل الممتنع، كما درج في أدبيات النقد الكلاسيكي، وسر جمالياته هو سر صعوبته، في آن واحد معاً. ومن "تقدمات" التوقيع توفيره لمزيد من القضايا التي لا يتطرق إليها، عادة، في الشعر. ومنها الحياة الثقافية للأديب وما يرافقها من مداخلات تظل كثيراً من الأحيان خارج النص. في التوقيع تصبح علاقات الثقافة علاقات نص: "نميمة الأدباء/ تنخر طاولة المقهى". وكذلك تمكن التسمية في إطار من طرافة مشهدية: "الخيانة أناقة الأصدقاء". وليس الوعي النقدي بالضرورة منقولاً عبر المنهجية الصارمة التي لا تعطي مفعولاً إبداعياً، الشعراء في تعليقاتهم يعبرون عن حس نقدي ما "تمتلىء قاعة الشعر/ بالشعراء والشعراء/ فتعتذر القصيدة عن الحضور". وهنا حيث يتداخل حكم القيمة مع حكم الصفة: "الشعراء المدججون بالحقد/ يبيضون فوق البياض/ قصائد فاسدة/ تضر بصحة اللغة والمحبة".

يفترض النص الذي آثر استبقاء النسيان في المربع الخلفي، موقتاً، بضعة أسئلة من أجل توكيد قانون شكلي ما، كقانون التفعيلة الذي كتب فيه جميل مفرّح كتابه (على شفاه الوقت). وهو الحاصل على جائزة الشعر في جامعة صنعاء عام 1999 لكننا نعرف من خلال ما كتبه علوان مهدي الجيلاني، في أول الكتاب، أن مفرح كان يكتب العمودي في الأساس ثم ما لبث أن اتجه الى التفعيلة. وتلك إشارة مهمة على الأقل كونها تشير الى انتقال ما، أو لنقل نسيان ما، بين كتابتين تختلفان في المعيار النقدي. يستجيب مفرح لما تتطلبه التفعيلة من إيقاع موسيقي يظهر المعنى وكأنه يتولّد في الموسيقى، أو الموسيقى في المعنى، في حركة بين هذين الحدين تنظر الكتابة بشغف انتظاراً للتحويل، أو للنسيان. ولعلاقة غير غامضة تربط الإيقاع بالعاطفة نقرأ ذلك الوجد الشعوري الموازي: "ليس معي/ سوى هذي مواجيدي براهيني/ فخذني صوب جنات/ الأحبة أنطفي". وهنا عندما تتكفل الموسيقى المساواة بين مفاتيح الكلام، ولا تعود المفردة ذات ألق ذاتي: "إذا غنيت/ مدي لي ظلالك/ بين روحي والبنان وصاحبي/ جسراً/ أدحرج فوقه ناري/ وثلج الوقت". وكون القول تخاطب به القصيدة، كما في المتن "سيدتي القصيدة"، فإن شيئاً من الانفعال الشفوي يسيطر على الكتابة، ربما لأن الموسيقى تفترض حداً من حدود الشفوية، والعكس ممكن، إلا ان المختبر الشعري، في الشعر العربي المعاصر، سعى الى تجاوزية الصوت عبر التغيير المستمر للنبر والتفعيلة ما يعطي انطباعاً بعدم كتابة القصيدة على التفعيلة أساساً، مع أنها مفعّلة، كقصيدة "وردة الأسئلة" لأدونيس، وبعض قصائد (سرير الغريبة)، و(لماذا تركت الحصان وحيداً؟) لمحمود درويش، حيث تبدو الموسيقى مسيطراً عليها الى درجة أن ليس كل القراء يتعرفون الى أنها على التفعيلة. لكن مفرح في قصيدة "قطعوا شفتيه" يستفيد الى أقصى درجة من غموض موضوعه، الغموض الشعري، فتبدو هذه القصيدة موغلة في الموازاة بين الموسيقي واللغوي، وكأن الصوغ فيها متجرد من أي شرط من شروط الارتباط مع التفعيلة: "دعهم يلهون/ فقد كشفوا أوراقاً/ كنت تخبئها/ لا تندم/ ما عادت تنفعك الأسفار/ الى لو كان..".لو كانت..." .

في قصيدة "ليس في رأسك خبز" يستطيع الموضوع أن يتفوق على الروي، لما فيه من متابعة مصرة على التحديد ورسم الدلالة، التي جاءت في هذه القصيدة، من خلال التذكر والاستعادة، الاستدارة اللاشعورية الى الماضي الطفولي المفقود: "الى الوجه/ الذي كنا عشقناه/ وكومناه في سطح مرايانا /قصائد /حينما يكبر/ لا ندري بأنّا نتكرر/ ربما ندري/ ولكن نتناسى/ أننا في شبح الطفل/ الذي كان/ نعاد". كما يلاحظ في هذا الكتاب غياب العوالم التي عادة ما تظهر في الآونة الأخيرة، من تصدع الأنا الشعرية أو التشكيك المطلق بالمعنى، والانقلاب الشمولي على المقولات، ربما لأن التفعيلة ترث شيئاً من تركة الأنا المتعالية والتي تربط وجود العالم بوجودها، ما يعطي إيماناً أكثر بالمكتوب، بالمعنى الشعري المحتوي للمعنى الإنساني.

أمام هذه الحال من التجربة الجديدة، في تنوعها، جدتها واستعادتها، يبرز السؤال عن التكوين الشعري، مع أن لهذا المستوى من المعنى ما يجعله لصيق الميتافيزيقا، إلا ان التكوين الذي سيظهر بعد هذه الإشارة، هو المعتمد على اضطراب السياق ومنعه من الهيمنة على الشكل أو تحديد مساره. عادة كان هذا الاضطراب مطلوباً لذاته، لأنه يعتبر التغيير الفوضوي للقوانين السائدة، الشعرية النقدية. منع السياق من التكفل ببقية الخطة الشعرية ليس لأن السياق فقد الصلاحية، بل لأنه يمتلك قوة سحرية على توحيد المتناقضات ما يجعل من الوصف استحالة غير قابلة للتحقق. السياق موضوع تقني صرف، فهو يظهر في الموسيقى، وفي النثر، وفي العمودي، وفي الكلام المحكي. قوة السياق وسياديته، تلك، تشوش على التكوين كثيراً، لأن التكوين نقيض السياقية، هو يعتمد تصعيد الدرامي الى ما فوق الدرامي، أما السياق فهو الانضباط والتقيد غير القابل إلا للتنامي الدرامي، كحد أقصى.
كتاب "ترميمات" لعلي المقري، مغامرة مفتوحة على التكوين الشعري، وهو صعَّد من عناصر المتن الى الدرجة التي صار فيها السياق من مخلفات الحروب الشعرية البائدة. ولهذا آثرنا في هذا المقال تأجيل قراءة التكوين الشعري، الى آخر جزء في المقال، لأن الكلام على التكوين الشعري هو آخر كلام يلي السياق. وهو ما حدث، حيث نحن إزاء مجموعة مصعَّدة من العناصر، التي إن "خلطت" أوراقها، باحتراف، سنتحصل على فضيلة من فضائل التكوين: النسيان. وهو ما نقرأ فيه جدة الشعر وقدامته، كما هو.

عادة ما يكون تغيير الافتتاح، في القصيدة الواحدة، حركة سيئة، بلغة الشطرنج، لأن تغيير الافتتاح يشير الى توقف التمهيد عن إنتاج عناصر في التنامي، فيلجأ الشاعر الى افتتاح جديد ليتحصل على تنامٍ آخر، فتطول القصيدة من خارج القصيدة، والقارئ المتمرن يلتقط مثل هذا الإنعاش الخارجي. ولا يقبله. لكن المقري يغير من الافتتاح لا كإنعاش من خارج النص بل استجابة تلقائية للتكوين: "نرجع الى أحجار الذاكرة/ قبل أن نواصل أو نظن الوصول/ لا رغوة الكتب/ ولا التماثيل الجديدة وجهتنا/ نغلق الكلام منبهرين كالنمل من أحجامنا/ ولأسباب أقل من الحرب/ نبقى نستمع الى مواء الريح"... إن قوة التكوين في هذا المقطع ترجع إلى العلاقات المتكتم عنها قبل رصد المدلول في شكله النهائي. حركة الريح التي عبر عنها بالمواء هي المسيطر الفعلي على الانتقالات غير السياقية التي أجراها، فهذه المفردة - الريح - هي المقابل الندّي للمعنى المنطوي والذي لا يمكن التقاطه إلا مجازاً. ولنلاحظ الموضوع أكثر يجب أن نشير إلى المستوى الكمّي الحجمي الذي سيحدد الأثر، بدءاً من "حجارة" الذاكرة، و"الرغوة" و"التمثال" و"النمل"، كل هذه المفردات جاءت لتخدم معنى الحجم، وقد قالها في الداخل مرة "... من أحجامنا"، تقابلها الريح التي هي سيدة الحجوم كلها، أما الأحجام الصغيرة التي يرثيها الشاعر، فكلها تستمع الى الحجم الأكبر: الريح. إن هذا الدمج للدلالة لا يتيسر كثيراً، والتكوين المعتمد على الإحالات قلما ينجح في التهرب من الافتتاح المتكرر. ونقرأ هنا أيضاً هذا النجاح في عملية التكوين: "مزاج الممرات/ في لمسة العرض /خطف اللفظ من طرف الثوب/ هناك على حافة الكلام". وكذلك في قصيدة "بياض لا يكفي". أمّا القصيدة التي جمعت التكوين في قالب مونولوجي فهي القصيدة التي حملت عبء النسيان الخاص بالمقري، قصيدة: (نص مغلق). التي لا يمكننا اجتزاء أي مقطع منها لأنها متعلقة ببعضها بعضاً الى درجة لا تمكن أبداً من التضمين. وهي قصيدة تكاد تختصر كل عناصر التنامي المطلوبة، مع تجاوزها للتنامي نفسه، من خلال التكوين الذي أشرنا إليه، في ما سبق.

المصدر : الحياة
2003/02/27