حاورتها
فاطمة محسن
(البحرين)

سعدية مفرح سعدية مفرح تنطلق في أثر القصيدة كما ينطلق الطفل في أثر الفراشات لاتعرف أن كانت ستمسك بها أم ستأخذها لحقول من الورد، هكذا تأتي للقصيدة دون أن تعرف أي لون سيلبسها الحرف لكنها حين تخرج من بيتها ، يشير الذين على الوقت كم أنت زاهية، فتعرف أن القصيدة لبستها .
القصيدة عند سعدية مفرح خصبة دائما مخضرة بتنويعات النص السياقية ، وتكشف لنا جوانب من ولادة الرؤى الشعرية عندها فحين تريد أن تنقل الواقع تغربله جيدا بالبصيرة فيخرج جسد القصيدة ناهضا بالصور الفنية والإنسانية.
الواقع عندها حين يدخل إطار القصيدة تحرك دلالاته كما تريد لاكما تريده الأشكال المعلبة للقصيدة فتغمرنا بحالة من الإدهاش والتميز.
سعدية مفرح تطرق أبواب الحرف فتعود محملة بصور تتبع ظلها لتتداعى في قصيدتها بشكل انسيابي يخدم حركة الصورة العامة داخل النص فتأتي متزينة بنشاطها البلاغي متغلغلة في بنية اللغة طيعة مع مواقف الشاعرة وانعكاساتها الوجدانية.
في حوارنا معها دخلنا في طقس البوح الثري عن طغيان الرمزية والأسطورة واللغة وصوت الشعر عند سعدية ، والمتعة التي تنثرها الوحدة،طفنا بربيع غير مكتمل، ثم ذقنا حلاوة الحرف وتداعيات الحلم حين تتقاسمه الشاعرة مع غيمة محملة بالأمل.

الرمز هو برق القصيدة الذي يضيء الوعي نحو الجوهر..ماذا لو أسرف الشاعر بالرمزية ؟

بالنسبة لقصيدتي لا أدري ما الذي سيحدث عندها، ولا أدري أن كنت أنا شخصيا أسرف في الرمزية أم لا. وأحيانا يغيب عني التعريف الدقيق للرمزية كلها.
أكتب قصيدتي ولا أدري ما الذي فعلته فيها، وعلى أي درب بالضبط مشيت وأنا أبحث عن جوهرة الشعر الغامضة. هل الرمز هو برق القصيدة الذي يضيء الوعي نحو الجوهر كما يقترح هذا السؤال الجميل؟ أم إنه طريق من الطرق الكثيرة إلى ذلك الجوهر من دون أن تكون له تلك الأفضلية البارقة؟ هل الإسراف فيه يؤذي رهافة القصيدة فعلا؟ أم أنه يعزز تلك الرهافة على نحو مجهول؟ بكل بساطة أنا لا أعرف وحتى لو عرفت لا أظن أنني سأستفيد من تلك المعرفة في كتابة قصيدتي.

تغرق القصيدة أحيانا في مومياءات ينفخ فيها الشاعر الحياة ويحركها بمهارة وأحيانا ببلاهة إنها الأسطورة حين نستحضرها بكثافة فيعجز المتلقي عن استيعاب رؤاها ودلالاتها ... ماذا تقول سعدية مفرح عن تكديس الرموز الأسطورية وحشدها في الأعمال الشعرية

عندما أضطررت لإعادتي قراءة كل قصائدي ذات يوم وأنا أجهزها لطبعة جديدة أكتشفت عدة اكتشافات سارة وأخرى غير سارة ، ومن الاكتشافات السارة لي كمتلقية وليس كشاعرة ان قصائدي تكاد تخلو من أي أثر للأسطورة وفقا للمفهوم الذي ساد اجواء القصيدة العربية في الخمسينات والستينات تحديدا. كنت دائما أشعر بالإرهاق وأنا أقرأ لشعراء أسرفوا في الاتكاء على الأساطير وخصوصا الاغريقية واليونانية في بناء معمارهم الشعري، ومع هذا فقلة منهم فقط استطاعت التعامل مع الأسطورة بشكل جمالي بحت ومن دون أن يفسد ذلك عفوية الشعر. أما بقية الشعراء فقد حشروا الأساطير حشرا من بين القوافي والتفعيلات وفي كثير من الأحيان بدت دواوينهم الشعرية وكأنها كتب ميثولوجيات منسية.. وكثير من هؤلاء الشعراء الذين استنفدوا كل قواهم في البحث عن أساطير غير دارجة كثيرا اضطروا في النهاية لكتابة الشروحات ووضع الإحالات والهوامش لتفسير تلك الأساطير وربطها بما يكتبونه من شعر. بل أن بعضهم مارس دور الناقد والمؤرخ الأدبي وربما معلم المدرسة لكي يشرح قصيدته ويفسر ما يرد فيها من حكايات وأساطير. وهذا بؤس شعري ما بعده بؤس قضى على عفوية الشعر وطبيعته الخلاقة والبكر.
هذا لا يعني أنني أرفض كل الأساطير في الشعر مثلا، فالشاعر الموهوب فعلا هو من يستفيد من قراءاته الميثيولوجية في خلق قصيدته الخاصة بلا تكلف ولا تصنع. وفي تلك الحالة تبدو الأسطورة كموسيقى خلفية في إطار الفعل الشعري، يضيف للقصيدة الكثير من عناصر الجمال دون أن يفسد جمالها الفطري.

اللغة تأخذنا لفضاءات جمالية وإنسانية وثقافية.. هل مازالت اللغة معبرا للجمال في كتاباتنا أم باتت كابوسا يرعب الكاتب أمام تحديات اللغات الأخرى؟

لغتي هي لعبتي الجميلة. من خلالها تتخلق كل خيالاتي المشتهاة ، وبواسطتها أستطيع أعادة تكوين أي جزء من أجزاء روحي. لغتي هي إذاً كينونتي ، وهي اقتراح دائم ومفتوح على المستقبل، وبالتأكيد فإن الجمال الذي نستطيع رسم معالمه بواسطه اللغة هو جمال حقيقي غير منته ولامتناه.

كيف نخرج اللغة من إطارها المحدود إلى ذلك الاتساع اللانهائي للرؤية؟

اللغة دائما خارجة بالضرورة عن أي إطار، وأي لغة غير قادرة على اختراق ذلك الإطار هي لغة ميتة، والشعر لا يتعامل مع اللغات الميتة ولا يعترف بها. لكن لحسن الحظ فإن الشاعر قادر دائما على إيقاظ سبات أي لغة وأحيانا يستطيع أن يخلقها من العدم بمحض موهبته الفذة. وهذا يعني أن الشعر وحده قادر على إخراج اللغة من إطارها المحدود الى ذلك الاتساع اللانهائي للرؤية بمنحها حياة جديدة .. حياة إضافية لكل مفردة يعن للشاعر ان يستخدمها في قصيدته. ولهذا نقول ان الكلمات الشعرية تغادر معانيها التقليدية غالبا في اللحظة التي تتحول فيها إلى كلمات ضمن سياق القصيدة ، فتتحمل بطاقات جديدة تمنحها معان أخرى.

هوامش القصيدة:

*أسميتك المتنبي
فأورق في بساتين البلاغة
ألف نبت من بقايا الكلمات
** الكلام احتمال الحياة البدائي
وصورتها في الانتهاء
*** الصمت جمر خبئ
بالموسيقى يتقد

... هامش القصيدة في قصيدتك ( إثم الكلام) هل هو تناغم دلالي يدفع بالحركة الدلالية داخل النص أم وحدة بنائية مستقلة تحمل خصائص مغايرة في بناء القصيدة ؟

في قصيدة إثم الكلام كان الهامش جزءا أساسيا من القصيدة وليس منفصلا عنها ولا هو شارحا لها مثلا ، ولكنني وضعته في شكل هامش وفي مكان هامش لأسباب جمالية وفنية صرف. وهذا يعني أنه كان فعلا يمثل نوعا من التناغم الدلالي مع بقية أجزاء القصيدة ولا أظن أن القصيدة يمكن أن تقرأ بمعزل عنه أو تكتمل من دون قراءته أصلا. أي انني اجتهدت في كتابته كقلب للقصيدة ولكنني لم أجد حرجا في وضعه على أطرافها وأنا أدون النص على الورق..
طبعا هي كانت حركة تجريبية ، وقد انسحرت في فترة من فترات حياتي الشعرية بالحركات التجريبة ، وما زلت أغامر كثيرا بالتجريب وأرى أن الفن الشعر في وجه من وجوهه انما هو لعبة ليست لها قواعد مححدة ولا ثابتة وعلينا دائما أن نجتهد في اختراع قواعد إضافية ومبتكرة كلما أقدمنا على ممارسة الشعر ومواجهة القصيدة.

من اقتباساتك على صفحة الفيس بوك ماقاله شارل بودلير في اليوميات: (هناك من لايستطيع أن يلهو إلا وهو في القطيع.. البطل الحقيقي يلهو وحيدا).. متى تلهو سعدية مفرح وحيدة وتكون خارج الجماعة ؟

دائما.. متعتي دائما أن أكون وحدي. وهذا يسبب لي بعض المشاكل وخصوصا في العمل، فأنا أعمل في الصحافة وهي مهنة تتطلب الروح الجماعية في العمل، لكنني أفتقد تلك الروح ، ولا أستمتع الا بالعمل الفردي.. وأجدني لتعويض ذلك اضطر أحيانا أن أقوم بأعباء عمل الفريق كله حتى لا أتشارك معه في المهمة نفسها. أما بالنسبة للعب بمعنى العيس المنفرد كاختيار فهو قرار أسهل وأقل تبعات . نعم.. البطل الحقيقي يلهو وحيدا ، ومع أنني لا أدعي البطولة في شيء الا أنني حقيقية على الأقل في كل شيء، وهذا ما يرسخ اصراري على الوحدة في كل اختياراتي في الحياة.
ثم أن القطيع الوارد في اقتباسي لبودلير لا يعني الجماعة تحديدا بقدر ما يعني تلك العقلية الموحدة في التفكير ، او اللاتفكير ، وذلك السلوك الجمعي غير القادر على الابتكار والتفرد . وهذا تحديدا ضد روح الشعر وروح الفن بشكل عام.

يرى البعض بأن الشعر هو صوت الحزن النابت في ضلوع البشر.. ماصوت الشعر لدى سعدية؟

هو صوت الفرح المؤجل ، وقصيدتي هي فرحتي التي استطيع تخلقها وفقا لمواصفاتي ولذلك أنا أعتبر نفسي انسانة متفائلة جدا لمجرد أنني أحب الشعر واكتبه. أشعر ان القصيدة، أي قصيدة، قادرة دائما على انتشالي من أي حزن ، وغالبا ما ألجأ لقراءة الشعر في حالات حزني القصوى فتنجح القصيدة في مصالحتي مع ذاتي ومعالجتي من أوجاع روحي ، وتفسير الكثير من الكآبات التي أمر بها فأتركها وأعدو نحو ذلك الفرح المؤجل والمعلق على أطراف القافية.

سطوة السؤال في "سين" هل أثمرت إجابات وافية لذات سعدية ؟

الى حد كبير. كتاب سين كان تجربة جميلة بالنسبة لي على صعيد السؤال الذي هو أحد أسرار تكويني النفسي. فمن السؤال وحده غالبا أنطلق للحديث عن ذاتي من دون أن أشعر أنني متطفلة في ذلك الحديث على هذا العالم. وكانت تجربة الكتاب بمثابة تدريب لي على مواجهة ذلك السؤال بصوره المختلفة والتي اجتهد فيها أصدقائي وغيرهم في توجيهه لي ومساعدتي على الإجابة وعلى البوح في نفس الوقت. ولهذا كنت في كثير من إجاباتي في ذلك الكتاب أتجاوز حدود السؤال واتخذ منه البؤرة لدائرة تتتسع وتتسع حولي .

قصيدة الومضة إلى أي مدى تضيء بدهشتها قلب سعدية ؟

لا أحب أن أصنف قصيدتي، لكنني أعرف ان السؤال يشير الى تلك القصيدة التي تأتي كدفقة شعرية وشعورية واحدة. وهو أسلوب أعشقه في كتابة الشعر منذ بداياتي، وحتى الآن. صحيح أنني كتبت بعض القصائد ذات المعمار المركب الا انها بالنسبة لي لم تكن أفضل قصائدي ولا أقربها إلى نفسي ، وكانت تلك القصائدة التي تبدو فعلا كومضة خاطفة أجمل وأقرب للتعبير عن ذاتي وعما أود قوله، وهي دائما تمثل لي تحديا كبيرا لأنها صعبة في الكتابة على الرغم من بساطة شكلها فهي تحتاج الى تكثيف آني للحظة الشعرية يستخدم فيه الشاعر كل طاقاته بشكل مضاعف غالبا لكي تبدو تلك اللقطة محملة بأكثر من هاجس شعري في كلمات قليلة تقود الشاعر والمتلقي في نفس الوقت إلى منابع الدهشة ولذة الاكتشاف كلما قرأها وأعاد قراءتها لاكتشاف المزيد من أسرارها الدفينة بين تضاعيف الكلمات.

الخيال صنف من أصناف الحرية لأنه يأخذنا لعوالم لابؤس فيها، لا حروب، ولا صراع.. كيف تتخيل سعدية مفرح الحرية في ظل الربيع العربي؟

كم كنت أتخيلها دائما، في ظل ذلك الربيع وخارج إطاره أيضا؛ حقيقة الإنسان وجوهره الأبدي. الضرورة التي لا بديل لها لكي يبق الانسان انسانا. والحلم الذي لا ينبغي لأحد وليس من حق أحد أصلا التنازل عنه .
والربيع العربي الذي استبشرنا به هو صورة واحدة من صور الحرية ولكنها أيضا صورة غير مكتملة حتى الأن . انه بداية للحركة واتمنى أن تصل تلك الحركة الى ذروتها الثورية على طريق الحرية الشعبية ليس على الصعيد السياسية وحسب بل على كل الصعد الأخرى. فالتاريخ يعلمنا أن كثيرا من الثورات التحريرية التي رفعت شعارات الحرية لشعوبها عادت وربت تلك الشعوب فيما بعد على كل ما يناقض روح الحرية بحجج مختلفة. وصارت وصية على تفكيرهم حتى أنها رسمت لهم خطواتهم نحو ما اقنعتهم بأنه الهدف الأسمى وهو الحرية.
عموما.. نحن نعيش الآن في خضم هذا الربيع العربي ، ونتنفس هواءه الطلق ونراقبه ونشارك في بعض تجلياته وفق ما تسمح به ظروف كل منا .. ونحاول أن نصدق بأنه ليس الخطوة الأخيرة.

ماموقف سعدية مفرح من الأمسيات الشعرية وماسبب عزوفك عنها ولماذا الجنادرية؟

لا أحب القاء الشعر أمام الجمهور، وخصوصا اذا كان جمهورا كثيفا. أحب أن أقرأ الشعر إن كان لا بد من الأمسيات الشعرية لمجموعة قليلة من المتلقين ويا حبذا لو كنت أعرفهم واحدا واحدا. طبعا هذا شرط من الصعب تحقيقه غالبا، ولهذا السبب أعتذر دائما عن المشاركة في أمسيات شعرية الا نادرا. ومن الأسباب الأخرى التي تبعدني عن تلك الأمسيات أن صوتي الضعيف والمبحوح لا يصلح للميكرفونات أصلا، ثم أنني أشعر بخجل مفاجئ كلما ودت نفسي في مواجهة الآخرين سواء أكان ذلك في أمسية شعرية أو غيرها. أفضل دائما أن أتحدث في مجموعة صغيرة أعرف كل افرادها ، أما تلك الكتلة الكبيرة المسماه بالجمهور فأنا لا أحب مواجهتها وتبدو مجهولة بالنسبة لي ولا أستطيع بصوتي المبحوح اختراقها عبر الميكرفون... لا أدري إن كان ذلك الأمر سيستمر دائما أم لا ، فقد لاحظت انه بدأ يتخلخل مؤخرا نتيجة إقدامي تحت وطأة إلحاحات معينة من أصدقاء أحبهم وأثق بهم ، على الاشتراك في أمسيات شعرية.. ولن أحكم على الغد برغبات اليوم .
أما الجنادرية فقد كانت أول مهرجان أشارك فيه خارج بلدي نتيجة ظروف معينة. ففي السابق لم أكن أستطيع السفر ، وجاء هذا المهرجان ليفتح لي ذلك الكون نحو الخارج بشكل واقعي ، وقد شاركت فيه بأكثر من فعالية أبرزها أمسية شعرية أقيمت في منطقة الاحساء . وقد أحببت التجربة جدا لأنني بكل بساطة أحببت تلك المنطقة وأهلها من النظرة الأولى.

لك مساحة لتزويدنا بعبارات تروي عطشنا الشعري أو بزلال متدفقا بالجمال نابضا بروحك..

لكم هذا النص .. لعله يدلني وإياكم عليّ:
لِأُثْري ذاكرتي الفَقيرةَ
سَأَرْسُمُ بالقَلَمِ الرَّصاصِ
كُوخاً
تَنْتَصبُ أَمَامَهُ نَخْلةٌ مُثْمرَةٌ
وتَرْعى حَوْلَهُ بَعْضُ الأَغْنامِ البَيْضاءِ
تَحْديداً
وَسَأَتْركُ لَوْحَتي خَاليَةً من الأَلْوانِ
وأُعَلِّقُها خَلْفَ بابِ غُرْفَتي الصامِتةِ
** ** **
لأُثْري ذاكرَتي الفَقيرةَ
سَأَزْرعُ نَبتةً جَديدةً هذا الصَّباح
ورُبَّما أَكْتبُ قَصيدةً جَديدةً
ولكننّي بالتَّأْكيدِ
سَأَحْكي للرَّجلِ الذي يُجيدُ الإِنْصاتَ إِليَّ
ما رَأَيْتهُ في مَنامي
الليلةَ البارحةَ

هلْ حَلمْتُ البارحةَ بِغيمةٍ سَوْداء
تُمْطرُني بِقصائدَ نَسِيتُها عِندَ يَقْظَتي؟
أَمْ أَنَّ غَيمةً سَوْداءَ حَلمَتْ البارحةَ
أَنَّها شاعرةٌ تَنْسى قَصائدَ اللّيلِ
كُلَّما اسْتَيْقَظَتْ من النّومِ؟