عناية جابر

عناية جابرقرأت (ذاكرة غانياتي الحزينات) جديد غابرييل غارسيا ماركيز في رهاني الشخصي والمبيت، لمّا كنت اعرف إلى رغبة ماركيز، المدوّنة على غلاف (الجميلات النائمات) لياسوناري كاواباتا وفيها يعلن ماركيز حرقته من عدم كونه صاحب رائعة كاواباتا هذه. حدست بشدة ان ماركيز يخمّر هوساً بربرياً بالجميلات النائمات ليتناول ان ينجز مثيلتها انجازاً نظيفاً وصحياً، يزيل معه اثر تلك الإهانة الروحية التي تلحق عادة بعظماء الرواية ومجانينها حين يأتي احدهم عملاً روائياً فارقاً وبالغ الأهمية، كما فعل كاواباتا في جميلاته النائمات التي أتاها عظيماً وبهياً، ما لم يغفره له ماركيز. لم يوجد مثيل للمذاق الحسي الصرف والمفرط الذي خاضه كاواباتا في روايته، حين اكتفى من الفكرة بحرفيتها، منصرفاً إلى رصد ذلك الشعور المثير والمرعب لرجل متقدم في السن، يختار ان يختتم آخر رغبات حياته، نائماً لصق شابة غافية بكامل عدة الشباب، ولا يملك في نومه لصقها سوى اقتناص ليلة من شهوة خامدة ومن إثارة حادة للجسد المهزوم بعمره.
ماركيز في ذاكرة عاهراته التي شاءها على غرار رائعة كاواباتا، غادر لذة التملي في جسد ديلغادينا، الطفلة النائمة قربه، وانتهى إلى الوقوع في الحب، لتمازج روايته في استيحاءاتها بين عمل كاواباتا، وبين (لوليتا) لفلاديمير نوبوكوف. ثمة مسافة واضحة لصالح الجميلات النائمات التي احتوت نوعاً من الكبرياء الإمبراطوري لشكل الرواية اليابانية شديدة الخصوصية، قصّر عنها صاحب (ذاكرة غانياتي الحزينات) بما انتهت إليه من غرام الرجل التسعيني بالطفلة الغافية بقربه، وهي نهاية تعبّر عن عالم مؤلفها الداخلي، العاطفي أبداً، والتي بدت كتأملات تلميذ بريء (ماركيز) حيال معلّم بارع (كاواباتا).
سقط ماركيز في الحب غير المفهوم وغير المبرر (رغم ان الحب غير مفهوم دائماً وغير مبرر) فسقطت روايته في فخ العادية، وضاعت الفكرة الاستثنائية التي أحبها ماركيز عند كاواباتا، ودعته غيرته إلى كتابة شبيهة لها.
الحب في (ذاكرة غانياتي الحزينات)، إفحام على منطق الرواية، وشيء أشبه بفكرة استحواذية على ماركيز، شيء أشبه بقدر القلوب الحارة، المرجانية، التي تصادر مصائر أبطال الروايات بما فيها الحياة الطبيعية لهذه الرواية نفسها، التي خلقت حياتها وقتلتها في آن. الموت عند ماركيز، غيره عند كاواباتا. فهو شيء حيّ يصادر الفراغ، ويخلق حركة أبدية، غير انه يتشظى في مزاج الكاتب. وقع ماركيز في الفخ العاطفي، الشرقي والهستيري، باعتباره البرهان الأكثر روعة لتلاؤم القارئ مع النهايات الأكثر رحمة. الرهان فقط كان يستحوذني، في تقصير ماركيز المتوقد المشاعر، أمام كاواباتا المعتد، المترفع عن المشاعر الساخنة، والذي قضى بأن بقر بطنه بنفسه، وبطعنته الحادة، التي لا تعرف الحب.

عن السفير
10 ابريل 2005