فاروق يوسف
(العراق/السويد)

مكائد الجمال

كنت أقف في شارع الريمبو بعمان، في لحظة سأستعيدها في ما بعد باعتبارها اللحظة التي انفصل فيها الله عن الكائن الذي اخترعه. أعرف أن الجمال يؤلب أتباعه ضدي لكي يملأ صدري هواءً سيكون الخزان الذي تستقر في قعره عاطفتي. ما من أحد يستحق ذلك المصير المتهالك سواي، بعدما حطمت كل مراكبي من أجل أن أكون وحيداً. لقد استسلمت لقدري وصار عليَّ أن أذهب أبعد في طريق التجلي، وهذا يعني أنني ذاهب من غير عودة.

لقد عدت إلى زمن الانتظار. انتظار النساء النضرات، فكرتهن وهي تسقط على الأرض متوثبة، كما لو أنها تسرع إلى لقاء بارئها الذي يجلس في انتظارها. تلقي المرأة بخطوتها على الأرض في انتظار أن يفتح ايقاع تلك الخطوة باباً من أبواب الجنة. هل كان موديلياني مسحوراً بذلك الايقاع وهو يرسم نساءه المستلقيات؟ كانت المرأة التي أقف في انتظارها تنتمي بضربة حظّ إلى عالم ذلك الرسام الذي درس النحت، من غير أن يتسع ألمه الشخصي للتجسيد الذي يتطلبه النحت. شيء منه صار يسكنني. رأيته في أحد الأفلام وهو ينصت إلى قهقهات بيكاسو الساخرة. كان الرسام الاسباني متآمراً عظيماً.

"لقد رأيت شبيهك في لندن"، قالت لي كما لو أنها لا ترغب في الدفاع عن خطئها. قلت لها: "من أجلك سأكون سواي. ذلك الشبيه الذي عذّبك بإنكاره لوجودك. الذي لم يلق عليك نظرة تدل على معرفته بك سيكون دليلي إليك". كان موديلياني يرعى نساءه برفقة راهب زاهد بعريهن الفاخر. هل أقول لك إننا لا نفكر في الاوطان التي عذبتنا بقدر ما نستحضر ذكرى النساء اللواتي وضعننا إلى مائدة العشاء الأخير، ليتسلى المسيح وتلاميذه في التهامنا؟ كان الرسام الايطالي الذي عاش جل حياته في باريس، يعرف أنه يهب الأيقونة الأنثوية غذاء روحه المعذبة. إنه لا يرسم امرأة تصلح للمضاجعة بالرغم من عريها المتفائل. نساؤه مثل تفاحات سيزان التي لا تصلح للأكل. كان الرسام الفرنسي حريصاً على أن يبعد الجمال عن شهوة تملكه أو الاحتفاء به مادةً للتملك. "تلك البلاد لك"، قلت لها، في إشارة إلى سيزان. هذه المرأة تمزج حجارتها بماء الذهب لتتأنق مزهوةً بعنادها الوحشي الذي لا يخفي رقتها التي لا تقاوم. ستؤكل تفاحات سيزان يوماً ما، مثلما يمكن أن تُضاجع نساء موديلياني. أيمكن أن نعتدّ بيأسنا من الجمال المستقل عن رغبتنا في استهلاكه إلى هذا الحد؟
لكن الجمال يفنى حين يكون ذريعة للحب. لأوضح هذه الفكرة الملهمة.

نحن نحب الجميل لأنه يوقعنا في مصيدته العمياء. هذا يعني قبولنا في أن نكون فريسته التي تُلتَهم رغبةً منها في أن تكون جزءاً من مشروع خيالي يحررها من رهانها على الواقع المستبد. إما أن نُحب وإما أن نحب. الملهاة تقابل المأساة. في لحظة عصيان سنكتشف أن الجمال الذي نحبه لا يحبنا ولن يكون في إمكانه أن يكون كذلك. شيء منه يظل عصياً على أن نفهمه. ذلك لأننا تعوّدنا على أن يكون كل ما نحبه طوع ارادتنا القاصرة عن التعبير عن ذاتها إلا من طريق التملك.

نتخيل أن الرسام، كل رسام، كان قد ضاجع كل النساء اللواتي رسمهنّ عاريات، ولكن ماذا عن رسام الحياة الصامتة، هل كان قد التهم كل محتويات الصحن الذي رسمه؟ أفكر في رسّامي القرن السابع عشر الهولنديين وأنا أرى صورة لماتيس شيخاً وهو يتأمل موديله العاري. ما الذي كان يراه في تلك الفتاة التي كانت تتوهم أن الله يتفحص جسدها؟

لم أقل لها: "لا أكفّ عن انتظارك بالرغم من حضورك". كنت مرتبكاً وأنا أقيس المسافة بين جسدينا بريش نعامة أفريقية ناعم. كانت قادمة بأقدام نساء كثيرات، أحببتهن في أوقات سابقة، ونساء سأحبهن في أوقات لاحقة. الحكاية لا تتعلق بامرأة واحدة. امرأة يسرّها أن تراني فأسرّ حين أراها. كان الجمال ذريعة لوجودنا معاً. امتزجت رقة موديلياني بصرامة سيزان لتنتجا ضحكة موناليزا تتماهى مع يسرها الذي يحشر التأمل بين ألواح سفينتها. هي ذي المرأة التي تغرق لتُغرق مَن ارتضى طوعاً أن يكون أسيرها، زبونها الوحيد وتأشيرة دخولها إلى الجنة باعتبارها شهيدة.

قلت لها: "لو كان الوقت رجلاً لقتلته". كان موديلياني يودع نساءه ليقف متأملاً مشهدهن وهن يشرفن على الغياب، وكان سيزان يغمض عينيه على تفاحاته، حالماً في أن يكون شجرة. أنا أمسُك وأنت غدي. مر الوقت سريعاً. ساعة للقاء وأخرى للوداع وما بينهما ساعات لهديل الحمام الذي صار يضرب بأجنحته على قرميد البيوت الاسكندينافية. ما الذي يحدث هناك، تحت العرش تماماً؟

كنت أفكر أن ما يقع أمامي ما هو إلاّ مكيدة دبرتها فتاة مرحة، سبق لها أن تتلمذت على يد ألكسندر كالدر. ربما يكون مشهد عمّان الحجري قد ألهمها أصول تلك اللعبة الجمالية الخطرة وهي تستعير من موديلياني نساءه، ومن سيزان هندسية فكره التصويري، ليتجسد ذلك كله في امرأة، كان حضورها موقع شك. غير مرة أمسكت بيدها لأتأكد أنها كانت موجودة حقاً. ولكن بأيّ معنى؟

إذا كان سيزان قد استولى على الجمال ليضعه في قفص توحشه، الذي أفضى به إلى عصيان كل شرط إنسان، فإن موديلياني الذي لم يفقه من الحياة سوى شغفه بأناه الغائبة وسط الحوريات، كان مضطراً إلى أن يمسك بيد مرتجفة الخيط الذي يقود إلى كائنات منعمة بإنسيتها، غير أنها تسيل في عزلتها مثل حبر تعجز الكتابة عن اللحاق به. أتراه كان يرغب في أن تظل تلك الكائنات مقيمة وراء رقتها، وهي الرقة التي كان يسعى إلى فهم ألغازها التي تفتك بالمعاني الميسرة؟ سيكون علينا في هذه الحالة أن نتوهم أن المرأة التي رسمها موديلياني لم تكن سوى ذريعة للرسم. هذا ما جعلني أفكر أنني لم أكن أقف إلا في انتظار فكرة الجمال وقد تجسدت في امرأة بعينها.

كأن الجمال، وهو مصطلح غامض، كان يؤاخي بين حريته المطلقة ورغبتنا المريضة في أن نأسره في قالب بعينه. هذا ما يفعله الرسامون في أحيان كثيرة. لكنهم جميعا ينتهون إلى النتيجة نفسها: الجمال نفسه يعد أكثر مما يهب حقاً. إنه يقنعنا بصورة منه، من غير أن يهب قناعتنا تلك، قوة المضي إلى الثقة النهائية. الرسامون الحقيقيون هم الأكثر قلقاً في شأن تمكنهم من الجمال. في الفرشاة والأصباغ تقيم شياطين لا يتسع لها سطح اللوحة. في لحظة ما، يقول الرسام لنفسه مبتهجاً: "هو ذا". يقصد الجمال. غير أنه سرعان ما يشعر بالندم، لأنه أخطأ في تقديراته.

يستعمل الرسامون الرسم ذريعة للاعتراف بذلك الندم.
في فجر الحكاية كان هناك شيء من شهرزاد التي لم تكن قد ظهرت بعد، غير أن ظهور المرأة التي نجت من الموت، من طريق الفن، لا يعني أن الحكاية قد وضعتنا على الطريق التي يكون فيها كل حجر مرآة لحكاية مكتملة. شيء من ذلك يمكننا العثور عليه في الرسم، وإلا كان في إمكاننا أن نكتفي برامبرانت أو فيلاسكيز أو رافع الناصري أو صليبا الدويهي أو روثكو أو أنسليم كيفر أو تورنر أو ديغا. لا يكفي أن يكون الرسم جميلاً، بالمعنى الذي نفهمه، لكي نقول إن الجمال كله كان حاضرا. لكن المرأة التي حضرت في موعدها، لتمشي مثل نجمة سينمائية في شارع الريمبو، كانت تعيد تأهيل فكرتي الناقصة عن جمال، يمكن أن يكون كاملاً في لحظة، هي موضع استفهام دائم.

كانت حواسي تتبعها، تلهث وراءها، وهي تحرص على أن لا تفصح عن ذعرها.
كنت أبدأ من الزمن الذي يصلح أن يكون فضاء للغياب. غياب كل شيء من أجل أن يحضر شيء واحد، شيء يتحرك مثل شبح ليرافقك ملاكاً حارساً. ستقولين إنه شبح الجمال، وسأصدّقك من غير أن أفكر في مكائد الملائكة.

النهار 27 آذار 2014