عبده وازن
(لبنان)

زينب عساف يكتسب الشعر في ديوان زينب عساف "صلاة الغائب" (دار مختارات 2006) صفة الصراع الداخليّ الذي تعيشه الشاعرة بين ماضٍ ترفضه وتهجوه وتسخر منه سخرية شبه سوداء، وحاضر ترنو اليه ولكن ليس بالكثير من الأمل. ولأقل، بوضوح أكثر، انه الصراع بين الشاعرة وقرينتها، بين زينب أولى وزينب ثانية، بين الأنا الذاتية والأنا الشعرية. هذا الصراع الداخلي يدفع الشاعرة الى أن تلعب لعبة المرآة، منقسمة على نفسها، ومميزة بين الذات وظلّها. ولا بدّ هنا من أن تنتصر الأنا الشاعرة على الأنا المسحوقة "المدفونة بحنان بين أوراقي" كما تقول زينب، في قصيدتها الطويلة "صلاة الغائب". الشاعرة الكامنة في أعماق زينب عساف هي التي ستنهض من رماد الذات متولّية الكتابة عن الأنا "المدفونة" التي وهبتها لسانها، كما تقول أيضاً، أي عن "زينب التي لا تجيد ترقيم دموعها في صفحات".
تهيمن على شعر زينب عساف أطياف السيرة الذاتية وكأن الشعر هو الميدان الذي يمكن فيه استعادة الماضي (القريب) وتصفية "الحساب" معه، ومع ما يمثل من أحوال ومواقف. وتبدو الشاعرة في غاية الجرأة عندما تسمّي بعض الأمور بأسمائها غير متهيّبة أيّ ردّ فعل مهما يكن. انها الشاعرة الثائرة ولكن بهدوء ولطافة، لا ترفع صوتها بل تختار النبرة الخفيضة القادرة على اختراق الجوارح والروح. وقد تبدو ساخرة في أحيان ولكن سخرية الكائن المجروح والمتألم. وتبلغ جرأة الشاعرة أوجها في تسمية انتمائها المذهبي جاعلة منه حافزاً واقعياً للتخلّص من ربقة الماضي ووطأة الميراث المفروض على الإنسان مثل قدره: "لا تخرج من خلف رأسها/ غمامة حزن شيعية"، تقول.
واذا كان الاسم يمثل في أحيان ما يشبه القدر فإن الشاعرة ترى في "زينب" التي هي "ألف فتاة أخرى تحمل الاسم نفسه" وتحديداً في "الكانتون الشيعي". هكذا تحضر هذه "البقعة" المترسّخة في التاريخ والزمن حضوراً إشكاليا يحتلّ حيّزاً كبيراً من الصراع الداخلي الذي تعيشه الشاعرة. هذا "الكانتون" يملك أيضاً حضوراً روحياً وميتافيزيقياً خصوصاً عبر ذكرى عاشوراء التي تفيض دموعاً.
زينب عساف شاعرة جريئة جداً، تكتب الشعر كما تحياه، بشغف ولوعة، بفرح وحزن، ببراءة مشبعة بالذكاء: "كنت بريئة كما ينبغي/ لقصة أن تبدأ: وحيدة/ انتظر الجنة/ بحجاب أسود". تكتب زينب الشعر كما ينبغي أن يكون، صادقاً وجارحاً ورقيقاً وفاضحاً في الوقت نفسه. انه الأداة التي يمكن عبرها الثأر من الماضي والثأر للذات الجريحة. بل انه الغاية أيضاً عندما يستحيل "الدمع على الورق" أشبه بالماء الحلو. وان كانت "زينب فخورة بأشواكها" فهي تدرك أنها "تسقط كثمرة" وأن "لا وجه لها" في الصور. إنه الوجه الممحوّ لا كوجه الكاتب الأرجنتيني بورخيس الذي لم يرّ وجهه ذات صباح، بل كوجه متوارٍ خلف المرآة، أو في ناحيتها الأخرى.
الا أن أهمية شعر زينب عساف لا تكمن فقط في الجرأة التي اتسم بها، وفي فضح الجذور التي يملكها، بل في ما يحمل أيضاً من مغامرة داخل اللغة نفسها وفي صميم القصيدة. ولعلها مغامرة حية وتلقائية، وقد تجلّت كثيراً في القصيدة الطويلة التي حمل الديوان اسمها "صلاة الغائب". تكتب الشاعرة في ما يشبه الترسّل، غير آبهة لما يعترضها. انها في معنى آخر تكتب بسهولة مَن لا تعصيه اللغة وتعترضه صعابها، فتسترسل الشاعرة وكأنها تحيا اللحظة الشعرية بروحها وأحاسيسها. انها كما تسمّي نفسها "مجرمة كتابة" وقلمها هو "رصاصة طائشة"، لكنّ الإجرام هنا لن يخلو من الرقة لكون صاحبته ضحية، ولن يدخل في لعبة القسوة التي دفعت مثلاً الشاعر الفرنسي أنطونين آرتو الى "القتل" مجازياً.
ولعلّ ما يميّز شعر زينب عساف أنه يكاد يكون نسيج وحده على رغم يناعه، فهو يأتي من مكان خاص جداً، معلناً تمرّده واحتجاجه على العالم الضيق الذي هو عالم الحياة اليومية، وعلى العالم الرحب الذي هو عالم الآخرين. ولا اعتقد بأن ثمة شاعرة تجرّأت على قطع حبل السري الذي يربطها بذاكرتها الأولى مثلما فعلت هذه الشاعرة الشابة التي لم تهب ردّ فعل عالمها عليها. بل هي مضت في جرأتها غير ناظرة الى الوراء بل الى الأمام، والأمام فقط.

الحياة
مارس 2006