(والمنازل التي أبحرت أيضاً) لأمين صالح

عناية جابر
(لبنان)

عناية جابرفي "نزيل العزلة" إحدى القصص في إصدار الكاتب البحريني "والمنازل التي أبحرت أيضاً" ثمة الرجل الأعمى، ويقرأ في الأشكال ويحدد التخوم بعكازه، أو العين الخشبية كما يسميها، إثر العملية الجراحية الناجمة التي تعيد له بصره، يصير يرى ولكن بلا ذلك السحر الذي كان يكتنف الأشياء في العمى وبفعل المخيلة، ولا الفتنة التي تجمل وجوده المظلم. أمين صالح يكتب في عماه أبداً. يخوض مفردات في الظلمة وفي تبدد الضوء حيث أبواب الكتابة تتفتح هنا، لكن إلى الداخل. يكتب في اللايقين وفي الالتباس، والفخاخ الحقيقية والوهمية، ويكتب برشاقة ودهاء ما يضمره في قلبه، متحركا في عالمه الروائي الخاص وشيّده من عناصر المخيلة، وقطعا يحاذر الوقوع في فخ العملية الجراحية الناجحة الذي وقع فيه الرجل الأعمى، مستعيداً بصره الذي يريه قبح الواقع. في الكتابة، يحاذر صالح ان يغادر عماه، ويرفض البصر للمفردات، البصر الذي يخون المخيلة فلا يحرضها.
"والمنازل التي أبحرت أيضاً" هي الجديد القصصي للكاتب البحريني أمين صالح عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" وتعرض إلى الجوهر النقي للكائنات، الجوهر النقي لروح الأشياء والأمكنة، في مقاربات لغوية فنية وفاتنة، لأقدار الجمال الذي ينبع من الدواخل القصية.
يكتب صالح بأقل القدر الممكن من العبارات التأويلية والغرائبية، عن حياة قليلة ورغبات قليلة ومطارح مجهولة، ولكن بحزم السحر الذي يفلح في إضاءة الفكرة، وفي رفدها الهواء النقي، وفي الاعتبار الأوحد الذي يراعي إبقاء السرد محكما، وواقفاً على قدميه.
يسعني اعتبار لوحات صالح القصصية ومشاهده، نصوصاً أيضا، نصوصاً نثرية تغتذي مما يغتذي منه الشعر، ومنغمسة في آن في مجازفات القصة القصيرة في شروطها الفنية كافة.
ما ان تكون أنت نفسك كاتباً نقياً، حتى تظل نقياً في كل ما تكتبه. اعني هنا النقاء الإنساني الذي يستدعي بالضرورة نقاء النص في حد أول. عبارة صالح لا تحتاج إلى جهد متعمد في استخدامها، او استخدام الكلمات او تركيب الجمل. باختصار، هي خصيصته الأسلوبية التي تحسن الفروقات الدقيقة في التعبير في هذه القصة وتلك، سواء سعى صالح إلى استعمالات مجازية، او حاول إلى وسيط لغوي تعبيري، او عبر جملة شعرية يختم بها على ما رأينا عوالم قصصه الدافئة والمعذبة، من دون ان ينتهك شرط القص، او يخون الحبكة اللازمة التي تضيء السرد في مغزاه.
تتكرر الأحلام في اغلب "والمنازل التي أبحرت أيضاً" كما لو تخدّر الواقع. كما لو البديل الممكن عن تراجيدية الفقر والتهميش والترحال والنوافذ الضيقة والجدب. لغة صالح نفسه، هي جزء من أحلام شخصيات قصصه، لغة مزدانة بحالها، مترفعة عن الأرضي، خلابة حتى لتبدو تعويضا ما، شعراً ما، يرفع الغم عن السرد.
ما من أسماء لشخوص قصص صالح. ما من أمكنة محددة، سوى ان السمة واحدة لكائناته الإنسانية والشيئية في قصصه الأربع عشرة في الكتاب، وهي القلوب الرقيقة للناس وللبيوت وللطرقات، رقيقة كالماء ومصائرهم محشوة بالحجارة وبالألم. عن هذه المصائر، يكتب صالح معادلاً لغوياً قاتماً يشبهها، ويخوض في معنى الواقع الزائف مطعما التركيب الداخلي للغة، بأشكال تعبيرية خاصة، تجعل من قصصه قريبة من الكتابة الشعرية، وإن أسطورية في احد ملامحها.
في نظرة متأنية إلى عناوين القصص المشاهد، نرى "مساء يضرم المكائد" و"الغزال الذي مضى مطأطئاً" و"العجوز التي حاكت حلماً خجولاً" و"مدى فسيح تتراكض فيه الرياح" و"عند قناديل تُبارك اليقظة" و"أفق لا يمسّه جناح" و"هو والهاوية.. وجهاً لوجه" و"ضغينة الخارج من نومه مكفهراً"... الخ، وكلها عناوين رهيفة تمتد على مدى أربع عشرة قصة كما ذكرنا. بمثل هذه الرهافة المنسحبة على المضامين تتابع العناوين في فحواها، متأملة في الإنسان والمكان من حوله، في الخيبة وفي الموت وفي الحب وفي رغبة الانعتاق، وفي الانتفاء المطلق لهوية المكان في صورة الرحيل الدائم. من هنا، تقع قصص الألم هذه على جانبي الهاوية التي تمتد من اللامكان الفعلي، إلى اللاموضع وغير مفضية إلى شيء او هدف او مكان سوى ما تنيره البصيرة الداخلية. مصائر معذبة للكائنات، وترصد تفاصيلها عين الكاتب في الصور التي تندفع من منبع واحد منحاز إلى الضوء الحقيقي، وخافتة فيها النبرة الغاضبة التي تحتج على الخيبات الكبيرة وانكسار الأحلام، لصالح ارتفاع نبرة الهدوء والصفاء والتأمل، ونبرة الشعر التي يليق بها خوض ليل طويل على مدى قصص صالح، ليل طويل من اللامعنى، سوى بأس القلب وحكمته.

الكتاب: "والمنازل التي أبحرت أيضاً"
الكاتب: أمين صالح
الناشر: "المؤسسة العربية للدراسات والنشر"

السفير
2006/09/12