قصائد تبحث عن المستقبل حلمياً

عبده وازن
(لبنان)

نظارات بيكيتقد يوحي عنوان كتاب الشاعر المغربي جمال بدومة «نظارات بيكيت» (منشورات اتحاد كتّاب المغرب، 2006) بأن الكتاب ينتمي إلى عالم المسرح، لكنّ القارئ سرعان ما يكتشف أن الكتاب ديوان شعري. غير أن ما يلفت في هذا الديوان هو الجو العبثي الذي يرين على القصائد، القصيرة والطويلة، وعلى النصوص التي سماها الشاعر «قصائد نثر صغيرة». ومن اللافت أيضاً أن الطابع العبثي يتجلى شعرياً في الديوان متخطياً الأثر «البيكيتي» (صموئيل بيكيت) نحو أفق تعبيري مختلف، تندمج فيه الطرافة والألفة والسخرية المرّة... ففي إحدى القصائد يخاطب الشاعر نفسه (أو الآخر) قائلاً: «انتظر، سوف يمرّ غودو بعد هنيهة». هذه الإشارة تخالف فكرة «غودو» في نص بيكيت، وتبدو كأنها تسخر من عدمية هذه الفكرة مؤكدة أن»غودو» الذي لم يأت (ولن يأتي) سيمر بعد هنيهة، كاسراً معنى الانتظار العبثي. لكن هذه «الإشارة» الشعرية لا تخلو من العبث لأنها «تسخر» من الحدث المتجلي في عدم مجيء غودو.

إلا أن القصائد لن تكتفي بتسمية بيكيت بل إن بعضها سيرتكز إلى أسماء شعرية من مثل لويس أراغون وحبيبته إلزا ورامبو وفيرلين وبول إليوار وابن زيدون وولاّدة وشكسبير (هاملت) وأوديب... وفي قصيدة «محاكمة» يسائل الشاعر: رامبو وكافكا ونيتشه وفان غوغ وجاك بريل قائلاً لهم: «اعترفوا:/ مَن منكم وضع الكرة الأرضية في جيبه/ ثم جرى/ في اتجاه الغروب؟» هذه محاكمة عبثية طبعاً على رغم طرافتها وشعريتها.

قد لا يكون استحضار مثل هذه الأسماء واستيحاء بعض القصائد ضرباً من ضروب «التناصّ»، فالشاعر المغربي لا يستعين بنصوص الشعراء والكتّاب الذين ذكرهم ليبني قصائده، بل هو يذكرهم إما ذكراً عابراً كأسماء راسخة في ذهنه وإما يقتنص بعض جملهم ليحرّفها ويغيّر سياقها انطلاقاً من إحساسه أو رؤيته. في قصيدة «إلزا – أراغون» يستوحي المقطع الأول من قصيدة لويس أراغون «عينا إلزا» قائلاً: «ستأتي الشموس إلى النهر ثانية/ سيأتي اليائسون وسأفقد ذاكرتي». أما قصيدة أراغون فيرد في مقطعها الاول أن الشاعر (أراغون نفسه) عندما انحنى ليشرب من عيني الحبيبة العميقتين جداً رأى الشموس تجيء لتتمرأى فيهما، ورأى اليائسين يرتمون فيهما انتحاراً، ويقول إنه في هاتين العينين العميقتين فقد الذاكرة. وترد إلزا في أكثر من قصيدة وفي إحداها يقول لها جمال بدومة متقمّصاً شخص لويس أراغون: «إلزا سامحيني... أنا لا أستحق عينيك». أما في ما يخص رامبو فهو يستعيد ملمح «المركب السكران»، تلك القصيدة البديعة: «أنظر/ ينزل هنود حمر من قصيدة رامبو». ومثلما أجلس رامبو «الجمال» على ركبتيه يُجلس الشاعر المغربي «الأبدية» على ركبتيه قائلاً: «ستجلس الأبدية على ركبتيك. ستحكي لها قصصاً...». ولعل هذه الأبدية هي تلك التي وصفها رامبو بـ «البحر ممزوجاً بالشمس». فالأبدية لدى بدومة لا تقترب كثيراً من معناها الميتافيزيقي أو الديني، بل تقتصر على بعدها الحلمي الأليف. وفي قصيدة «رأس مقطوع» يتذكر القارئ ديوان أنسي الحاج «الرأس المقطوع» مع أن قصيدة بدومة تختلف عن «رمزية» الحاج وعن التأويل الديني (الرأس المقطوع ليوحنا المعمدان) وتكتسب طابعاً شخصياً ساخراً: «ستصبح ثانية وحدك، برجل واحدة ورأس مقطوع».

يطلق جمال بدومة عنوان «قصائد بلا مستقبل» على بضع قصائد في الديوان وكأنه يحاول أن يسخر من «القصائد» بل من قصائده نفسها. وفي قصيدة يقول أيضاً: «ها هي ذي على الحائط/ قصائدي القديمة/ مبللة وبلا مستقبل». هذا اللامستقبل الذي يتحدث الشاعر عنه هو المستقبل بعينه، لكنه مستقبل بلا يقين، مستقبل غامض ومجهول، يشبه ما يسميه هو نفسه «سبب الشعر» قائلاً: «وما سبب الشعر؟ أشياء غامضة في السقف. قل لي ما سبب الشعر واملأ يديك بالهواء». ولا يسعى بدومة إلى أن يجيب عن مثل هذا السؤال نظرياً على غرار بعض الشعراء الذين»ينظمون» نظرياتهم شعراً، بل هو يترك للشعر أن يعرّف بنفسه من خلال نفسه. والشعر لديه سليل الحرية والغرابة والهلوسة والطرافة والألفة. إنه مزيج خاص من هذه العناصر «المشتركة» التي يتقاسمها الشعراء الجدد في العالم العربي. إلا أن جمال بدومة يملك نَفَسه الخاص ولعبته الخاصة، لعبته التي تجمع بين الواقعي والحلمي أو تجعل الواقعي حلمياً والحلمي واقعياً: «الشمس ماتت هذا الصباح» يقول. وفي قصيدة أخرى: «الباب ليس إلا باباً. تدخل منه، تخرج منه. في البداية باب وفي النهاية باب». جميل جداً هذا المقطع الشعري الذي يخفي الكثير من العبث في طويته. يقول بدومة أيضاً: «أكسر زجاج الفكرة» أو: «أحدهم أغلق الصباح بالمفتاح واختفى». وتبلغ الطرافة شأوها عندما يكثر الشاعر من استخدام معاني «عمود الكهرباء» كأن يقول بكثير من السخرية: «ثمة عمود كهرباء عجوز»، أو: «تعب عمود الكهرباء»، أو: «عمود الكهرباء يلعب كرة الطاولة»، أو: «عمود الكهرباء رومانسي جداً»... إنه شيء من أشياء الحياة الحديثة والواقعية والشديدة الواقعية، شيء بات يشكل عنصراً رئيساً في المشهد اليومي الذي يحتل المخيلة. والشاعر الذي يحمل أحزانه في حقيبة جلد يركب الدراجة متجهاً إلى الأبدية. انه الذهاب إلى العالم الآخر على دراجة! الشاعر نفسه يعلن انه سيقتل «كثيراً من العصافير/ كي يضيء وجهكِ/ في ضباب الكأس». لعله نوع من «البيان» الجديد: الجمع بين قتل العصافير ووجه الحبيبة. وها هو يشبّه عيني الحبيبة بشفرة الحلاقة قائلاً: «مؤلمتان عيناك كشفرة حلاقة».

قصائد جمال بدومة لا تخلو من المفاجآت الجميلة، تقصر حيناً وتطول حيناً وتتراص سطورها في أحيان بحسب أحد معايير قصيدة النثر، وتظل تحافظ على طبيعتها «الهجينة»، العبثية والسوريالية والواقعية والمتخيلة والفنتازية والساخرة حتى الهتك: «لم يضحك معي ذلك الكتاب/ قرأني دفعة واحدة/ ثم صفعني بالصفحة الرقم 111»، أو: «لا تكن وقحاً/ كثاني أوكسيد الكربون»، أو: «الكواكب تشتمنا من فوق»، «طويل هذا الجبل/ وأنا بلا أقدام...»، «سوف أخبئ رأسي في مشنقة جديدة/ أجرح الهواء/ كي تصرخ الأرانب»، «سوف أغلّف أفكاري بأوراق الألمنيوم»... ويحضر بضعة رسامين في بضع قصائد مثل فان غوغ وسيزان وماغريت خصوصاً. ويعلّق بدومة شعرياً على «غليون» ماغريت الشهير الذي كتب تحته «هذا ليس غليوناً»: «دع ديسمبر يدخن غليون ماغريت». أي دع شهراً يدخن غليوناً ليس هو بالغليون. وتبرز أحياناً جمل ذات منشأ صوفي صرف، كأن يقول الشاعر: «أخسر عمري في الطريق إليّ» أو: «الشمس في قلبي». وجمل مثل هذه تذكر بعالم المتصوّفة والأحوال التي عرفوها. أما أقصى الطرافة فيتجلى في قصيدة «حظيرة» التي يصف فيها الفتيات بالحيوانات الأليفة: «مريم أيتها الأرنب البري/ زهرة يا قنفذي المدلل، بطتي الأثيرة آمال، كارول أيتها البجعة السماوية، نورا يا خروفي الجميل»...

جرى قبل فترة قصيرة سجال في المغرب حول قصيدة النثر انطلاقاً من مؤتمر قصيدة النثر الذي عقد في بيروت وقد غاب عنه الشعر «المغاربي»، وارتفعت أصوات في الدار البيضاء والرباط وسواهما تندد بـ «تغييب» التجارب المغربية. والقضية لم تكن تحتاج إلى مثل ردود الفعل هذه. فاليوم لم يعد الكلام قائماً عن شعر مشرقي وشعر مغربي، بعدما استطاعت الأصوات الشابة أن توحد «المعترك» الشعري، متخطية الحدود والجدران التي كانت قائمة من قبل. وهوذا الشاعر جمال بدومة يؤكد أن قصيدة النثر في المغرب هي نفسها في المشرق. وشعره الذي ضمه ديوانه «نظارات بيكيت» يتخطى فعلاً تخوم الجغرافيا منتمياً، بقوة إلى الحركة الشعرية العربية الجديدة.

الحياة
24/06/2006