نصر جميل شعث
(فلسطين)

دنيا ميخائيلما المقصود بـ "تجانس الآثار" بمعزل عن القراءة في اللحظاتِ والجغرافيا، وحضوراً في القراءة في الذات والموضوع بوصفهما ينكتبان بلغةٍ يكمن فيها الخطابُ الذي ينهضُ على الآثار المحيطة ؟ قبل الإجابة، من واقع السؤالِ نفهمُ أنّ العالم ليس بمعزلٍ، على أية حالٍ، عن تفكيرنا. إنما تفكيرُنا الأشياء والمصادفات واللحظات هو الدليلُ القادرُ على كتابةٍ تثبتُ، بالبداهة الفنية، أنها لم تولدْ من عدمٍ في عدم. فكلّ ما تقولُه الظروفُ تكتبه الذاتُ. وفي الذات عظَمةٌ غامضة، هي جوهر اللغة الشعرية. إنّ هذه العظَمة هي التي تباشرُ ترهينها الوسيلةُ في إثر تأمّل الذات في الأداة. وهو الأثر الذي يسمح دائماً، لعمليات التلقي بأن تتوسع في عملها داخل النصّ الشعري، باعتباره وجوداً يشغّلُ أدواتِ العالم الخارجي لمصلحة الشعر. ترى جوليا كريستيفا "أن النصّ يُخلّصُ الذاتَ من تطابقها مع الخطاب الموصول ويُهشّمُ، عبرَ نفْسِ الحركة، كونها مرآة عاكسة لبنياتِ خارج معين، إذ النصّ وليد خارج واقعي ولا متناه في حركته المادية(ليس"بأثره" العلِّي)، حيث يدمج متلقيه في تركيبة ملامحه، ويبني بنفسه منطقة تعددٍ للسمات والفواصل تمكّن كتابتها، غير المتمركزة، من ممارسة تعدد لا يقبل الوحدة أبداً"(1) أما جاك دريدا فإنه" لا يعتبر النصّ، أي نصّ، كمجموع متجانس. ليس هناك من تجانس، هناك في كل نصّ، حتى في النصوص الميتافيزيقية الأكثر تقليدية، قوى عمل هي في الوقت نفسه قوى تفكيك النصّ.. إنّ ما يهمّهُ في القراءات التي يحاول إقامتها هو ليس الناقد في الخارج، وإنما الاستقرار أو التموضع في البنية غير المتجانسة للنص، والعثور على توتراتٍ أو تناقضاتٍ داخلية، يقرأ النصُّ من خلالها نفسَه، ويفكّك نفسَه (2) لكننا سنحاول في الوصول إلى واحدة من حقائق "تجانس الآثار" في النصّ، ويبدو ذلك مخالفاً لـ ج. دريدا، وذلك بعملنا داخل ناحيةٍ خاصّةٍ من نصّ شعري كانت قد طرحته الشاعرة العراقية دنيا ميخائيل في "مزامير الغياب". نذهب، إذن، داخل نصّ "آثار الممحاة" لنستقر أو لنتموضع هناكَ في بينة (زجاج/ حجر)؛ لنكشف عما ينشأ من آثار متبادلة بين الطرفين، لنتأمل في هذا الشاهد:

وأنا أشهد انكسارَ الظلّ في المرايا
وأعرفُ أنّ في الخلفِ ثمةَ زُجاج وحجر
الحجرُ لا يكسرُ الزجاجَ/ إنما كان يبادله الانكسار (3)

نلاحظ احتواء رسالة "الآثار" على أداة منكسرة، تُبادل مثيلةً لها- بوصف الأولى "مادة"- في الانكسار؛ إذ يبدو (الحجر) لا يمارس سلطته في كسر (الزجاج). إنّ هذه السلطة الفاعلة على نحو سلبي نجدها في نصوص عدّة، مثلاً- نجدها، عند شاعر فلسطيني: ناصر عطا الله، كان قد أرسل لنا بعضاً من نصوصه عبر e-mail:

حجرٌ يكسر زجاجَ صدري
أسمع صوته داخلي لا أفسر ما يحدث
والهدهد كعادته لا يأتي بيقين النبأ

إن الشعرَ عند دنيا ميخائيل مليء بالموضوع، أي أنّ الذات في حركة نحو العالم الخارجي، فيما نرى العكس، في الشاهد، عند ناصر عطا الله، أي أنّ العالم الخارجي في حركة مُؤثرة على نحو سلبي في داخل الذات. ولكن بالرغم فاعلية أداة النفي، في الخطاب، عند ناصر عطا الله: "لا أفسّر ما يحدث" و" لا يأتي بيقين النبأ" بما هي الـ<لا> تقوم على النفيّ وتشتغل باعتبارها أداة الغياب الملفوظة، كأثر خطي حاضر في الشاهد، وكصوتٍ غنائي مسموع في فضاء الحدث- بالرغم من ذلك المنظور؛ إلا أننا نرى عند عطاالله هذا الحضور الأداتي التسجيلي التقليدي لثنائية (حجر/زجاج)، حيث تقوم أو، تتورّط، لحظة الكتابة بملء أو بربط ذاتها بالخارج، ربطاً مادياً يتأسس، تأسيساً معتاداً، بعناصر أو أدوات الموضوع المادي، دونما الارتفاع عنه برافعة العظمة الغامضة المخلِّصة الفردية؛ بما تعنيه متواليات الصفات من ترفّع وزهدٍ عن تقاليد وعادات التصوير والتمثيل والإقران العاطل شعرياً أحياناً، جراء اعتيادية الاستثمار في موجودات الواقع الأداتية. أما "أداة" أو "سلطة" الحجر، عند ميخائيل، فإنها لا تفعل، أي تغيبُ في النفي، فيما هي تحضر في الشاهد (الحجر لا يكسر الزجاج) .إنّ الأداتين عند ميخائيل في تبادلٍ لانكسارهما معاً. وهذا يُفسَّرُ على أنه عدالةٌ في المصير الحادث. إن التجانس عند دنيا ميخائيل يتمثل في أن "انكسار" الأداة في حدّ ذاته، يُبادل "انكسارَ" الأداة المقابلِة؛ ليعبّر بذلك عن "تجانس الآثار". حيث الانكسار هو ذلك الجزء من الآثار التي تشكّل مادة الخطاب المقدّم في مجموعة "مزامير الغياب". ولا يوجد تجانس، على مستوى الدال، بالنظر في شاهدي عطالله وميخائيل. أما على صعيد المضمون فثمة ترادف، بين بلديهما (العراق، فلسطين)، صورته "الانكسار". قد أشار جون كوهين، في كتابه "بنية اللغة الشعرية" إلى " أن التماثل في البنية يكون على صعيد الدال، كالتجانس، وعلى صعيد المدلول كالترادف، وثمة تماثل، على صعيد العلاقة (4)
وكانَ التقابل قد ظهر سابقاً عندما رأينا أنّ الشعر عند دنيا ميخائيل في حركة من الذاتِ إلى العالم الخارجي، بينما عند ناصر عطاالله كان العكس، أي أنّ العالم الخارجي في حركة مؤثرة في داخل الذات. ولكن هذا التقابل لا يعيق الوصول إلى حقيقة المترادفة.
وإنه بالتبادلية التي رأيناها عند دنيا ميخائيل [الأثر يبادل الأثر]، أي حضور فاعلية "تجانس الآثار" ممثلةً بتبادل موضوعين: (حجر) و ( زجاج) لانكسارهما، قد تحققتْ إزاحةٌ لفاعلية الأداتين الأصيلتين [الأصل يؤثر في الأصل]. وعن صورة التجانس بين الأثرين أيضاً نجده، حقيقةً، في موضع آخر من نص للشاعرة بعنوان " خلف الزجاج":

أسيلُ أجنحةً خلف زجاجٍ يُبادلني الانكسار
يتشظّى كونٌ منَ العتمة في اللاأفق
أرقبُ الموتى الطالعينَ من الزجاج قوسَ قزح
أنمنحُ الهواء رئة أخرى
أم نظلّ خلفَ الزجاج
منذ النهاية حتى النهاية؟ (5)

يتضح اختلافُ هذه الصورة عن سابقتها في شاهد الشاعرة السابق، وقد قدّمَ الشاهدُ صُورةً لثنائية متجانسة الآثار والماديّة، وبوصف الحجر والزجاج "مادة"، بصرف النظر عن نوع أو تسمية "الأداة". إنه تجانسٌ غائرٌ في النص. أما في هذا الشاهد، فإن الأثرين الذين يتبادلان الانكسار هما، بالطبيعة، مختلفان من حيث المادة - الكينونة؛ إذ التبادل هنا قائم بين "الذات" الشاعرة(الداخل) وبين الموضوع(العالم الخارجي)- (الزجاج). ولا يبدو العالم الخارجي هنا في حركة مؤثرة في داخل الذات، إنما في حركة تبادل بين ذاتٍ وموضوع؛ يظهران -للوهلة العادية- مختلفان تماماً وغير متجانسين من منظور موضوعي، لكنهما بغنائية منكسرة متجانسان، من حيث هما يتبادلان الانكسار. وإنّ هذا كله، على أية حال، يقود إلى القول بشمول خطاب الآثار بما تعنيه الآثار من انكسارٍ وتشظٍٍّ مترادف ومتجانس في الموجودات الحاضرة في فضاء الوجود. ما يعّبر، بالغياب وبالانكسار، عن تماهي "الذات" مع "الموضوع"!

Naser_j79@hotmail.com