فاروق يوسف
(العراق/السويد)

ويقول تكاد تُجن به فأقول واوشك أعبدُهُ
أحمد شوقي

فاروق يوسف في ظهيرة شتائية وسط الغابة كنت على موعد معها. كان نقار الخشب قد أعد عدته على الشجرة من أجل بقايا النهار. قطرة مطر تسقط على ورقة هي تعلمها، تنزلق لتصنع حاجزا مائيا على عيني.

أطبق جفني فتمّحي الأصوات. يتفتت الهواء وسط ضربات الطائر. ناعما وطازجا مثل ريشة تسقط بيضاء ببطء شديد يهبط إيقاع جسدي إلى قدمي. كنت قد وضعت رأسي بين كفي وصرت أنظر إلى نقطة بعينها على سطح البحيرة حين انبثق النبع. كانت تتشكل بقوة فيضها سنتيمترا بعد آخر. فضية ترتقي لهاثها اللامع من غير سلالم. خُيل إلي أن الشمس باردة قد شقت لها مجرى يقود إلى قلب البحيرة المتجمد. هناك حيث يرقد الطاووس وتنام الأميرة على سرير رفيع مثل إبرة وتزحف الغصون لتلتف حول الجذور ويصفر البحار الغريق وينفخ اسرافيل في بوقه. الواحدة بعد الظهر ولا نبأ عني، سوى الرجل المحاط بسلالات عمياء من الأفكار وسوى يديه المعلقتين بجسده مثل جرسين وسوى كرسيه الهزاز الذي يُطوى بيسر ليُركن في أقصى حديقة قطبية تخترع الفراشات فضاءها في لحظة خواء. لو أن شخصا ما أخبرني قبل سنوات أنني سأكون ذلك الرجل الوحيد لما صدقت نبوءته. ينشق سطح البحيرة عن قلعة رمادية أو كنيسة بيضاء أو امرأة لها عشرات الأذرع الراقصة. طائر السنونو الأبيض يلمس بجناحيه سطح الماء برقة فيصدر حفيف يسرع كالبرق ليرتطم بصدري. رمحك لا يزال ساخنا وعلى أسوارك تخفق رايتي. حذرني أحد نبلاء القرية المجاورة وقال: 'تحت كل صخرة هناك جنية وبين كل عشبتين تتشمس أفعى'. 'ولكنها لم تُر من قبل. لكنها لم تحتف بإنسي' قلت له ومشيت. ودعني ديكه على السياج ورمت بقرته على كتفي نظرة اشفاق. أودعُ خطواتي في خزانة وأحلق محفوفا بصيارفة مفلسين وشعراء مسلولين وفقهاء محدودبين وحراس ضجرين وحوريات منتفضات ويتامى صامتين. 'جئت لأتجلى' قلت لمن لا يسمعني ولا يراني ولكنه يسمع ويرى. هي ذي النبوءة إذاً وما من شيء منها.

ذات يوم وضعت على عتبة الباب الوسطاني وردة اكلتها فقمة التقيتها بعد سنوات. 'كان طعمها مرا' ومن يومها لم تعد الفقمات لتنظر إليّ إلا باعتباري عدوا. كنت عدو الأيائل واليرقات والضفادع وباب الشيخ ومعسكر الحبانية وفرس النهر وجواد وادي والزهور البرية. ليتني أنقذت ذراعي من لسعات نحلها. لو أنني فكرت قليلا مثل تلميذ في قاعة امتحان لكان وجهي احتفظ بشيء من سمرته. لم يكن نزاعا متكافئا، خرجت منه أحمر مثل راية تروتسكي المهزومة. المكسيك بلد دافىء. يلذ لدييغو ريفيرا أن يجلس على العشب فيما كانت الاممية الرابعة تنحت من رمل الشاطىء زقورات. ربما وصل السومريون قبلي إلى هنا. أضع قدمي على أولى الدرجات فتضرب ظهري صيحة خروف أبيض: 'تقدمت في السن ولما تزل ترعى هذيانات الهاربين إلى تطوان. ألا تصدق أن أندلسك صارت حصاة ابتلعها حوت تمرد على نوح فاختفى أثره'. كان النبع لا يزال ينفث بركاته البصرية وكنت أنعم بالغنج الذي فاض على قدرتي على البقاء متماسكا. هي ذي ايها الملعونون تشق الجدار لتسمعني صوت أمي. البليغة مثل شاعر أموي، الفالتة من بين أوراق المصحف لتقول كلمة من الوحي. كنيستها على اليد ونايها بين الشفتين وقدمها ترفل بالأدعية. من حانة إلى تكية، من سوق إلى خان، من رمية نرد إلى نافورة ماء كانت الزخارف تحيطني بندم الميزان. كان جلال الحنفي مصرا على شرح وتبسيط عروض الفراهيدي وكان مصطفى جواد القادم من الخالص يلوح بعصاه ساخرا من اللغة المجاورة. سيكون الولد ولدا ولن تكون البنت إلا بنتا. يا سيدي كل هذا هراء استعماري. في ظهيرة باردة تتجلى لي تلك الجارية عارية كما لم يرها أحد من قبل.

'تكاد تحبها'

ليتنا عرفنا ما الحب. ليتنا أدركنا ما الجنون. على بعد مترين فقط. هناك تحت العرش. فيما الشمس تشق لها طريقا إلى قلب البحيرة كانت السلالم تلهم الاسماك التحليق مثل كائنات شاغال. لقد عاد العالم جميلا. خرج الصبي لتوه من بين أصابع الاله ليقول كلمته. هل كان المنصور يقف في شرفة قصره بالرصافة ليتأمل كل هذا الماضي؟ أعرفها شارعا شارعا. نافذة نافذة. فتاة فتاة. لقد أخطات طريقك مرة أخرى يا صديقي. قدماك النابتتان في الثلج لن تتيحا لك المشي بأناقة الافندي العثماني في البتاوين وفي عقد النصارى وفي بارك السعدون. لن تدعوك السيدة المتيمة بيوسف عمر إلى منزلها. 'سليمة مراد يهودية هل تقلدينها؟' تنظر إليك صامتة وقد ابتلت عيناها بالدمع 'لقد جرحتني' فلا تدري إلى أي جناح تأوي. طعنة للشيخ وأخرى لشاب لم تعش حياته مثلما كنت تحلم. هي ذي بغداد إذاً تخرج من بين فخذي الجنية ولا تزال الأفعى تتشمس بين عشبتين. 'ألا تحضرين من أجل تعذيبي؟' تضحك الفاتنة فيما الخصيان ينقلون المباخر بين قصور الحريم. اضرب الأرض ستطلع شجرة آس. لا تزال الرائحة في أنفي. يا زكريا. اللعنة على البيانو. هناك دفوف في رأس كل شارع. هناك النهر الذي لا يكف عن لفظ جثث الغرقى. ما مر يوم والعراق ليس فيه جوع. ومع ذلك فان الشمس أحلى. في تلك البلاد الشمس أحلى.

أضع رأسي بين كفي وأنظر إلى المدينة وهي تتشكل من رماد جمر جهنم. 'أنت محظوظ. لقد أبقت لك العاصفة شيئا لتراه' تقول لي أمينة المتحف. وهي أمريكية من أصل عراقي. أنظر إلى قدميها وأهمس لنفسي 'يلماشية بليل لهلج / حولي عدنه الليلة/ بعيد الدرب شيوصلك / والله المسافة طويلة' لم أقس المسافة بعد. بالنسبة لها فان المتحف هو الكون الذي يتسع لكل ما مضى. بالنسبة لي فان سنتميترا من تلك المدينة لا يمكن أن تتسع له كل متاحف العالم. 'انتظريني قليلا' ما لم ألمحه بعد سيأتي وإن اقتربت القيامة. خلقها الله لتكون أحد شهوده حين تعز اللغات. الطفلة تخرس الفقهاء. تنورتها تدغدغ الملائكة. يضحكون. حينها يفرغ الهواء حمولته. ما من شرط للجمال يسبق حضورها. تتلف كل ما مضى من عهود فتنتها لتخلص إلى تجليات جمالها المحتملة. تعالي وقفي إلى جانبي ليرانا العالم معا في صورة خالدة. بك أحارب نفسي على الأقل. لقد أهلكني انتظارك. تضحكين. على ساحة الطرف الأغر يمتد ظلك. من أنـْفـَي البوشـَيْن الأب والابن تسحبين منديلك. تمحقين مراهقتي. 'لن تكون عدما. أراك كما لو أنك تولد الآن. في المدينة التي اختارها الله بوصلة لتغيير الأحوال في العالم في الالفية الثالثة. بها بدأ الكون وبها سينتهي. من قال أن الميزان كان عادلا؟'

ألف سنة ليومك وأنت تظهرين. جلب الحطاب ديكه ليكون شاهدا على ساعة بعثك. هو ذا النبع يتبعك، يسجد من حولك، يفرش بين يديك سجادته ويقول لي: 'لقد أوتيت حظا عظيما'. تنفس الطاووس أيتها البجعة. بغداد مريضة مثل ليلى. ليتني كنت الطبيب المداويا. بغداد تموت. ألهذا أحضرتني أيها القدر؟ منذ سنين وأنا أمشي. ظهري لا يرى. إلى الأمام أمشي فلا ترى أعضائي إلا ما تقترحه الغربة عليها من ألغاز بصرية. الآن من قلب البحيرة ينبثق مثال الانوثة كما لو أن الله قد ترك اصبعا من يده في فم تلك الحورية. سأتبعك مسحورا بهذيان حلاجك إلى الأبد.

2011-03-09
القدس العربي