جمانة حدّاد (*)

دانييلي

"البحر" للرسام الإيطالي دانييلي فيسّوريه

كيف يمكننا أن نقدّم للشعر الايطالي الحديث بكلماتٍ قليلة، وهو الذي يعكس روح شعبٍ عريق متسم بالغنى الفني والأدبي والانساني، ويحمل نبض بلادٍ ترث تاريخاً طويلا من العبقريات في الشعر والنثر والرسم والنحت والموسيقى؟ ماذا يمكننا أن نقول عن أبناء دانتي ودانونسيو وليوباردي وغيرهم من كبار الشعراء الذين أحدثوا تحوّلات جذرية، ليس في الشعر الايطالي فحسب بل في شعر الامم قاطبة؟ كيف يتسنى لنا بقصائد قليلة أن نختصر شاعراً أو آخر لندلّ على العلامات المضيئة المتجلية في هذه السماء الشعرية الرحبة؟ كيف يسعنا بهذا الاختيار العشوائي والتعسّفي الا نغمط هذا الشعر الكبير حقّه من الانتشار الواسع، وكيف نستطيع بهذا النذر القليل من القصائد المترجمة أن نلقي الضوء على كل أبعاده، وأن ننشر بعضا من وهجه، وهو الشعر الذي لا تستطيع الانطولوجيات الضخمة أن تتسع له؟

في هذه المحاولة التي عدنا فيها الى ينابيع الشعر الايطالي الحديث، والى لغته الاصلية، سعينا الى بعض الاختيارات في الاسماء والنصوص، وحاولنا جهدنا ان تكون معبّرة عن بعض السمات والمحطات الاساسية المختلفة في النتاج الشعري الايطالي المعاصر، على أن نضيف أسماء جديدة تدريجا، مقدّمين بذلك أنطولوجيا تفاعلية متحرّكة تعكس جوهر الشبكة الانترنتية المتحرك، وتسعى خصوصا الى نقل عدوى حبّنا للشعر، وما هذه "العدوى" إلا دور "جهتنا" الأساسي ورسالتها. قد لا تكون الاختيارات شاملة ولا كافية، وقد لا تعكس تماماً كل التيارات المتنوعة التي شهدها ويشهدها الشعر الايطالي في عصرنا هذا، ابتداء من عشرينات القرن العشرين، وصولاً الى تسعيناته. إلا ان القصائد التي ترجمناها من لغتها الاصلية تقدّم محض محاولة متواضعة تتيح لنا التعرّف على شعرٍ يحتضن هواجس الانسان واسرار الكون، ويقطر شفافية وغموضاً في آن واحد، ويعبّر عن دواخل كبار أدباء العالم الحديث.

إن ترجمة الشعر تشبه الطعنة التي نوجهها ربما الى الشاعر ولغته. فهي تحمل في ذاتها احياناً معنى الخيانة والمصادرة، خيانة الشاعر وقصيدته، ومصادرة أسرارهما وجعل هذه الاسرار تبعاً لأهوائنا التي تترجم - اذ تترجم القصيدة - بعضا من اهوائنا الشعرية الخاصة. فمهما بلغت معرفتنا باللغة التي كتبت فيها القصيدة، ومهما توغلنا داخل عوالم الكاتب وحاولنا اكتشاف معاني كلماته وبواطنها، ستظل الترجمة في بعض لحظات تجلّيها غير "أمينة" في معنى ما للشاعر وقصيدته. وقد حاولنا في هذه الترجمات أن نخفي الكثير من "أنانيات" الترجمة من أجل الاقتراب أكثر فأكثر من روح النصوص الاصلية وجوهرها ودلالاتها. فماذا وجدنا في هذا الشعر الايطالي الحديث ؟

يتمتّع جميع الشعراء الايطاليين الذين برزوا في هذا القرن، على اختلاف التيارات التي ينتمون اليها، بقاسم مشترك في عودتهم الى الجذور، في اطار جغرافيا شعرية شاملة ومتنوعة. من مظاهر هذه الشعرية، غنائية حادة وعميقة تعكس موسيقى أرواحهم وأفئدتهم، وهي موسسيقى غير معبّر عنها بايقاعات سطحية أو سماعية مباشرة، بل انها داخلية، حميمة، طالعة من حفيف أوراق الذاكرة وشفافية الجسد والروح وحياتهما المعاصرة. يستسلم الشاعر الايطالي بطواعية مذهلة لغناء القلب، لكنه استسلام لا يتنازل عن ايقاعات العتمة من اجل الاحتفاء السهل بالضوء. بل ان غنائيته هي غنائية ذات عمق فلسفي ودرامي، وهي تطرح أسئلة الوجود الكبرى في تناقضاتها المادية والروحية، حيث تطير الذات في مهب هذه الصراعات وتعود لتستدرج الضوء الخارجي الى الداخل المعتم، وتصنع هناك نورها الموسيقي الخاص الذي ينساب في جسد الكلمات وفي دلالاتها المعنوية .

ان الغناء في الشعر الايطالي، مقروناً بأمومة الارض وبالروح المتوسطية وطبيعتها وبالتجاذب بين ثنائية الوهم والواقع والمادية والروحانية، تشكّل اذا عناصر انتماء لدى غالبية الشعراء الايطاليين المعاصرين. وعندما ظهرت بداية موجة الواقعية الجديدة، هدّدت عناصر الانتماء هذه، الى جانب الانغلاقية المطبوعة بنفحة الرمزية التي ظلت مسيطرة على الشعر الايطالي عموماً. ولكن اكتسبت الرمزية مع الشعراء المعاصرين ايقاعات جديدة، كما على سبيل المثال مع اونغاريتي ومونتالي، وهي ايقاعات وحدّت نوعاً ما جيلاً من الشعراء اتبعوا أنماطاً شعرية مختلفة للغاية.

ومما لا شك فيه ان الشعراء الايطاليين المولودين في النصف الاول من القرن التاسع عشر قد أدوا دوراً بارزاً في توجيه مسار شعر القرن العشرين. ولكن رغم المحاولات العديدة الهادفة الى تقليدهم والى تقليد كبار الشعراء الذين أعقبوهم، انبثقت من الجيل الشعري المعاصر لغة جديدة وغنية، يمكن ان نعزو أسباب تجلّيها الى توسّع الآفاق ومراقبة التحولات الاجتماعية والثورة الصناعية وخوض تجارب لغوية ثورية ومساع داخلية شخصية للتحرر من تأثيرات الاسلاف. هكذا استجاب الشعر الايطالي المعاصر لنداء التجدّد والتحوّل، واتجّه تدريجياً الى مزيد من النضج والاستقلال عن نهج شعراء الامس. واكتسبت معه الرومنطيقية الجديدة حلة حديثة وغدت القصيدة مغامرة نفسية داخلية، تبوح كلماتها بالشيء وتحجبه في آن واحد .

جدير بالذكر اخيرا أن الشعرية الايطالية تغتسل بماء التواطؤ مع المناخ المتوسطي وعناصر طبيعته، حيث تزدحم القصائد بمعجم غنّي بمفرداته الطبيعية، بما في ذلك مخاطبة ليريكية ترفع المشهد المنظور الى مستوى الكائن البشري تارة، في حين انها تمّحي طوراً في طبيعة النسيج الشعري وتشكّل خلفية، ربما تزيينية، لأفكار الشعر وأسئلته وهواجسه. وتساهم هذه المتوسطية الطبيعية في اضفاء نوع من الالفة على الشعر الايطالي. إلفةٌ نشعر لوهلة انها منسوجة من خيطان ثيابنا الشعرية المتوسطية هنا، أو بالعكس، نكاد أحياناً نظن اننا متأثرون من حيث لا ندري بهذا الشعر، وكأنه شقيق شعرنا وأرضنا وطبيعتنا.

واذ نقترح هذه المحاولة اليوم، فانما لنعقد بعض أواصر الصداقة بين شعرنا العربي والشعر الايطالي المقيم على الضفة الاخرى من "متوسط" روحنا وقيمنا الادبية والفكرية والمجتمعية.

جمانة حدّاد شاعرة ومترجمة لبنانية تعمل في الصحافة الأدبية في جريدة النهار البيروتية، إضافة إلى إجرائها سلسلة من الحوارات مع كتّاب عالميين من أمثال باولو كويلو وامبرتو ايكو وبول اوستر وجوزيه ساراماغو وايف بونفوا ونادين غورديمر وغيرهم. تتقن سبع لغات، وتدرّس اللغة الإيطالية منذ عام 1992. أصدرت أربع مجموعات شعرية، ولها ترجمات في الشعر والرواية والمسرح لعددٍ من الأدباء العالميين، وهي في صدد تحضير دكتوراه في الألسنية والترجمة.


جمانة حداد

www.joumanahaddad.com
joumana333@hotmail.com

***

  الأنطولوجيا  
 
 

Pier Paolo Pasolini