(يوسف بزي في ديوانه "بلا مغفرة")

عابد إسماعيل
(سوريا)

يوسف بزيفي ديوانه "بلا مغفرة" الصادر عن دار رياض الريس (2004) يقدم يوسف بزي نصّاً عنيداً، متعدد الطبقات، للتدليل على أن الشعرية لا تولد من فراغ، وأنّ البحث عما يُسمّى الخصوصية وهم نقدي، إلا إذا كانت هذه الخصوصية تعني المقدرة على التفاعل مع نصوص أخرى، من طريق التأثّر الخلاق، وليس التقليد.

والنص الحديث، الذي يقدمه بزي، لا يمكن عزله عن بيئته اللغوية والتاريخية، بل تسهم في تشكيله نصوص أخرى. من هذا المنظور بالذات، يمكن القول إن قوة الشاعر الحديث تكمن في انفتاحه على تجارب شعرية كثيرة، عربية وغربية، قديمة وحديثة، وليس في انغلاقه، كما يسود الوهم، على أسلوب متفرّد واحد، وحيد، يوهمنا النقد التقليدي المدرسي دائماً بأنه من صنيع الشاعر بمفرده. لا تعمل مخيلة الشاعر ذاتياً، كأنما بوحي من الأعلى، ولا تتطوّرُ مفتونةً بالنظر طوال الوقت في مرآةِ ذاتها، خارج مرايا اللغة. وإذا كان ثمة من "خصوصية" فإنما تتجلّى في تقابل هذه المرايا ـ النصوص وتداخلها في النصّ الواحد، ما يغرينا بالحفر في طبقاته المتعددة، من دون أن نستنفد طاقته، بأي حال.

من هنا يمكن القول إن نصّ يوسف بزي يقدّم قراءة قوية لنصوص سابقة، محاوراً شعراء بعيدين وقريبين، (شوقي أبي شقرا، محمّد الماغوط، عباس بيضون، بسّام حجّار) ممن أحدثوا قطيعةً مع التقليد الشعري "الوجداني" من خلال البحث عن الجملة التي تعمل ظاهرياً ضد "شعريتها"، أو بشكل أدق، الجملة التي تقاوم ذاكرتها المنجزة، حيث التركيز الشديد على صناعة الصورة الصادمة، اللامعقولة، للتعبير عن قيم وجودية، وذاتية، تتسم هي الأخرى بالعبث المطلق. لكن بزي يختلف عن آبائه الشعريين "الحداثيين" في كونه لا يستسلم كلياً للحياد الشعري، فيوظف شيئاً من الوجدانية المضمرة، ويكشف بين الفينة والأخرى لُمَعاً من ذاته الخائفة، وبالتالي نراه لا يوغل بعيداً في الموضوعية (ytivitcejbo) في صياغة البنية الدرامية للحدث الشعري المتخيل، رغم أنّ "الموضوعية"، أو إقصاء الأنا الرومانسية، ومنذ أن طرح الشاعر الأميركي إليوت فكرته الشهيرة عن "المعادل الموضوعي" (evitalerroc evitcejbo)، تظل سمة بارزة من سمات قصيدة النثر اليوم. فالبنية السردية في معظم قصائده جاءت متقطعة، مبعثرة، ومواربة.

وليوسف بزي أشقّاء شعريون أيضاً، يختلف معهم تارةً ويتقاطع أخرى (فادي أبو خليل، شارل شهوان، اسكندر حبش، وأقربهم يحيى جابر) لكنه يرتبط معهم بالقدرة على توظيف التهكم أو السخرية (ynorI) إلى أقصى درجة، وإجادة التعامل مع التراجيديا، أو اللون الأسود، بخفة المهرّج وذكائه، الذي يُبرِزُ التناقضَ على أشدّه، ويسخر منه في الآن عينه. صحيح أن يوسف بزي استطاع أن ينعطف برؤياه الشعرية بعيداً عن مدرسة الماغوط، إلاّ أن نصّه يجاور الكثير من تقنيات الماغوط، كالاشتغال على المفارقة، وتصعيد الهوّة بين المتناقضات، واستخدام الرمزية الحالكة. لكن المؤكّد أن بزي ليس من أولئك الشعراء الذين يحبون الغوص في اللغة، وتفجير طاقاتها البلاغية أو الأسلوبية، رغم أنه ليس بريئاً تماماً من النحت اللغوي، أو جودة اختيار المفردة، حيث يعرف كيف يصطاد الاستعارة المبتكرة من دون أن يسمح لخطابه الشعري بالوقوع في التعبيرية المفتعلة. وإذا كان ثمة من خصوصية حقاً في نصّه فإنما تكمن في تذويب وصهر مصادر "إلهامه"، والإتيان بمقترح شعري مختلف يقوم جوهرياً على تعرية الذات ووضعها تحت مطرقة الاعتراف.

ولا يخفى على القارئ أن بزي، ومنذ ديوانه "تحت المطرقة"، الذي يدلّ عنوانه عليه، انصرف إلى شعرية القسوة، أو لنقل إلى تفجير الطاقة الشعرية الكامنة في الصلب والتقطيع والتشويه، وكأنه يحاول أن يستلهم بالكلمات تقنيات سينما الرعب (eivom rorroh) كما في قصيدته "علبة شوكولا على سطح المنام" في الجزء الأول من الديوان، حيث تطلّ ريم، الرمز والحبيبة، من بين الأنقاض، يمدّدها الشاعرُ فوق طاولته، ليعملَ في صورتها حفراً وتشطيباً، هدماً وإعادةَ خلق: "أنتِ تحت المشرط\ تحت أرض المستشفى\ كضحكة تحت الأرض،\ كأفكار طفل عن شجرة في الظلام\ خجلٌ ورعب ويقظات فجائية". ص (16) وتستمر القصيدة ـ الكابوس على هذا المنوال، تستحضر صوراً قاتمة ومنفّرة للجمال، على طريقة بودلير، في احتفاله بجماليات القبح، لتصبح الأنثى¬ رمز القداسة الرومانسية ـ شبحاً أبيض في قلب لوحة داكنة. ويُصدَم القارئ أمام صور متلاحقة تحتفلُ بالجمال المحاصر بالضمادات والمشارط ورائحة الموت. كأن الشاعر يريد أن يتمرّد على تاريخ الروح، وتاريخ الأنا العليا، وتاريخ الجمال، وتاريخ العاطفة نفسها: "العاطفة تختفي\ أما القبلة فلا نسمّيها" ص (16)، مفضّلا نسف الشفافية السهلة على صعيدي الشكل والمضمون، وما يحيط بهما من هالة بلاغية مقدسة، معانقاً فلسفة وضعية )laciripme( جديدة، ترى الكائن بعين وثنية، وتسردُ "الروحَ" بحيادية الراوي الذي يقف خارج الحدث: "الروحُ دائماً في الصحن\ الروح في الصحن\ ونحن لا نفعل\ سوى تمرير السكّين". ص (20) وهذه السكّين تطال أيضاً جوهر الوقفة العاطفية (latnemitnes) في أسلوب الشاعر، فتظهر الصورة الشعرية، كما في المقطع السابق، جديدةً، صادمةً، ومباغتة.

كما أنّ هذه السكين المجازية تطالُ روحَ "الطبيعة" ذاتها، والشعرية المرتبطة بها. وليس أدلّ على هذا من قصيدة "حفلة شواء عند جبل يطل على العاصمة" التي يتوقع القارئ، مخطئاً، أنها ستلامس بعضاً من المعاني المطروقة، المألوفة، لما يُسمى الجمالية الرومانسية. ولكن لا أثر لذلك البتة. فالجبل، كما يخبرنا العنوان، يطلّ على "العاصمة"، وبالتالي يصبح الخروج إلى الهواء الطلق ذريعة لرصد بيئة الميتروبول الحديث، كما تصبح أنوثة الطبيعة وشفافيتها نهباً لفحولة الخارجين من جحيم الحياة السفلية في أقبية بيروت وحروبها، هؤلاء الذين "نخّوا" بسواعد "جديرة بلجمِ الثيران"، ص (31 ) منهمكين بإشباع غرائزهم، لا يلتفتون إلى ما حولهم، فلا تظهر شجرة واحدة في الأفق يمكن للقارئ الاحتماء في ظلها. يغيّبُ الشاعرُ كل مَعلَمٍ 7-7-طبيعي7-7- وتطغى صور مدينة نافرة، هندسية، ومستقيمة، حيث "يأتي المهندسُ\ ويضعُ خزّانات الدولة في الأعلى\ يمدّ الجسرَ\ يقصّ الغيمة".. ص (33) وتصل القصيدة ذروة سوادها، حين نكتشف أن حفلة الشواء ليست سوى طقس سادي بامتياز، تشوبها فحولة آكلي لحوم البشر، (msilabinnac)، في فعل اغتصابٍ رمزي للأرض، حيث "الأسياخ السود¬ كما الرمح المنتزع من مستنقع¬ لزقة، مدنّسة،\ نحفّها بالرّمل\ نقلّبُ بها رماداً دهنياً،\ لنضيء، بحديدِها الأجنبي\ المصقول بالرعب\ لسانَ البرّ الشاسع" ص (39). تشعّ القسوة، دلالياً ورمزياً، من هذه الأسياخ المتوهّجة، في حركة توحي بأن الشاعر يريد أن يقصّ أيضاً لسانَ البرّ، مثلما قصّ "الغيمة" من قبل، لتصبحَ الطبيعةُ بأسرها مهدّدةً بالخرَس، ولنشمّ رائحةَ اقتتالٍ في الجوّ، حيث "الغربانُ والنسورُ تمزّقُ القطيع" ص (40). لكن الشاعر يحاول أن يدوّن خرس الطبيعة أيضاً، أو لنقل إنه يخرسُها أولاً ثمّ يتلذّذ باستنطاقِ خَرَسها، مستخدماً مفردات بخيلة، قاضمة، غير مألوفة، اخشوشنت مادّتها حقاً، "من ثقل استعمالِها بين الفكّين" ص (36). حتى أن يوسف بزي لا يمانع الكتابة بالفكّين، في ذروة هذه الرغبة المتأجّجة بتقطيع جسد الطبيعة (الروح\ الجمال\ الأنثى) والعودة إلى بدائية "الإنسان الأول"، وإيقاظ غريزة حب البقاء بالمعنى الذي طرحه داروين، تاركاً بين سطوره الكثير من الريش المتطاير والجلود المسلوخة: "من جبل إلى جبل\ مع الإنسان الأول\ وعينه الماكرة\ بين الأرضِ و مجارفها\ ثمة صيدٌ وفيرٌ\ منشورٌ بجلوده المملّحة، المعرّضة للريح\.." ص (43).

توحي شعريةُ القسوة لدى بزي بأنها خارجة للتو من أتون "حرب" مجهولة حدثت وتحدث وستحدث، في كل زمان ومكان، تعكسها لغةُ الشاعر في شكل قسوة تعبيرية وفلسفية، كمن يريد أن يقول بيقينية دامية: الإنسان وحش. هذا ما تنصرف إليه قصيدة كاملة في الديوان بعنوان "هو"، تصوّرُ ذاتاً عزلاء منهوبة، يقضمها الرعبُ "كسنجابٍ عظيم\ جاثم على فروة الرأس" ص (54). كذلك تفعلُ قصيدة أخرى بعنوان "البلطة" التي يفتتحها الشاعر بمشهد نموذجي للعنف، الذي يصيرُ أكثر عنفاً، حين تأتي اللغةُ لتصف، ببرودة نثرها وحيادية استعاراتها دمويةَ الواقعة: "جاؤوا مصطحبين ضحيةً:\ جبينٌ واسع\ ولا يحملُ علامةَ السّقطة.\ ننظرُ إليه ونمسحُ الندبةَ\ خمسة ثقوب فقط\ وضوء صادر عن الشر" ص (45).

على هذا المنوال، يمضي يوسف بزّي في لعبته المفضّلة، رافعاً "بلطةَ الثأر" في وجه أسلافه، و"متربصاً بالذين ضلّوا الطريق"، ص (46) حاملاً كاميرا الشاعر، وسط حرب طاحنة متخيلة، يلتقط صوراً دامية لوجوه مقتبسةٍ من القشّ، ولأحلام مأكولة في وضح النهار، يديرُ لغتَه بشبَقٍ مكبوت، وبشغفٍ أقسى من القسوة المصوّرة، ثم يهجعُ للنوم بعينين مفتوحتين، تاركاً كوابيسَه تسرحُ وتمرحُ في النصوص، من دون شعورٍ بالندم، تمثلاً بالبيتِ الشهير للمتنبي: "أنام ملء جفوني عن شواردها"، ليختتمَ ديوانه بكلمات خالية من المغفرة، لا تؤاسي أحداً، ولا تعتذرُ لأحد، كمن ارتكب جريمةً عن سابق تصوّر، ونسيَ بصمةَ إبهامه في السّطرِ الأخير من ديوانه: "على هذا المنوال\ أمضي عميقاً في النوم\ وبلا مغفرة" ص (85).

المستقبل
الأحد 16 كانون الثاني 2005

***

بلا مغفرة، الكتابة بالسلاح الأبيض

يحيى جابر
(لبنان)

يوسف بزي - بلا مغفرةبعد غياب سبع سنوات عجاف ("تحت المطرقة" 1997) صدقت الرؤيا يا يوسف، وانفتح المنام على كتاب مدهش: "بلا مغفرة".

سبع سنوات حل خلالها الجراد الشعري وأكثر من فرعون، المدينة وجوارها امتلأت بسنابل من مجموعات شعرية، سنابل بلا قمح. وقالوا لنا "هذه حنطتنا" ولم يكن ذلك سوى تبن لمعالف مهرجان أو شعير لبيرة مترجمين، سياح!

والخبرية تقول: "يا فرعون مين فرعنك؟ أجاب تفرعنت وما حدا ردني".
الفرعنة أتت لحظة سكوت عن كتابة، وخرس عن نشر، وانسحاب من جدل.

***

مقدمة لا بد منها، لأنني لا أفقه نقد الشعر، ولا الكتابة عنه، و"التنظير" متروك لجوهرجية اللغة أولا والى مثوري اللغة، ومنجدي اللغة، وميكانيكيي اللغة، بالاضافة الى الحدادة والبويا، مروراً ببلاط اللغة وحراسها ومرافقيها، ومروراً بكل الهامشين على رصيف اللغة من متسولين وعبثيين وممروضين.

هذا الشعر ليس عملاً أو كدحاً، أو مهنة، أو وظيفة. انه اللعب ثم اللعب ثم اللعب والتسلي مع الآلهة، انها الطفولة بلا مدارس شعرية، وبلا مشاكل عائلية أو وطنية أو حتى عاطفية.. الطفولة حيث اللهو و"الشيطنة".. وأنت شيطان شعري رجيم!

بدم بارد كلاعب بوكر يلعب يوسف بزي "بالكلمة التي تخشن مادتها/محفوظة فقط/ من ثقل استعمالها بين الفكين". يلعب من جديد، يعيد تشكيل أوراقه، محتفظاً بقسماته القاسية. هو الشاعر يضمر، يخفي، يفاجئ، يفضح "البلف" وتلفيقات وغش الآخرين من وكلاء الشعر والموت والمدينة والسياسة والحب وباقي المقامرين.

يلعب مع اللغة كمعجون بارود، وبلا تهويل، وحين تنكشف المائدة على خسارة إمرأته بين أنياب اللاعب الأكبر يرفض أي قبلة، أو تعاطف كتف، "أنا لطالما عشت ولم يضمني أحد"، أو "أنظف حنجرتي من أهلي".
بكبرياء الخاسر، الشاهق، المتعالي، تأتي الكتابة بشرف اللغة، بكل أبهة الجنازة، بعيداً عن ندابي الشعر ولطاميه: وحده "أخلع عظمة فخذي لأؤنب ضميري". هنا الاعتذار من أجمل قصائد الحب، جملة واحدة تكفي، مؤبدة، ليقشعر الجسد على نص بكامله، ليوقف شعر الرأس، ويوقف النبض بالقلب ويفيض الدمع من مكان لا يتوقعه أحد من "فتحات البدن المصانة بالكبرياء".

صراخ لا يتوسل ولا يتسول، مضمر، بخبث لقطة، برفة لكمة، مضمر على دهشة لا تصدق، داخل كتاب "بلا مغفرة" تهبط وترتفع مع آلة شعره من "مقصات عملاقة تضرب الغابة"، كأنك في لغة ملاه عملاقة:.. يدوخك، يفزعك، يقودك الى مدينة أشباح حيث رعب ريم... تبتسم للجحيم، للهياكل العظمية، للهاوية. وحده، معها، رأى الدولاب الكبير، ونجا معها كامرأة، كأشهى "علبة شوكولا على سطح منام".

انه الرعب بلا تطهير، ليس فيلماً، انها الحياة بالشعر، انها "اليد المقذوفة من الجحيم" والجنة "بجمال محترق". وما بينهما يوسف شاهداً بآلته الفوتوغرافية، بعدسات متعددة وبلا رحمة، يقول لك رأيت ورأيت وكتبت!
عويل ولا يستنجد بوالد شعري أو شقيق أكبر، أو حزب أو دولة أزهار صراخ ليس للفت الانتباه وإنما كجراح ومشرطة، انها الفجيعة بصمت "لتشطب عيناً أو تحذف كيداً". وبالمبضع نفسه فوق بطن إمرأته، يشق قلب المدينة. وما بينهما يلعب بالأحشاء، ويتمارى، ويرى... حيث لا يبصر الآخرون. "بلاد جميلة لم تعد لها طريق/ وأنت المقطوع عن اسمك/ وإن رمموا عينيك/ لن تبصر السبيل".

عاصمة يوسف بلا أرياف، بلا "طق الحنك" للشعراء الزراعيين المدينة مدينة، والرسم بالأزميل أو النحت بالريشة. انه الاختلاف في النظر الى قاموس الورد والرياحين... الطبيعة هنا تنادي، تغوي ليضمها أحد بقسوة! بعيداً عن البكائيات والرومنسيات وألعاب الخفة لكل شعراء الريف الذين يدعون مدنية ما. امرأته مدينته، ومدينته ايضاً امرأته، ولا فرق بين الغزلين... "تطيرين محمولة/ بالريح البلا هواء" و"أنت أيتها المعذبة من فمك/أمامك شح/ مجذاف بلا جدوى وأكثر من إنسان أليف ومهان".
بعد غياب سبع سنوات يا يوسف تجيء القصيدة أو لا تجيء (و"عمرها ماتجي") كنت تنتظرها طويلاً، وتأخرت. لكن صدقني، الآن هي تنتظرك، هي في حيرتها، ملهوفة لأن تكتبها، وتعانقها، الشعر كله بانتظارك، لا تتأخر، أركض كعداء "كافافي". هذا الديوان ابتسامته في المرآة باقية.
لك الشعلة يا فتى، في هذا الأولمبياد، في هذا الماراثون، ولن تجد ربما جمهوراً على المدرجات ولا تصفيقاً جماعياً ولا كأس في النهاية ولا علم يرفع ولا موسيقى... هذا شعر بلا علامة نصر النجومية، بلا نيغاتيف أفلام ولا شهرة. إحذر من ابتسامة تشجيع بلهاء "لنكسر كاف التشبيه/لنحطم كنبة الشاعر".

هذا شعر لم يعقد له ندوة أو مهرجان، وتربيت الكتف هو نصل، والمصافحة طعن والاستقبال خيانة... انها المائدة لشعر يتيم الأبوين.. وأكثر من لئيم! والأخوة على أصابع اليد.

"بلا مغفرة" كتاب اللهب، وسط علب كبريت من مجموعات شعرية مبللة بالماء وعيدان ثقاب من مواهب لا تشتعل.

هنا معك "نخفض أيدينا أمام نار/ كانت تعيش في الأحجار قبل أن نشعلها.."، يا دافئ، يا حنون..

في هذا "المسلخ التجريبي" يوسف قصاب لصخور اللغة، والكتابة باللحم الحي، بالسلاح الأبيض للمفردة، الكتابة كثأر، الكتابة لرد الاعتبار من إهانة شاعر، إهانة كبرت بشائعتها ككرة ثلج وسم، كتابة رجمت بألفاظ نابية ونبذت.

"بلا مغفرة" مجموعة تقودني الى معرض استعادي لشعر يوسف بزي، ("المرقط"، "رغبات قوية كأسناننا"، "تحت المطرقة") شعر أهملناه، وانتبهنا اليه وحاربناه، أعود اليه لوحة لوحة، جملة جملة،.. يا إلهي كم انت شاعر، واعتذر منك عما جرى، حين كنا توأمين وانفصلنا، وأسلمنا بأحقاد وبأكثر من مبضع.... ونعود لنخيط الجرح، بمسلة ثاقبة كشعرك.

المستقبل
الاحد 2 كانون الثاني 2005