فاروق يوسف

فاروق يوسف تجد المصوّرة اللبنانية رشا كحيل نوعاً من المفارقة الخيالية التي تستحق الاهتمام في ما عرضته من صور ضمن اطار تجربتها التي تحمل عنوان "في منزلك". لعبتها تتخطى اطار التجربة الشخصية في ما تستعرضه صورها بشكل مباشر إلى محاولة اشراك فضاء خاص، لكنه غير شخصي، في مهمة تبدو ملهمة في حدود البوح الشخصي. فهي بطريقة أو بأخرى تتلصص على جسدها العاري خارج سريرها وحمّام بيتها، بل وحتى خارج أحلامها.
تسوّق كحيل فكرة وجودها عارية في مكان لا تملكه ولا علاقة لها به، من غير أن تسمح لصاحب المكان بالنظر إليها وهي في وضعها الاستثنائي الذي قد يبدو مريباً. الفنانة المولودة عام 1980 من أصول لبنانية وهي تعمل وتعيش في لندن، حيث درست الفن في الكلية الملكية هناك، لا تكتفي بمحتوى الصورة، حيث جسدها العاري والعناصر التي يتألف منها المكان، الذي قد يكون مطبخاً أو غرفة نوم أو مخزناً، بل تستغرق في انفعالها الموقت الذي تمليه عليها رغبتها في انجاز عملها في أسرع وقت ممكن وبسرية تامة.
تلتقط الفنانة صورها شخصياً كمن يسرق وقتاً استثنائياً وهو يراقب شخصاً لا يعرفه، أو أنه تعرّف عليه أثناء ثوان لاهثة من زمن غير شخصي.
تخبرنا رشا أنها التقطت صورها في بيوت الآخرين من أصدقائها مستغلةً غياب أولئك الاصدقاء عن بيوتهم لقضاء حاجات عابرة، وقد لا يستغرق ذلك الغياب إلا دقائق. فكرة الافلات بذكرى استثنائية مرتجلة تبدو مهيمنة على سلوك قد لا يكون سوياً إلا بمعايير مهنة التصوير، حيث يشتبك خيال الصورة الجاهزة بالرغبة في صناعتها لاحقاً.

تصنع كحيل صورها في لحظة انفعال هي الأساس الذي تتضاءل بسببه غواية الجسد الأنثوي العاري. فالعري لن يكون هو الموضوع الجميل الذي من أجله تنتج الصور، بل هو مادة رغوية تتشكل من حولها رؤى استفهامية متقاطعة، لا يشبه بعضها البعض الآخر ولن تكتمل إلا لتتصادم.
منطقياً، سيكون علينا أن نتساءل عن سر ذلك العري الذي يجري في مكان غير مناسب وفي وقت خاطف وغير مريح. وإذا ما عرفنا أن المرأة التي نراها عارية في الصور قد صوّرت نفسها بنفسها خفية، لتزيح المكان عن خصوصيته التقليدية ولتجعل منه حاضنة لجرأة لا توظف بلاغة الجسد من أجل استعراض لفتنة ذلك الجسد، سيكون علينا أن ندرك شيئاً من ملامح ذلك الدرس الجمالي الماكر.
تستفز رشا كحيل جسدها حين تلقي به في عري غامض الهدف. وهو عري هادئ ومطمئن لا يستفزّ مشاعر أحد من المشاهدين (مشاهدي الصور) ولا يمهّد لطراز أخلاقي مبتذل، قوامه الاغراء الذي لا يتسع له خيال الفنانة. لقد قررت الضيفة (وقد بدأت بتصوير سلسلتها عام 2008) في لحظة إلهام، أن تخلع ثيابها في اللحظة التي لن يكون فيها العري مطلوباً أو ضرورياً، من غير أن تكون موضوعاً للنظر، فلا وجود للآخرين. "كنت في منزلك عارية"، ستقول للشخص الذي سيُصدَم حين يرى منزله وقد هيمن عري ضيفته عليه.
تتحدث الصور عن أحلام الآخرين. عن نومهم وعن غيابهم الذي يقع كما لو أنه ضربة على باب بين إغماضتين. تضع رشا كحيل لعبتها التصويرية في المكان المحيّر. لو أنها صوّرت نفسها عارية في بيتها لكان هناك مفهوم مختلف. ستذهب المرأة بصورها إلى بورنو يحق لمن غضب من العرب بسبب ما فعلته الفنانة أن يلعنه. غير أن الفنانة لم تتوجه بخطابها إلى العرب ولم تكن معنية في استعراض عريها. لم يكن العري هو الهدف. ولا يمكن اعتبار ما قامت به نوعاً من الصراخ النسوي. لقد احتالت لكي تكون سواها. صوّرت نفسها باعتبارها لصة عارية. كان عريها هو عنوان لصوصيتها الهاربة من كل تقييم أخلاقي مسبق.
ما بين السموّ بالمكان، وهو يحتضن فكرة صافية عن العري، وبين تدنيسه بعري مخالف للأصول، تقع شعرة خفية، يهبها جمال المعنى قوة بصرية سيكون لها أن تنجو بالمحاولة كلها من عدوانية يرتجلها فكر ذكوري كان قد قرر في غفلة من الطبيعة أن يحتكر بناء تاريخ من الثقافة لا يرى في العري الأنثوي إلاّ نوعاً من التحدي.
في كتابها كما في معرضها لم يكن الجسد هو الخلاصة.
الصورة مسروقة كما هو العري تماماً.

تفكر رشا كحيل في سرقة زمن بعينه. زمن كانت فيه عارية من غير أن يراها الآخرون، ممّن يظنّون أنهم أولى برؤيتها كذلك. ذلك لأن جزءاً من عالمهم الحميمي يظهر في صورها ولا يشكل إلاّ خلفية لعريها المحايد. إنهم يشعرون بالخذلان والخيبة. لقد خانتهم ضيفتهم، حين لم تسمح لهم برؤيتها عارية مثلما ظهرت في الصور. يقينا أن الخلاف سيكون اجرائياً، غير أن هناك مَن ينظر إلى ذلك الخلاف من جهة عقائدية.
فالمرأة التي خلعت ثيابها في غياب أصحاب المنزل وهم أصدقاؤها، لا بد أن تضمر مكيدة من نوع ما. وهي المكيدة التي كشفت عنها رشا كحيل في كتابها كما في معرضها "لقد فاجأتُ حريتي"، وهو قول يمكن قراءته من أوجه عديدة.
كانت حريتها أشبه بقنينة مفرغة من الهواء. لذلك يغيب الجانب الحسي عن صورها، لا أحد في إمكانه أن يملأ عينيه بمرأى عريها وهو يفكر في شهوة ذكورية. فبالرغم من كل هذا العري الأنثوي، فإن المرء وهو يشاهد الصور لا يعتريه أي شعور إيروتيكي. لن يكون المرء مضطراً إلى المبالغة في الخجل من أجل إخفاء مشاعره الحقيقية. لن يكون أمامه سوى الاستسلام لفكرة الجمال الذي يلعب في مكان وجده مناسباً لإطلاق تجلياته وقهر أعدائه.
هذه المرأة لا تحذّرنا باعتبارنا مشاهدي صور. إنها تهبنا فرصة نادرة للتلصص على جسدها الذي كان هو الآخر يتلصص على فضاء الآخرين.
سترى رشا كحيل صورها عارية مثلما نفعل، رغبةً منها في أن نفعل ما فعلته في حدود ما يحتمله خيالنا. إنها تسجل يومياتها الهاربة من القياس الواقعي. لن نتخيلها دائماً عارية مثلما ظهرت في الصور التي أنجزتها بنفسها، غير أننا نتمنى أن تكون كذلك دائماً في ما يتبقى من سيرتها التي تضفي شيئاً من خيال عريها على كل مكان تمر به. لقد وهب عريها الأماكن المغلقة التي مرت بها خيالاً استثنائياً.
في صور رشا كحيل شيء من خيال صور فرانشيسكا كيدمان (أميركية من أصول ايطالية، كانت قد انتحرت في نيويورك في بداية عشريناتها). كحيل تتحايل على الآخرين كما تتحايل على نفسها. لن يكون جسدها العاري سوى نقطة التقاء بين فكرتها عن ذات متحررة من رقابة الآخرين وبين مكان سيتخذ دائما هيئة العدو المناهض لحرية تلك الذات.
ستنظر الفنانة إلى ما فعلته بفخر. ذلك أنها كرست حريتها على أرض عدوّ لم يكن متوقعاً. لقد اخترعت أعداءها لتبرر عريها.

النهار- 11 كانون الثاني 2014


أقرأ أيضاً: