(الذكري الثالثة لرحيلها)

فاطمة ناعوت
(مصر)

فدوى طوقانمتى يبدأ الشعرُ؟ كثيرا ما سألتُ نفسي هذا السؤال. فكرت طويلا في صباي المبكر حول كيفية تكوّن الشعر عند الشاعر؟ ما هي اللحظة الأولي التي كتب فيها أول قصائده؟ وكنت كلما التقيت شاعرا أسأله: متى كتبتَ الشعر لأول مرة؟ وكان أن طرحوا إجابات كرونولوجيّة. أي تأريخ بداية الشعر عند كل شاعر بتاريخ أول قصيدة كتبها. ولم أكن أعني هذا بسؤالي، إنما كنت أود رصد اللحظة التي تنبت فيها نبتة الشعر الأولي داخلنا ولو لم نكتب قصيدة.
في كل قراءاتي عن تراجم الشعراء وجدتني أبحث عن هذه اللحظة، ويبدو أن سببَ اهتمامي بالأمر هو إخفاقي في تحديد لحظتي الخاصة. فكأنني كنت أبحث عنها بين أوراق الشعراء الآخرين علّ أحدهم نجح في رصدها. لأنني أؤمن أن لحظة الشعر الأولي تسبق لحظة القصيدة الأولي. ثمة نقطة مفصلية في الحياة نغدو عندها شعراءَ. وقد تتأخر القصيدة الأولي سنواتٍ بعدها، لا يهم، وقد لا تجيء أبدا، فيموت شاعرٌ بغير أن يكتب شعرا. ما جعلني أوقن من هذا، أنني قابلت شعراءَ كثيرين لم يكتبوا شعرا، لكن الشعر بادٍ في طريقة نظرهم إلي العالم وأسلوب حياتهم. فالشعر برأيي سلوكٌ ورؤيةٌ ومنهج حياة. وليس قصيدة.
يقولون إن الشعرَ يولدُ في رحمِ الشقاء. لكنني أري أن الشعر يولد في رحم الفقد والسلب. السَّلبُ هو الخالقُ الأعظم للخيال، وبالتالي الشعر، بوصف الخيال أداةَ الشعر الأولي. الحجبُ، أو عدم وجود الشيء، هو الذي يدفعنا أن نُفَعِّلَ خيالَنا لكي نري ما ليس موجودا. لأن الموجودَ تراه العينُ، والحواس جميعا، وليس من حاجة للخيال لرؤيته. وهنا أتكلم عن السلب كنقيضٍ للوجود، أي الغياب أو الفقد. فالأعمى مثلا بوسعه تخيّلُ الوجودِ والموجوداتِ علي نحوٍ أكثر ثراء وجمالا مما يراه المبصر. حيث أفق خياله يمتدُّ ويتجاوز المتاحَ و الممكنَ ليشارفَ اللامعقول و يتجاوزه إلي آفاقٍ لا يحدّها منطق. بينما المبصر مأسورٌ في حيّز المعقول والحواس وقوانين الطبيعة التي تكدست بها ذاكرته البصرية منذ ميلاده. وربما هذا يناقض تجربة أفلاطون حين قال لنتخيل أننا لا نري البشر لكن نري ظلالهم المنعكسة علي حائط الكهف الذي نسكنه ولم نبرحه مطلقا منذ مولدنا، هل يمكن أن نتخيلَ أن للبشر هؤلاء وجوها وملامحَ وتفاصيلَ وحيواتٍ متباينة؟ أم سنظن أنهم هكذا محض تهويمات متماوجة مسطحّة علي جدار؟ بالطبع أفلاطون كان يرمي إلي التأكيد علي كوننا لا ندرك الحقيقة كاملة بحواسنا المحدودة، لكننا دوما ما نري جزءا يسيرا منها أو لنقل نري إحدى صورها. لكنني أستشهد بهذه التجربة لأبرهن علي عكس ما أراد أفلاطون. فصورة الظلال المتماوجة علي الحائط قد لا تعطينا تصورا دقيقا وصحيحا عن شكل الإنسان وتكوينه الفيزيقي بأبعاده الثلاثة، غير ان غياب المعطيات البصرية من شأنه شحذ خيالنا إلي الدرجة القصوى لنخلق ذواتٍ متخيَّلة لا وجود لها إلا في مخيالنا. بل لو مددنا التجربة علي خطّها وعصبنا عيون قاطني الكهف هؤلاء ـ بفرض أنهم لم يروا بشرا من قبل ولم يروا أنفسهم أيضا ـ وأخضعناهم للرؤية السمعية وحسب، أي الرؤية عن طريق حاسة السمع فقط، ثم أعطيناهم أوراقا وأقلاما ليرسموا شكل الإنسان كما يتخيلونه، ألن نحصل علي ذخيرة خيالٍ لا حدود لها؟ وإبداعاتٍ تكوينيةٍ تملأ موسوعاتٍ تشكيلية؟ لا جدال بشأن أن البصرَ نعمةٌ هائلة، لكنه لونٌ من أسر الخيال بمعني من المعاني. وربما كان هذا هو السبب الذي دفع علماء النفس والباحثين في تربية الطفل إلي نصح الآباء بالحدِّ من ساعات مشاهدة الأطفال للأفلام المتحركة، الكرتون، لأنها تبتسر مقدرة الطفل علي إطلاق خياله. ونحن، من تربينا علي قراءة المكتبة الخضراء التي تحكي لنا عن الجنيّات والكهوف المسحورة وغيرها بالقليل من الصور والكثير من الكتابة، نعرفُ كيف تكوَّن خيالُنا. كنا نقرأ الفقرةَ السردية ثم نسرح قليلا لكي نبتكر المعادل البصري لما قرأناه من كلمات، نخلق ونركّب صورا ومشاهدَ من لدن خيالنا، كنا مضطرين إلي خلق رسومنا المتحركة بأنفسنا معتمدين علي خيالنا الحرّ غير المأسور بمنطق أو قانون أو حتى اتساق لونيٍّ أو اتزانيٍّ.
أحببت أن أكتب هذه المقدمة لأختبر مدي تطبيق هذه الفكرة علي الشعر. هل ينبع الشعر من الخيال؟ أظننا جميعا نتفق علي هذا. والسؤال الثاني هو: هل ينبع الخيال من الفقد؟ بمعنى كلما ثَقُلَ الغيابُ انطلق الخيالُ. جبلية.عن الموجود في العدم أمكننا رسم صورٍ له أكثر ثراء وجمالا؟ لو كانت الإجابة نعم فيمكنني القول مطمئنة: إذن يولد الشعرُ في رحم الغياب. الفقد. راودتني هذه الفكرة حين قرأت عن حياة فدوى طوقان. فالقارئ سيرتها الذاتية في كتابيْها: رحلة جبلية... رحلة صعبة و الرحلة الأصعب، يعرف أن هذه الطفلة قد خبَرت الفقدَ وعالجته في أولي سني حياتها وهي بعد في السادسة من عمرها. أحبت معلمتَها زهرة في السنة الأولي الابتدائية. أحبتها إلي درجة التقديس، حيث صرّحت أنها كانت تودُّ لثمَ يدِها البيضاء حين تضعها علي مكتبها بالفصل. كانت تتأمل وجهها الطيب الفاتن بفرحة تأمل عاشق لمحبوبته. واختفت هذه المعلمة فجأة لمرضٍ ألمَّ بها. فكادت الطفلةُ فدوى أن تُجن وجربت الانتظار والترقّب والحزن للمرة الأولي. أظن أن نبتة الشعر قد شرعت في البزوغ في صدر الطفلة فدوى طوقان تحديدا في تلك اللحظة. وللفقد معنى أشمل من فقد من نحب. فماذا عن فقد الحب ذاته كقيمة وجودية ضرورية لكل كائن حي؟ وهو ما اختبرته فدوى أيضا في طفولتها. حيث صرّحت بأنها كانت طفلا غير مرغوب في وجوده حتى أن أمّها حاولت إجهاض نفسها فيها غير مرّة. وكذا صدمة أبيها حين جاءت بنتا وخيّبت أمله في أن تكون ولدَه الخامس. وسلسال الفقد لدي فدوى طوقان لا ينتهي بدءا بما سبق وليس انتهاء بفقد الوطن، سيما إذا كان الوطن هو فلسطين التي ظلت تغيب شبرا شبرا على مرأى منها ومسمع. ظهرت محنة فلسطين في شعر فدوى طوقان علي استحياء وفي خفوتٍ في مرحلتها الشعرية الأولي منذ صدور أول ديوان لها عام 1952، وحتى نكسة 67. ثم ظهرت بجلاء في المرحلة الثانية بعد حزيران (يونيو) الأسود إن جاز لنا التقسيم المرحليّ للشعر. ولهذا تراجَع الناقد فخري صالح عن رأيه السلبيّ في شعر فدوى طوقان الذي أخذ عليه في البدء غياب فلسطين ومحنتها عنه. فبعدما أعاد قراءتها وجد أن الوطن لم يغب مطلقا عن شعرها حتى الأول منه، ولكن طرائق المعالجة تبدّت في خفوت تحت ظلال الذات وتحت ظلال محنة المرأة في مجتمعنا الشرقي. الرؤية الحداثية للشعر لا تصنف الموضوع حسبما يصرّح الشاعر، لأن ثمة قيما وخيوطا مستترة بين سطور النص قد تكون أشد وطأة علي نفس الشاعر لحظة الكتابة وإن لم تبن بجلاء في متن السطور. فالذين صنفوا شعر فدوى طوقان قبل النكسة بأنه شعرٌ رومانسي بحت هاجسه الأساسي هو الذات وحسب، نسوا أن الذات لا وجود لها بغير الآخر، وأن الأنا وحدها، في معزلٍ عن الموضوع، تساوي صفرا، ولا تصبح واحدا صحيحا إلا عبر علاقتها بالآخر/الموضوع. ولذلك فلا أفهم معني أن يكون الشعرُ ذاتيا محض، لأن الشاعر حين يكون همَّه الذاتُ فهو إنما يتكلم عنها من خلال معطيات الآخر وعلائقها به، ولذا فمن الصعب الجزم بأن شاعرا ما تؤرقه قضية كبري مثل قضية فلسطين بينما آخر لا يعبأ بها، الفروق قد تكون في طرائق الطرح. فثمة شاعر يلجأ إلي الإفصاح المباشر مثلما يفعل شعراء المقاومة مثلا - وهو ما لجأت إليه فدوى طوقان في شعرها المتقدم - وثمة من يشير إلي مأساة العروبة من طرفٍ خفيٍّ لا يغيب عن عين قارئ حاذق.
يتجلي الفقد أو الحرمان بصورٍ كثيرة في حياة فدوى منها حرمانها من استكمال تعليمها. لكنها لم تستسلم لوضعها النوعيّ في مجتمع شرقي ذكوري بطريركي، بل ثقّفت نفسها بنفسِها، تماما كما فعلت فرجينيا وولف ابنة المجتمع الفيكتوري الصارم. ولعلَّ أكثر ألوان الغياب إيغالا في حياة طوقان، إلي جوار غياب الوطن، هو فقد ألصق قيمة بالمرأة: الأمومة، فهي لم تتزوج ولم تنجب لكنها عوضا عن هذا أثْرَتِ المكتبة العربية شعرا.
تجلّت شجاعة فدوى طوقان الأدبية في اعترافها بقصص حبّها وكذا في إقدامها علي كتابة حياتها. إذ تُعدُّ من الأدباء العرب القلائل الذين كتبوا سيرتهم الذاتية. فهذا الجنس الأدبي غير شائع في مجتمعاتنا العربية كما هو عند الغرب لاعتباراتٍ كثيرة. وهذا ما دعا الباحث السويدي تيتز ووكي للخوض في هذا الأمر في أطروحته للدكتوراه التي جمعها في كتابٍ بعنوان في طفولتي والتي درس فيها آلية أدب السيرة الذاتية العربية. وكان كتابا فدوى طوقان: رحلة صعبة و الرحلة الأصعب من ضمن نماذج التطبيق التي تناولها الكتاب.
فدوى طوقان ابنة فلسطين هي ابنة مصر أيضا أدبيا، حيث أولي قصائدها نُشرت في مجلة الرسالة المصرية التي ترأس تحريرها أحمد حسن الزيّات. كما شهدت مصر ميلاد ديوانها الأول وحدي مع الأيام عام 1952. أما كتابها رحلة جبلية، رحلة صعبة فقد تم نشره مسلسلا في مجلة الدوحة بتشجيع من ناقدٍ كبير مصري أيضا هو رجاء النقاش رئيس تحرير الدوحة وقتها، وطبعا غنيٌّ عن القول الكلام عن تشجيع الناقد المصري أنور المعداوي لها كذلك. في ذكري رحيلها الثالثة التي تحل في 13 من كانون الاول (ديسمبر) أقول لها: ما ماتَ صاحبُ قلم.

القدس العربي- 27/11/2006