("كرسيان متقابلان" لعلاء خال)

عناية جابر
(لبنان)

عناية جابرلعلّ الملمح الأكثر شاعرية في ما يكتبه علاء خالد، وفي اختياراته وطريقة عيشه، هو تمرده على الحياة الثقافية العامة مكتفيا بالخوض في سلامه الشخصي بعيدا عن الجانب السلبي في تلك الحياة، منصرفا إلى مشروعه <مجلة أمكنة> بتميزها الذي لا يني يتبلور ويزدهي. في عزلة علاء في الإسكندرية ثمة الكائن الإنساني الغنائي، والنتاج الشعري المؤثر في الانعكاسات المتبادلة بين الشاعر وقصائده.
مجموعة الشاعر المصري علاء خالد، والصادرة حديثا عن <شرقيات> احتوت بعضا من أكثر قصائده إثارة للانتباه، قوة وبهاء لفظيين مسنودين بخيال خصب ينقلك عبر أدوات بسيطة إلى عالم مجهول، ويُغذي اتجاها شعريا حداثيا مليئا بالتصويرية والمغامرة والفانتازيا.
من قصيدته: <الجدران الخشنة للمستقبل> نقتطع الآتي:

<كان يأتي محتشدا بسلطة الصداقة الجارحة
تتحول الغرفة إلى أنقاض من الكلام
وكتب مفتوحة عند المنتصف
واستشهادات من كل بقعة ساخنة
نقلب معاً في صور الموت المكتوبة
عينه كانت لا تستقر إلا على درجة عالية
من السلم الموسيقي للبكاء
نصعد لأعلى مختصمين في مرآة الطفولة
كنت أحب دوراني، التخبط في الجدران الخشنة للمستقبل،
أتراني المفقود وسط هذه الحقول الحزينة من الكلمات>. (ص 55)

فانتازيا
في قصائد خالد، صيغة شعرية تولد من التوقعات. موجزة وغريبة، وبعضها يولد ممتزجا بالدعابة رغم جذرها المتألم. الشاعر في <كرسيان متقابلان> مأخوذ بالعالم خلف هذا العالم، وبلغة الأشياء، وبالكائنات في منتهى شقائها حيث تبدو حرفتها في القصائد، كما لو قدمها لنا خالد من زاوية فانتازية، كما في القصائد الثلاث <المهام الخشنة للبيوت> <عاملة النظافة> <جيرة دافئة>. هكذا تتوفر لنا أكثر من مفاجأة جميلة في إصدار خالد الجديد، حين تمتلئ القصائد بالحياة السرية لكائناتها الحنونة والمعذبة، يرصدها الشاعر بقلبه وعينيه التي تُجيد استراق النظر في أكثر الخفايا عمقا وظلاماً.
يكتب خالد في ما يسترعي انتباه روحه، في تلك الإحالات إلى الواقع المألوف للحياة الداخلية للأشياء والكائنات، الإحالات التي تمنحها طابعا تصويريا واقعيا، ساخرا أحيانا، يرفع الصياغة إلى مستوى النثر العالي، في تراكيبه الحرة والمفتوحة، فانتازيا حلمية هاربة دائما من إغراء الواقعية بوجهها الكلاسيكي العادي.
دائما ثمة عالم إضافي إلى العالم الحقيقي لحياة الكائنات في قصائد علاء خالد، يكون فيه اليومي مضللا إلى حد أن يقلب تماما رؤيتنا البديهية. بذلك تتوجه قصيدته نحو بعض أنواع النثر المتاخمة للشعر، والتي تفوقها شاعرية أحيانا. فخالد شاعر أولا في صياغاته، وفي تخييله، وفي ذهنه المبتكر الكثير من الألعاب الجمالية والتجربة العميقة والدراما الداخلية، لشاعر يسعى في قصيدته إلى خلق عوالمه الخاصة، حيث تستطيع عبارته التدخل بحسب رغبته، وحيث يمكنه أن يصنع التحولات في كل سطر، وأن يتصرف حقا كمبدع من جذر صحي وذهني للكتابة، ومن تعويض داخلي عن عدم الرضى على كل شرور الوجود. القيمة الحقيقية تاليا لشعر علاء خالد عدا فنيته، هي قيمة أخلاقية جمالية تبدو واضحة من دون إسناد.
نقرأ في قصيدته: <ملح الاستسلام>

<وأنا أقلّب في أوراقي القديمة
مرت على عيني سحابة بيضاء

وأنا أقرأ هذه الكلمات:

<الملح، هذا البياض الذي يلتصق بجلودنا، بعد كل مد عميق للغرف. يوما ما، سأجمع الملح من حصيلة قمصاني وأرفعه كراية بيضاء ضد الوحدة الآن، لم أعد أميز وحدتي وسط هذا الكرنفال الحزين من الألوان>. (ص 65)

كائنات علاء خالد في قصائده، ميتة أو حية، والمشاهد الطبيعية والأشياء، تقاومه دائما بالغياب. لذلك يستعمل لأجلها لغة غنائية في بعض المواقع، ليتحقق التوافق الحيوي بين فعل استدعاء هذه الكائنات من غيابها، وبين الصياغات التعويضية لهذا الغياب.

عناية جابرتواطؤ
لغة مرسلة أحيانا، وأحيانا مباغتة ومبتورة في لحظات اليأس، وهي نفسها الشعور متخثرا في كلمات. الإيقاع قلق، نابض وحيوي، ما يمنح القصيدة تأثيرها في صياغاتها المختصرة وفي المحاكاة. ليس للجملة عند خالد، هيكل عظمي، بل نراها أحيانا في الصمت، ونراها في بعض التكرار لتيمات معينة، ونراها في تلك المراكمة للطاقة الروحية للقصيدة، وفي شحن الكلمات بكهرباء حقيقية وبهدوء مكتنز في آن، ما يقرّبنا أحيانا من نوع التواطؤ بين القصيدة وناسها، وبين الشاعر.
نقرأ في قصيدة: <أطياف>

<أخذ يحدثني
عن الآلام المحتملة،
والآلام غير المحتملة،
كأنه يقنع جسده بأن النهاية ما زالت مفتوحة أمام درجة أخرى من الآلام> (ص 49).

علاء خالد في <كرسيان متقابلان> كأنما يكتب في نفق روحه، ما أن يدخله منذ أول قصيدة، حتى لا يملك سوى التقدم بكل الأمل إلى إضاءات شافية والى التطهر من الحزن، من دون نفيه، عبر رؤى تقترح الحنان لعلاج الأشياء.

الكتاب: <كرسيان متقابلان>
الكاتب: علاء خالد
الناشر: دار <شرقيات>، القاهرة .2006

السفير- 2006/12/05