فاطمة ناعوت
(مصر)

فاطمة ناعوت"أنشَغِلُ بالدفاعِ عن قيثارتي، أكثر مما أعزفُ ألحاني"، عبارةٌ قالها عبد الرحمن الخميسي ليلخّصَ بها حالَ معظم كتّاب العالم الثالث. أما يوسف إدريس فقال قبل ذلك: إن الحريّات التي تُمنح لكلِّ الكتّاب العرب مجتمعةً لا تكفي مبدعًا واحدًا ليكتب. والحال أن الكاتبَ العربيّ يعي،منذ لحظة قبضه على القلم، أن سقفًا للخيالِ و حريّة الفكر سوف يظلّل كلمتَه إذا نشد السلامةَ لقيثارته وعدم المصادرةِ للحنِه. لكن الجديد من عجائب العرب هو مصادرة فكر الكتاّب الغربيين أيضًا. تطبيقًا لمبدأ: المساواة في المصادرة عدل. فها هو كتاب "شفرة دافنشي" وفيلمه يمنعان من دخول مصر بقرار من مجلس الشعب ووزير الثقافة! فأي برلمان وأي ثقافة!

سيذكرنا هذا رأسًا بكتاب "ثقافة كاتم الصوت" الصادر عام 2003 عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان. العنوان الدالُّ للكتاب نحتَه مؤلفه الشاعر المصري حلمي سالم. وهو أحد المهمومين بقضايا الثقافة العربية وحرية الفكر. والعنوان يشي بجلاء عن طبيعةَ الثقافةِ العربيةِ كما يراها المؤلف. سواء الراهنةَ، وكذلك منذ بداية القرن العشرين،"قرن المصادَرات" بتعبير الكتاب. ويفنّد المؤلف كمَّ القمع السُّلطويَ والدينيّ الذي كبَّلَ كُتّابَ ومفكري وفناني تلك الحقبة من تاريخ مصر الحديث. فيخلُص الكتابُ، في الفصل الأول، إلى المفارقة المدهشة أن القمع الفكريّ اطرِّدَ بمرور الزمن خلال هذا القرن، رغم سيادة ومدٍّ الفكر الليبرالي على المجتمعِ المصري آنذاك. فالنصف الأول من القرن الماضي قبل يوليو 52- وقتَ أطرقت مصرُ تحت رزح المثلث المظلم: الاستعمار والإقطاع والرأسمالية– كان أقل إزهاقًا للفكر المعاكس وأكثر وعيًا بحقِّ الآخر وحريته في التعبير عمّا كان عليه الحال في النصف الثاني من القرن ذاته. ذاك العصر الذي شهد ثوراتٍ وطنيةً وحركات تحرّر كان من شأنها تسييد التعددية و الاعتراف بالآخر. والمسألة كلها تدور في فلك النسبيّ بطبيعة الحال، إذ لا زمن ثمة تميّز بالحرية المطلقة فيما يبدو. وهو ما يكرّسه الكاتبُ حين صدّر الكتاب بقوله إن عقدًا واحدًا في القرن العشرين لم يخلُ من مصادرة. غير أنه ردَّ اختلافَ طبيعةِ الحركةِ الثقافيةِ في مصر، قبل وبعد ثورة يوليو، لا إلى المرَّد الإحصائيّ، الذي يقارن بين عدد المصادرات في الحقبتين وحسب، بل إلى طبيعة و جوهرِ الجدل والحوار الفكريّ في أول القرن وآخره. ففي حين تمت ثلاثُ مصادراتٍ للرأي في أول القرن، إلا أن هالةً من الرقيّ والرفعةِ والنبالة ظللّتْ الحواراتِ والسجالات الفكرية في تلك المرحلة. وهو الملمح الذي نفتقر إليه بقوة في زماننا الحالي. " والمثال الأشهر على ذلك الجدل الرفيع- كما يقول حلمي سالم- الذي تم بين إسماعيل مظهر حينما كتب "لماذا أنا ملحد؟" ومحمد فريد وجدي،حينما ردَّ عليه بأن كتب "لماذا أنا مؤمن؟" ثم أحمد زكي أبو شادي حينما كتب "عقيدة الألوهة". أما الدلالة المريرة التي يخلص إليها الكاتب من تلك المفارقة فبدت في قوله: "كأن حكومات الاستعمار والرأسمالية و الإقطاع كانت أرفق بالمفكرين والمبدعين وأقل تعنتًا إزاء حرية الرأي من حكوماتنا الوطنية التحريرية!".
يحلل الكتابُ مفهوم التطرّف، الذي حتمًا ما يؤدي إلى الإرهاب، نافيًا كونه رهنًا ووقفًا وحصرًا على التيارات الدينية المتشددة وحسب. فليس صحيحًا أن التطرّف هو بالضرورة دينيّ وحسب. لأن نظرةً أكثرَ عمقًا ستشير إلى تطرّف سياسيّ ناجم عن سيادةِ الهيمنة الواحدية للنظم الحاكمة، وإلى تطرّفٍ اجتماعيٍّ ناجمٍ عن خلل في الهيكل الاجتماعي والاقتصادي للمواطن المصري بين ثراءٍ فاحش وفقرٍ مهين. ويذكرني هذا بصديقي الأستراليّ العجوز الذي قال لي مرةً إن مصر– بلد الأهرامات- هي البلد الوحيد التي غابَ عنها "الهرمُ" الاقتصاديُّ الشهير الذي يحتلُّ قاعدتَه العريضةَ متوسطو الدخل وقمَّتَه الضيقةَ بالغو الثراء، وإن ما يملكه أثرياءُ هذا البلد كافٍ لإصلاح هيكل الهرم المفقود. ويضيف المؤلف إلى ألوان التطرّف والإرهاب السابقة، إرهابًا، هو الأشد إيلامًا وغرابةً وهو "إرهاب النخبة المثقفة"، حيث، "مرّت تجاربُ وامتحاناتٌ وأزماتٌ عديدة أثبتت فيها النخبة المثقفة أن أقسامًا منها لا تطيق الرأي الآخر لأقسامٍ منها، وتعمل جاهدةً على إخماد هذا الرأي أو إخماد أصحابه، على نحوٍ يعني أن جرثومة احتكار الصواب المطلق لا تعشش في ثنايا السلطة السياسية العربية ولا في طوايا الإسلام السياسيّ المتطرّف فحسب، بل هي كامنة في حنايا المثقفين."
يؤكد الكتاب على ضرورة (تفعيل) الشعاراتِ التي قفزت إلى الميديا الإعلامية بعد أحداث سبتمبر 2001 من قبيل "تجديد الخطاب الديني" و"حوار الحضارات لا صدامها" و"تحسين صورة الإسلام في الإعلام الغربيّ" مؤكدًا على إن تجديدَ الفكرِ بكلِّ ألوانِه هو ضرورةٌ عضوية لكل أمة حيّة كلونٍ من ألوان التفاعل الحيّ مع التحولات الدائمة التي تحدث في الأمة و العالم وعليه فإن تجديدَ الخطاب الدينيّ ضرورة تنتهجها الأمم الراغبة في التقدم بصرف النظر عن الرغبة في تحسين صورتها في عين الآخر.

يتناول الكاتبُ ثورة يوليو بالتحليل السياسيّ والاجتماعيّ راصدًا الأسباب وراء فشلِها في طرح نظرية اجتماعية/أيديولوجية/سياسية واضحة المعالم. فقد كان مجلس قيادة الثورة– الذي ينتمي أعضاؤه إلى طبقة البرجوازية الصغيرة ذات الطبيعة المتذبذبة- مزيجًا فكريًا متعدد المشارب متناقضُها من إسلاميين شيوعيين وليبراليين، الأمر الذي لم يسمح بصقل منهجٍ نظريٍّ وحيد يتفق عليه الكل، والاكتفاء بالتنظير للأهداف الستة المعروفة للثورة. غير إني سأختلف مع المؤلف حين أرى أن هذا الملمحَ التعدديّ لقادة مجلس قيادة الثورة كان من شأنه خلق عقل قياديّ وتنظيمي وتخطيطيٍّ واسع الرؤية لا ينطوي على النظرة الواحدية الجامدة، وأن عقلا كهذا كان حريّ به أن يحقق ثورةً ناجحةً مرنةَ المنهج لو كانت اكتملت على نحوٍ صحيّ. يضيف الكاتب إلى أسباب فشل الثورة الطابعَ "العسكريتاري"، بتعبير صلاح عيسى، الذي كرسَّ التعامل القمعي المستبد– حدَّ التصفية الجسدية- مع كل التيارات المناوئة له فكريًا. يقدم الكتاب أطروحته عن ثورة يوليو ليلقي الضوء على طبيعة قادتها وكيف سيتعاملون مع التيارات الفكرية والأدبية والثقافية التي أفرزتها تلك الحقبة. إن عدم انتظام أيديولوجيا محددة للثورة جعلها تتسم بالطابع التجريبيّ غير الممنهج الذي ينتهج مبدأ التجربة والخطأ. هذا التجريب دفعها إلى التأرجح والتخبّط بين المعسكريْن الاشتراكيّ و الإمبريالي. حلّتِ الأحزابَ السابقة عليها وأبقتْ على الإخوان المسلمين حتى حادثة المنشية عام 1954. تلك الحادثة التي جعلت مجلس قيادة الثورة ينتبه إلى خطر تلك الجماعة فدفعت بهم إلى المعتقلات والمقاصل. وانتهجت مسلكا علمانيا حين أعلنت الأزهر مؤسسةً رسمية جامعةً مدنية تستمد منه الصفة الشرعية الدينية على ألا تمنحه سيادةً لاهوتية، كما إنها رفعت لواء الاشتراكية بغير أن تنتهج منهجها الاقتصادي الاجتماعيّ الفكريَ الكامل فكانت النتيجةُ رأسماليةَ الدولة بغير ملكيةٍ عامة لوسائل الإنتاج كما هو مفترض. "وكان من أخطر مظاهر هذا الطابع التجريبيّ البرجماتيّ للثورة، كما يقول حلمي سالم هو "الفصل بين الديمقراطية الاجتماعية والديمقراطية السياسية". ليكتشف المثقفون المصريون أن انكسارة حزيران الأسود كانت نتيجةً لمقايضة الديمقراطية الاجتماعية بالديمقراطية السياسية، لأن تلك الديمقراطية الاجتماعية لو تحققت بالفعل فلا سبيل إلى حمايتها إلا بالديمقراطية السياسية. ومن ثم فلا غنى لواحدة عن الأخرى وبالتالي فتلك المقايضة عبث وخداع. يفند كتاب " ثقافة كاتم الصوت " ثورة يوليو 52 على نحوٍ دقيق راصدًا إيجابياتها وسلبياتها على كل الأصعدة، سياسيا واجتماعيًا واقتصاديًا و ثقافيا و فنيًا، مؤكدًا أن أجلى أخطاء الثورة، والذي مازلنا ندفع ثمنه حتى الآن، هو البند الذي ينص على دين الدولة في الدستور. الأمر الذي يجعل من غيرِ المسلمين غيرَ مصريين أو على الأقل مواطنين من الدرجة الثانية وهو ما يناقض دستور ثورة 19 الذي قال الدين لله والوطن للجميع. كما يؤكد الكتاب على أن سلبيات الثورة لم تنشأ جميعها من داخلها لكن بعض رموز الثقافة وقتها قد ساهم في تأكيدها واستشراء مضارها بل والتبرير لها أيضًا. على إنه على الجانب الثقافي، يقرُّ بمساهمة الثورة في ترسيخ عددٍ من القيم والمنجزات الثقافية الإيجابية. مثل إنشاء أول وزارة للثقافة في مصر عام 1958، وكذلك العديد من المؤسسات الثقافية الأخرى. ومثل تطبيق مبدأ حق التعليم لكافة أبناء الشعب، والمساعدة على تعميق ملمح الواقعية في الأدب الذي يهتم بالقضايا الاجتماعية عوضًا عن الحسِّ التحريري والرومانتيكي الذي وسم أدب ما قبل الثورة، وانتعاش المسرح والسينما وحركات الترجمة، وتحويل الأزهر إلى جامعة مدنية علمانية تدرّس العلوم الدنيوية والإنسانية لا التشريعية الثيوقراطية فحسب، وأيضًا التأكيد على الطابع المدنيّ والعلمانيّ في شتى أمور الحياة. ويختتم الكتاب هذه الحقبة بعرض شهادتين توثيقيتين هامتين. إحداهما تجسد أزمة جيل الخمسينيات الذي كُسرَ حُلمُه في حزيران المرير، وهي قصيدة "مرثية العمر الجميل" التي كتبها أحمد عبد المعطي حجازي، والثانية شهادة المؤرخ والصحافي صلاح عيسى في كتابه "مثقفون وعسكر". تلك الشهادة التي تناولت حقبتين مهمتيْن تمثلان أخطر المنعطفات في تاريخ مصر الحديث، وهما مرحلتا الناصرية والساداتية. إذ تؤرخ لستينيات وسبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن الماضي. يتناول الكتاب أيضًا بالنقد والتحليل أطروحة عادل حسين حول منهج "التراثيين الجدد" أو "المعاصرة المؤصلة" كما سماها عادل حسين في كتابه "نحو فكرٍ عربيٍّ جديد" فيحلل الكاتب هذا المنهج الذي نظّر له مفكرون خارجون من أصول فكر ماركسي، ويرى حلمي سالم أن هذه الظاهرة أحرى بها أن تُتناول بالبحث و الدراسة و الحوار حيث يقول: "والحق أن هذه الظاهرة لم تأخذ بعد حقَّها من البحث والتفسير والتحليل في حياتنا الفكرية الراهنة:من حيث مبررات هذه الانتقالة الكبيرة شبه الكاملة، وظروفها النظرية والاجتماعية وآفاقها المستقبلية."ثم يقدم حلمي سالم قراءةً نقدية في كتاب "اغتيال العقل" للمفكر السوري د.برهان غليون ويناقش أزمة النهضة العربية وأزمة الثقافة المعاصرة. ثم يعرّج إلى "مقدمة في فقه اللغة العربية" وهو الكتاب الذي توفر على إعداده د. لويس عوض لمدة عشرين عاما، وصدرَ بالفعل عن هيئة الكتاب المصرية عام 1980، ليتم مصادرته بعد مدة وجيزة من صدوره بمعرفة لجنة الفتوى بالأزهر. الكتاب الذي يتتبع منشأ اللغة العربية وأصولها التي تشتبك مع أصول اللغة الهندية، وكذا يتناول بالدرس ال logos ، أي المبدأ العقلاني في الكون وكلمة الله في الفلسفة اليونانية القديمة ويثير من جديد القضية التي تنازعها الفقهاء قديما حول مدى صحة ارتباط القرآن باللغة العربية وبالتالي حداثته، أم ارتباطه بكلمة الله وعقله قبل الخليقة،أي في اللوح المحفوظ وبالتالي قِدَمه وسرمديته، وهو ما يؤدي إلى كوْنِ اللغة العربية قديمة قدم الخليقة ذاتها. و يؤمِّن لويس عوض على قول المعرّي، وهو أحد المنحازين للمعتزلة، في مقولته إن القرآن والعربية مُحدثان الأمر الذي ينزع عن اللغة العربية قداستها و يجعلها محض لغةٍ مثل كل لغات الأرض نشأت بمعرفة الإنسان وتتطور بمعرفته أيضًا. ويتوقف حلمي سالم عند تلك المفارقة التاريخية : إن ما قَبِلَه المجتمعُ العربيّ قديما كمادة جدلٍ وحوارٍ بين الأشاعرة والمعتزلة حول أزليةِ وقداسةِ اللغةِ العربية أو استحداثها ومساواتها باللغات الأخرى، هو ما يرفض الأزهر اليوم مجرد مناقشته في كتاب! فيصادر ويجهض فكرَ أحد أهم المفكرين العرب لويس عوض. يتناول بعد ذلك كتاب "ثقافة كاتم الصوت" قضيتيّ علاء حامد وسعيد العشماوي مقارنًا بين محاكم التفتيش الكَنسية في العصر الوسيط في أوربا القرن ال 17 قبل الرينيسانس، وبين الأزهر كقلعةِ عِلْم وتنوير في القرن ال21 أو كما ينبغي له. يعرض الكتاب أيضا لقضية ناجي العلي الذي أثار اغتيالُه في لندن الرأيَ العام العالمي. ويفرد سالم فصلا كاملا عن اغتيال فرج فودة على أيدي فرديْن من جماعة "الجهاد" بوصفه أحد العلمانيين المهاجمين للتطرف الديني المتشدد، ويتوقف الكاتب عند غرابة رأي الغزالي– أحد الأئمة المستنيرين– الذي أقرَّ بشرعية إهدار دم فرج فودة غير أنه أشار إلى خطأ التنفيذ، إذ كان يتوجب القصاص منه بمعرفة الدولة لا الأفراد!! وينتهي هذا الكتاب البانوراميّ التأريخي الغنيّ، الذي يستعرض تفاصيل أغلب المصادرات الفكرية و الإبداعية والجسدية عبر قرن كامل من تاريخ مصر، بفصلٍ كامل يخلُص إلى أن المصادرة الوحيدة التي لم تتم وأحرى بها أن ترى النور،هي "مصادرة المصادرة". وفي الأخير، لن أكون واهمةً لأنادي بأن تهبنا أنظمتنا السعيدة شيئا من حرية الكلام والكتابة والسلوك وتكوين أحزاب إلى آخر تلك الأحلام العبثية، فأنا عربيةٌ تعي حدود أحلامها المتاحة. وأهل العروبة أدرى بأحلامها على قياس "أهل مكة أدرى بشعابها". لكنني سأنادي حكومة بلادي بشيء أبسط وهو أن يهبوا الحريةَ للكتّاب الغربيين المعاصرين، أو على الأقل الموتى منهم، فلا تقصف مثلا ريشة ليوناردو دافنشي الإيطالي الذي مات قبل خمسة قرون. حتى يرتاح في رقدته الأخيرة دون كتم لصوته.