فاطمة ناعوت
(مصر)

مأساة ابن رشد

فاطمة ناعوتنظر شيخٌ جليلٌ إلى المرآة المعدنية في زاوية غرفته، ثم راح يتأمل وجهَه الوقورَ ذا اللحية البيضاء وهو يتلاشي شيئًا فشيئًا حتى اختفى تمامًا من الوجود. هو الشيخ ابن رشد أو أفيروس، الفيلسوف العربيّ الأشهر، كما صوّره بورخس في روايته "البحث عن ابن رشد -La Busca de Averroes". كان ابن رشد متوفرًا على ترجمة أحد مؤلفات فيلسوف إغريقي تفصل بينهما أربعة عشر قرنًا من الزمان، كي يُضمّنه الفصل الحادي عشر من كتاب "تهافت التهافت" الذي يحاجج فيه كتاب الإمام الغزالي "تهافت الفلاسفة". ولما كان لا يعرف أيًّا من اللغتين اليونانية أو السريانية، فقد اضطر ابن رشد إلى ترجمة كتاب "فن الشعر" لأرسطو عبر لغة وسيطة. جاء المساء، واصطدم الرجل بكلمتين عسيرتين في باب الشِّعر. كلمتان لم يجد لهما مقابلا مفهومًا في لغته العربية. التراجيديا والكوميديا. يذكرُ الآن أنه كان قد تعثّر بهما قبل عدة أعوام في الكتاب الثالث لعلم الجمال. لكنه في هذه اللحظة مطالَبٌ باستيعاب المعنى الدلاليّ الحقيقي للمفردتين. ثم هو مطالَبٌ بعد ذلك بوضع تعريبٍ لهما في متن مخطوطه. تعريبٌ دقيق ودال بوسع كلِّ عربيّ يقرأ الكتاب أن يقبض على الجوهر العميق لكل مفردة منهما. كيف السبيل للحصول على معنى يشرح مفردتين تخصان فنِّ المسرح داخل ثقافة لم تعرف مطلقًا فن التمثيل أو المحاكاة؟ ما أفاده شيئا تصفُّحُه الإسكندر الفردوسي ولا التقليب في طبعات النسطوري وأبو بشار متى وحنين بن إسحاق ولا حتى قراءته كتاب "العين" للخليل. والمشكلةُ أن هاتين الكلمتين المبهمتين كانتا متجذرتين ومنتشرتين في طول النص الخاص بالشعر وعرضه ومن ثم مستحيلٌ حذفهما. وضع ابن رشد القلم وانخرط في التفكير. ثم،... الحزن. لم ينتبه ابن رشد للدرس الذي أرسله له القدر لحظتئذ. إذ جاءه عبر الشرفة صوتُ صبية صغارٍ يتصايحون. ثلاثة. أحدهم كان يؤذن وقد اعتلي كتفَ زميلِه الذي كان "يحاكي" دور المئذنة، بينما الثالث راح يركع ويسجد كأنه المصلّون جميعًا. لم يعر ابن رشد هذا المشهد التفاتًا. ويائسًا كسيفَ البال، ذهب الشيخ إلى أصدقائه واستفتاهم في أمر المصطلحيْن اللذين استغلقا عليه. وطبيعيٌّ أن عجزَ الجميعُ، مثله، عن حل اللغز خلال البحث عن دلالة لهما داخل معينهم الإسلاميّ الفقهيّ العربيّ. عاد بن رشد إلى صومعته وراح يتأمل وجهه في المرآة. ثم اختفى.

"الجوهر النشط" لفعل الترجمة

هل تصلح تلك الحكاية البورخسية ذات الدلالات العميقة كبداية للولوج داخل الجوهر العميق لمفهوم فعل "الترجمة"؟ بوصفها، ليس وحسب نقل كتب وأفكار ومعلومات ومنجز معرفيّ من شعب إلى شعب، بل بوصفها عمليةَ إشعاعٍ مركزيّ لروح ونسغ حضارة قطعت شوطًا في مسار البشرية في اتجاه ما، إلى شعوب أخرى لم تصل إلى نقطة الضوء ذاتها، ربما لأنها كرسّت جهودها نحو اتجاه آخر من دروب المعرفة فقطعت فيها أشواطا أكثر، سوف تشعها عبر الترجمة بالمقابل إلى شعوب أخرى وهكذا. الترجمة بوصفها اختصارًا للزمان والمكان وحرقًا لمراحل قطعتها بالفعل حضارة ما في حقلٍ معرفيٍّ وفنيّ ما، فتختصرَ على الحضارات الأخرى مراحل البدايات والتكرار ما يحقق مبدأ التراكم المعرفي والقفز نحو المستقبل في اتجاه واحد لا تعرجات فيه ولا نكوصات. أين تكمن مأساة ابن رشد السابقة من وجهة نظر بورخس؟ حسب قصة بورخس، التي قد نختلف مع مضمونها الساخر غير أننا سنأخذها مأخذ الفن الذي لا ينبغي أن يُحاكم إلا جماليًّا، لقد نقل ابن رشد "شكل" الفكر الإغريقي، أو العباءة الخارجية له المتمثلة في بعض الكتب الأرسطية، وأغفل، أو عجز عن، نقل "روح" الحضارة الأثينية التي برعت في فنون شتى سبقت فيها جميع الحضارات المحيطة آنذاك. فبلاد الإغريق قد حظيت ببيئة علمية وفلسفية متقدمة ورفيعة منذ القرن الخامس قبل الميلاد، وازدهرت فيها الثقافة بألوانها من أدب وفلسفة وطب، وبرعَ الإغريق، فيما برعوا من فنون، في الفن المسرحي ونظّروا له كعلمٍ وفنٍّ له مدارسُه وأنماطُه وطرائقُ ولوجِ جوهرِه النشط. وأما ابن رشد ابن العرب، على سعة ثقافته وعمق عقليته الموسوعية التي ألمت بعلوم وفنون شتى، ورغم ذهنيته العاقلة غير الناقلة، إلا أنه ابن أصيل للحضارة الإسلامية الكهنوتية التي لم "تقترف" فن المحاكاة ولم تعرفه، بل ربما تعدّه أحد المهالك البشرية والزلاّت التي لا يرتكبها إلا كافر. قرأ ابن رشد واستوعب الفكر اليونانيّ حدَّ أن أصبح أحد أهم شُرّاح الفلسفة الأرسطية، بل كُنّي غربيًّا بـ"الشارح"، لكنه رغم ذلك أخفق في استيعاب المعنى العميق وراء مصطلح غريب عن ثقافته العربية، لكنه في ذات الوقت مصطلحٌ يتقاطع بقوة مع فن برعت فيه أثينا وأنشأوا من أجله أكبر مسارح العالم المفتوحة ذات المدرجات الحجرية السماوية في الأجورا وحول جبال الأوليمب. هنا نعود إلى الوظيفة الأعمق "لفعل" الترجمة. التي هي ليست نقل المخطوطات والكتب، بل العمل على احتلال درجة أرقى من درجات العبور والاختراق كي تلج وتنهل من "الجوهر العميق" لروح حضارة أو فكر. وربما تجدر الإشارة هنا إلى مقولة جلال الدين الرومي: اذهبْ، واسعَ وراء المعنى، يا عابد الصورة.

على أي صورة كان يمكن أن تكون حياتنا لولا الترجمة؟ كيف سيكون شكل الألفية الثالثة لو لم يخض البشريّ القديم عملية نقل المعارف؟ كيف يمكن أن تكون معارفُنا لو لم تصل إلينا الفلسفةُ الإغريقية، أو الفكر البوذيّ والكونفوشيوسيّ والزرادشتيّ؟ كيف كان للأدب العربيّ أن يدخل عوالم فن الرواية لو لم نقرأ كلاسيكيات الأدب الروسي والإنجليزي والألماني؟ وكيف كان لأدباء أمريكا اللاتينية أن يبتكروا "الواقعية السحرية" لو لم يقرأوا ترجمات "ألف ليلة وليلة"؟ كيف كان مسيحيو العالم سيفهمون تعاليم المسيح لولا ترجمات الإنجيل؟ وكيف كان سيولد مصطلح "مستشرق" لولا التوغل الغربيّ في معارف الشرق عبر التراجم؟ وكيف كان لنا أن نكشف بدائعَ الفرعون القديم لولا فك رموز "حجر رشيد"؟ وفي مجال العلوم سيكون السؤال أوغل وأهم. كيف كان لنا إنشاء كليات الطب والهندسة والعلوم والفارما لو لم تصلنا ترجمات لأحدث النظريات العلمية في دول الغرب؟ بل كيف كان للعالم الحديث أن يتشكَّل، والثورة الصناعية والتكنولوجية أن تتفجر لو لم تُترجم وتُشرح نسبية آينشتين ونظريات الكوانتم ونيوتن وإديسون؟ لولا الترجمة وفن نقل المعارف والثقافات لتشرذم العالم في جزر صغيرة منعزلة لا تعرف إحداها عن الأخرى ولا تسمع واحدتها بمنجز الأخرى.
وبإجراء قراءة سريعة للتاريخ، سوف نجد ارتباطًا، يكاد يكون شرطيًا، بين ازدهار وُرقّي مجتمع وبين انتعاش حركة الترجمة فيه وتكريس مبدأ الاتصال الثقافي مع الحضارات الأخرى. ولنا في واقعنا العربي خير مثال. لم تنتعش الحضارة والفكر الإسلاميان مثلما حدث في عصر المأمون (813-833م)، الذي جاهر باعتناق فكر المعتزلة بما ينطوي عليه من إعمال "العقل"، عوضًا عن "النقل" السلفيّ الجامد الأعمى، وإزكاء شعلة التنوير بين أرجاء الأمة. وتزامَن ذلك مع اتساع ونهوض حركات الترجمة، في سابقة لم تُرَ مثلٌ لها، من اليونانية إلى العربية, في بغداد عاصمة الخلافة العباسية. وامتدت تلك الحقبة الثرية من القرن الثاني حتى نهاية الرابع الهجري. راح المترجمون ينقلون كتابات أفلاطون وأرسطو وفيثاغورث ما سمح للفلاسفة العرب بالإطلاع على الفكر الإغريقيّ ومناقشة أفكار فلاسفته القدامى وتطويرها للاستفادة منها عربيًّا، أو حتى اطّراحها وهجرها إن شاءوا. الأمر الذي سمح للعلماء العرب ببلورة رؤاهم العلمية والفكرية فاحتلّ العرب في العصر العباسيّ موقع الريادة في العالم على مستوى الفكر والعلوم الطبيعية حتى لغدا عصرًا من الاستنارة وحرية الفكر ما يكاد يشابه عصر النهضة الأوربيّ. هو العصر الذي أفرز مناخُه الصحيّ فيلسوفًا مثل الكندي الذي اشتهر بعمق رؤاه وتعدد روافد مكونّه المعرفيّ بسبب إجادته لغات الإغريق والفرس والهنود، ما أهلّه لترجمة مؤلفات أرسطو إلى العربية بتكليف من المأمون رأسًا، فكان أول من فتح كوّةً على الفكر اليوناني داخل الثقافة العربية. كما ظهر في ذات العصر أبو نصر الفارابي وابن سينا وغيرهم ممن نهلوا من ثقافات الإغريق والفرس عن طريق الترجمات فأثروا مكتبتنا العربية بمنجزات فكرية وعلمية رفيعة لم نزل ننهل منها حتى يومنا الراهن. لم تشهد الحضارة العربية مرحلة أكثر إشراقًا من تلك المرحلة التي انتعشت فيها حركات الترجمة فانتقلت فلسفات وحضارات الشعوب الأخرى عبر "انتشارية عابرة للزمان والمكان" إن جاز التعبير خلال ترجمات للفكر والفلسفات والعلوم قام بها مفكرون إسلاميون وعلماء آمنوا بأن العقائد والفلسفة والعلم دروبٌ معرفية تتوازى ولا تتعارض. هدفها جميعًا محاولة الوصول إلى الحقيقة، أو مشارفتها، ومن ثم مستحيلٌ أن تتنافر أو أن ينفي أحدها الآخر. قد تتجادلُ تلك الدروب أو تتحاور، لكنه الجدل الصحيّ الذي لا ينتصر إلا للإنسان والحقيقة والفضيلة والجمال والخير. تلك كانت اللحظة الزمانية التي سمحت للمعلم الأول أرسطو بأن يزور ثقافتنا العربية بعد قرون من الاغتراب. فراح الفارابي يترجم مؤلفاته في المنطق، فيما نبغ ابن باجة في تراجم علوم الطبيعة، والفارابي وابن سينا في علوم ما وراء الطبيعة، والجالينوس في الطب، وغيرهم العديد من الفلاسفة والمترجمين العرب الذين نهلوا من الحضارة اليونانية القديمة. وبسبب احترام "العقل المعرفيّ" في ذلك العصر الفريد شهدنا تكوّن نماذج من العقليات ذات الطبيعة الموسوعية التي عزَّ وجودُها في أي عصر سابق أو لاحق. أعني العقل الذي لا يحمل بين جنباته لونا واحدا من المعرفة أو العلوم أو الفنون، بل ترى واحد هؤلاء الفلاسفة والمفكرين وقد أسهم في شتى دروب المعرفة من فلسفة ودين وطب وهندسة وفلك وموسيقى وألسنيات وغيرها من منجزات المعارف البشرية الرفيعة. هي العقلية التي تذكرنا بفلاسفة الإغريق القدامى الذين يصعب على المرء تصنيفهم في خانة فكرية أو علمية واحدة، فتجد فيثاغورث، مثالا لا حصرًا، رياضيًا وشاعرًا وطبيبا وفلكيًّا وموسيقيًّا فضلا عن كونه فيلسوفًا. وفي هذا يقول محي الدين ابن عربي: "كل معرفة لا تتنوع لا يعوَّل عليها".

مسار بن رشد عبر التاريخ والألسن

ولو تتبعنا خيط مسار ابن رشد وحده عبر الترجمة، كنموذج حقيقي بعيدًا عن فانتازيا بورخس وإليجوريا الرمز، لوقعنا على فكرة ثرية وطريفة جديرة بالتأمل للتدليل على أهمية الترجمة جيئة وذهابًا بوصفها المفتاح الحتمي الذي دونه تستغلق أبوابُ وتتعالى أسوارُ مدينة حصينة اسمها "مجتمع المعرفة". قام ابن رشد وغيره من المفكرين العرب بترجمة الفكر اليوناني بعامة وأرسطو بخاصة. ثم راح الأوربيون يترجمون شروح ابن رشد التي أنجزها في الأرسطية من العربية إلى اللغات اللاتينية والأوربية على اختلافها. وإذًا، من خلال تلك الشروح (وحدها) بدأ العالمُ الغربي يلتفت إلى أرسطو ويفهمه ويستنقذه من مواته بعد قرون، ثم يعيد قراءته من جديد على ضوء الفهم الرشدي له. كان أرسطو مُستغلقًا بالكليّة على عقول الغرب قبل شروح ابن رشد التي أعادت له مكانته لدى الغرب بعدما طمره التاريخ بالفعل. اهتم الأوربيون بتفاسير ابن رشد للأرسطية الحديثة بعدما نقّاها من شوائب المثالية الأفلاطونية حتى أن ابتكروا مذهبًا فكريًّا سموه "الرشدية" وجعلوه أحد المواد الأساسية المقررة على طلاب الجامعة في أوربا، فلن تجد طالبًا غربيًا واحدًا لا يعرف ابن رشد وغير مطلِّع على منهجه و فلسفته. والحال أن ابن رشد قد أبدع بالفعل في تطوير"نظرية الفكر" التي أثرّت بقوة في تاريخ المدرسة الأرسطية. واجتهد في رسم صورة للحقيقة العليا عن طريق مزج الجدل التحليليّ مع الحدس الفطري من أجل إمكانية تصور مساهمة الإنسان في الجوهر الكليّ للوجود، وطبيعة النفس الكليّة العليا وكون النفس البشرية جزءًا من الذات الإلهية الشاملة الحاوية. ويذهب معظم الأرسطيين، قدامى ومحدثين، إلى أن تلك النظرية قدمت فهما دقيقا للأرسطية. كما حاول ابن رشد إصلاح نظرية "المادة والهيولي" و كذلك "نظرية الخلود" عند أرسطو، تلك النظرية التي تنفي بوضوح فكرة خلق العالم من وجهة النظر اليهودية والمسيحية والإسلامية. فقد آمن ابن رشد بسرمدية الله وأبدية فعل الخلق، و نظّر لفكرة أن الكون دائم التطور والبناء على ما سبق في صور جديدة، و أن الله قد خلق الزمان كما خلق الكون على نحو سرمدي مادام هو ذاته ذا طبيعة سرمدية خالدة. ولم يقتصر الغرب على ترجمة فكر ابن رشد الفلسفيّ وحسب، بل تُرجمت إلى اللاتينية والعبرية مؤلفاته في الطب التي بلغت ست عشرة دراسة طبيّة مهمة يتصدرها كتاب "الكليّات في الطب"، إضافة إلى موسوعة طبية في سبعة أجزاء تناولت التشريح، التشخيص، علم التحليل، علم وظائف الأعضاء، العقاقير. تلك المؤلفات الطبية، التي فاقت كل المؤلفات الطبية في العصور الوسيطة، غدت، حتى الآن، من أهم المراجع الطبية عند الغرب ويدرس طلبة الطب الغربيون أجزاء منها في كلياتهم. وكذلك نحن كعرب، لم نلتفت إلى أهمية ابن رشد الفذة السابقة عصرها إلا من خلال ما ترجمناه له وعنه من الكتب الغربية. وهكذا نرى أن فعل الترجمة كان وراء معرفة الغرب بابنهم: أرسطو، ووراء معرفة العرب بابنهم: ابن رشد. ومن ثم فالترجمة ليست فقط وراء معرفة شعب بحضارة شعبٍ آخر تفصله عنه حواجز الجغرافيا، بل إن الترجمة كانت السبب في معرفة الابن بسلفه ابن جلدته. مثلما عرف الغرب أرسطو عن طريق العرب متمثلين في ابن رشد، ومثلما عرف العرب ابن رشد عن طريق الغرب. أي أن بوسعنا تشبيه الترجمة بـ كُرَةِ بينج بونج من المعرفة في سرعة تردادها مكانيًّا عبر الجغرافيا، وبـ كُرَة الثلج من حيث كونها تزداد وتتراكم طبقاتها وتتبلور عبر رحلتها جيئة وذهابًا عبر الثقافات والشعوب والحضارات.

أزمة العرب في الترجمة

لن نضيف جديدًا إذا قلنا إن مجتمعاتنا العربية، باستثناء الحقبة العباسية سابقة الذكر، هي متلقٍّ ومستهلِك للمعرفة عوضًا عن أن تكون منتجًا لها شأن العالم الغربيّ. وإن كنّا لا نطمح في أن نكون منتجي فكر ومصنّعي معرفةٍ في هذه المراحل الحرجة التي تعيشها الأمة، فلا أقل من أن نكون مُتلقين جيدين حقيقيين وأن نتقن "فنَّ" التلقي. فالتلقي والاستقبال فنٌّ مثلما الإنتاج والإرسال. وهنا تأتي الترجمة لتكّون حجر الزاوية في فعل "التلقي" من أجل مواكبة ودخول مجتمع المعرفة الجامح المتسارع الخطوة من حولنا. من أجل أن نأخذ مكانةً ما من الخارطة، ولو في خانة المستهلِك. وفي الكلام عن مجتمع المعرفة الذي مبدؤه "اللحاق أو الانسحاق"، وحسب تعريفه الذي أقرّه تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2003 بأنه: ذلك المجتمع الذي يقوم على إنتاج المعرفة ونشرها وتوظيفها في كافة مجالات النشاط المجتمعي: الاقتصادية، والسياسية، والثقافية وفي الحياة الخاصة والعامة وفي كافة الجوانب المتعلقة بالمجتمع المدني، وصولاً للارتقاء بالحالة الإنسانية باطراد أي تحقيق التنمية البشرية، سوف تحتلُّ الترجمة بوجه عام والعلمية منها بخاصة مكانها الأبرز، كون العلم هو الورقة الأولى التي تتسيّد بها الشعوب وتتمايز عن غيرها من المجتمعات الخاملة التي ترفل في الجهل والتأخّر. وإذا نظرنا إلى المعرفة بوصفها أحد أهم العناصر الثلاثة في جدلية التنمية البشرية في المنطقة العربية النامية إلى جانب نهوض المرأة وإقامة الحكم الصالح، سنجد أن لا سبيل لتحقيق هذين العنصرين الأخيرين في معزل عن المعرفة.
ولو تأملنا التجربة اليابانية في مجال الترجمة على سبيل المثال التي أبرمت اتفاقًا مع دور النشر العالمية في الغرب من أجل ترجمة كل كتاب علمي يصدر إلى اللغة اليابانية في نفس توقيت صدوره بلغته الأم ليوزع في موازاة صدوره باللغة الإنجليزية، لأمكننا أن نفهم أحد الأسباب التي جعلت اليابانيين في مواكبة دائمة لمجريات العلم في الغرب الحديث، ولأمكننا كذلك أن نتأمل حجم الكارثة المعرفية التي تحياها منطقتنا العربية في المقابل. إن فقر معدلات الترجمة المواكِبة لابد أن يؤثر سلباً في إمكانية الشراكة في مجتمع المعرفة الراهن القائم بالأساس على تزامن نقل المعلومة لحظة انبثاقها فضلا عن الانطلاق في المجال البحثي باللغة العربية، مما يضعف من فرص نشر المعرفة في مجتمعاتنا العربية.
وفي حين تفعل اليابان ذلك نجد أنظمتنا السياسية العربية تعمل جاهدةً على نشر النموذج المعرفي الذي يخدم توجهاتها وأهدافها، ومن ثم تحارب النظم المعرفية التي من شأنها تزكية الوعي العام وروح التأمل وتعزيز قوى المعارضة والرأي المضاد لسياساتها، ما يشكّل عائقاً جديدًا أمام تنامي المعرفة في الدول العربية في ظل الفساد السياسي واحتدام الصراعات. وإذا أضفنا إلى ذلك عدم احترام المعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان التي وقّعت عليها معظم الدول العربية، سندرك أن ازدهار المعرفة سيصبح أمرًا عسير المنال في ظل مجتمعات لا تفعّل القوانين التي تضمن للمواطن حقه في تحصيل المعرفة وحقه في حرية الفكر والتعبير عن الرأي. فشعوب الدول العربية من أسف مازالت تعاني من القمع الفكري وفرض الرقابة المسبقة وسلب الحريات العامة والخاصة، بما يشمل حرية النشر والمطبوعات، والتضييق على عمل الأحزاب والجمعيات والنقابات، ومراقبة وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية ما حدَّ من فرص نشر المعرفة على نحو صحيّ في المجتمع.
ولعلنا نحزن إذا تأملنا مدى فقر معدلات الترجمة في الواقع العربي، في ضوء ما أشار إليه تقرير التنمية الإنسانية لعام 2000 من أن ما ترجمه العالم العربي منذ عصر المأمون وحتى يومنا هذا هو 10 آلاف كتاب، بما يعادل ما تقوم بترجمته دولة واحدة كإسبانيا في عام واحد.
إن النزعة اللاعلمية التي تسم مجمعاتنا العربية أدت إلى استفحال حضور كتب الشعوذة والخرافات التي تتلبس ثوب الدين مما ساهم بقوة في استفحال الحس التطرفي التعصبي النقليّ الانغلاقي أحادي النظرة لدى الشباب كونه يستقي الحياة من مناهل غير علمية فضلا عن كساد العملية التعليمية ذاتها التي تعمل على إزكاء الحس النقلي الرجعيّ وتُعطّل الحسَّ العقلي المنطقي ما يشكّل خطرًا حقيقيًا على نسيج الذهنية العربية القادمة. فإن تسنى للغرب توليد وإنتاج المعرفة العلمية العقلية فليس أقل من أن ننمي لدى شبيبتنا مواكبتها بأن نشيع بينهم شيئا من الثقافة العلمية عن طريق توفير تراجم حديثة ومحايثة لما ينتجه الغرب أولا بأول. وهذا ما دعا أحمد زويل صاحب نوبلٍ أن يقول: "إن العالم العربي والإسلامي بحاجة اليوم إلى جهاد علمي وتعليمي، فالمسلمون الأوائل تفوقوا في مجالات العلوم والرياضيات، ونحن اليوم بحاجة إلى أن نهتم برفع مستوى التعليم والبحث العلمي إلى مستوى الجهاد في سبيل النهوض مجدداً بحقول العلم والمعرفة"، وكذلك ما دعا مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا السابق لأن يقول: "إن الله لم يتخل عن المسلمين في العصر الحديث، لكن المسلمين تخلوا عن العلم، فصاروا متخلفين عن ركب الحضارة العالمية ". وجاء أيضًا في تقرير التنمية الإنسانية لعام 2003 ما يؤكد حال الركود في عدد من مجالات إنتاج المعرفة في مجتمعاتنا العربية سيما في مجال البحث العلمي. فبالإضافة إلى فقر الإنتاج فيه، يشكو البحث العلمي في العالم العربي من ضعف في مجالات البحث الأساسي، وشبه غياب في الحقول المتقدمة مثل ثقافة المعلومات والبيولوجيا الجزئية. ويعاني البحث العلمي في البلدان العربية انخفاضًا في الإنفاق عليه (إذ أن إنفاق الدولة في الوقت الراهن على البحث والتطوير لا يتجاوز اثنين في المائة من إجمال الدخل المحلي، ويدفع غالبه كرواتب للموظفين). كما يعاني غياب الدعم المؤسسي له، وعدم توافر البيئة المواتية لتنمية العلم وتشجيعه، إضافة إلى انخفاض أعداد المؤهلين للعمل فيه. فلا يزيد عدد العلماء والمهندسين العاملين بالبحث والتطوير في البلدان العربية على 371 لكل مليون نسمة. وهو أقل بكثير من المعدل العالمي البالغ 979 لكل مليون نسمة. وبوجه عام تقل نسبة الملتحقين بفروع العلوم في التعليم العالي في جميع البلدان العربية، مقارنة ببلدان ناهضة في ميدان المعرفة مثل كوريا. وكل ما سبق يقول بجلاء إن ظاهرة الانفجار المعرفي أو الفيض المعلوماتيّ ‏Information Overload,‏ التي اجتاحت العالم المتقدم بأسره وسببت له ملمح إثراء وفرح تمثّل، للمفارقة، مشكلة حقيقية للذهنية العربية التي لا تستطيع أن تجاريها أو تستوعبها. وهو وضع يخشي معه من أن تشعر هذه الذهنية بالانسحاق والتضاؤل أمام إعصار المعلومات المتدفقة من هناك علي نحو خارق‏. وهنا آمل من القائمين على مهام مشاريع الترجمة في مصر وفي كافة الدول العربية أن تنتظم الترجمات سياقات مدروسة ومخططات حقيقية عوضًا عن أن تكون منطلقاتها فردية فيترجم كلُّ مبدعٍ أو مترجم ما يعنُّ له من مناهل الغرب. نحتاج إلى بُحّاث يدرسون خريطة المنتج العالمي ويرون مناطق القصور في المنقول منه إلى العربية وتكلَّف فرق عمل لإنجاز الأهم فالمهم منها كمهمة قومية وسياسية حقيقية وليست وحسب كمهمة ثقافية ترفية. فالمعرفة لابد أن تكون همًّا شاغلا للمجتمع بوصفها فعلا حتميًّا وليست فعلا مكملا أو زائدًا عن الثقافة. وفي حين يقول هيدجر بكل تواضع: إن الفكر لم يبدأ بعد، نقول نحن بكل ثقة إننا خيرُ أمة أُخرجت للناس ونستنيم لهذا الوهم الذي يكبّل نمونا ويجعلنا نتعالى على العلم فتسحقنا خطاه. وفي نهاية ورقتي المريرة هذه أرجو أن نستفيق من غفوتنا كيلا يكون مصيرُنا مثل طائر "أمل دنقل" حين قال: سكّينُ الذبح هي مصيرُ الطيور التي حطّت من السماء إلى الأرض.

الورقة البحثية المقدمة في مؤتمر "الترجمة ومجتمع المعرفة"
المنعقد في المجلس الأعلى للثقافة بمصر في الفترة من 11-14 فبراير 2006