ديوان " الغزالة تشرب صورتها " لعلي الحازمي (عن المركز الثقافي العربي) ؛ يطل علينا من بين طهرانية التربة وخصوبة الأرض ، من بين نسيم المروج وعبق الورد .. فتبدو القصيدة وكأنها جزء من تلك الأرض الخصبة والمروج الخضراء .. فتشكلت لغة خاصة بها وموسيقى إيقاع متباينة تتوثب فيها روح الشعر بعبق البراري..
في هذا الديوان يؤسس الحازمي قيمة جمالية جديدة تحمل سمات الطبيعة بمكوناتها المتباينة ، فالطبيعة في الديوان تتعدى أن تكون مصدرا للإلهام ومساحة للبوح وفضاء للتجلي إلى أن تغدو لبنة أساسية في تشكيل القصيدة ،و كأن الشاعر يصيخ السمع للطبيعة ويكتبها في اللحظة التي تكتبه ، والشعر هنا حالة استثنائية من التوهج خارجا من نار التكوين الأرضي .. ففي القصائد ذلك الشيء الذي تحسه نابتا من الأرض وقاموسها يمتح من مفردات الطبيعة ، ومكوناتها تترعرع في طينتها ، فتأتي القصيدة تلويحة السعف عند مصافحة النسيم أو همهمة الشجرة حينما يقبلها الندى .. وحينما تقرأ يصيبك ذلك الإحساس وأنت تحدق في وردة مأخوذا بذلك السر الغائب فيها، المنسوج في تفاصيلها..
وأمام طغيان الطبيعة بمفرداتها على قصائد الديوان ، حتى بدا وكأنه نافذة نتأمل من خلالها وجوه الطبيعة والوجود في مناخ شعري وعمق جمالي ، نتساءل هل الكتابة في حضن الطبيعة واستعمال مكوناتها كلبنات لتخليق قصيدة ؛ هو عودة وحنين إلى فردوس مفقود كان يتربع عرشه الشاعر في زمن الطفولة المغادرة حيث البدايات عذراء والزمن مفتوح على جمال لامتناهي .. ؟.. أم نتيجة لعمق الوعي بالأرض ومكوناتها كرموز لها خصوصيتها الجمالية وأبعادها المعرفية وعمقها الدلالي فتم توظيفها بكثافة نسجت الديوان في أدق تفاصيله لتمنح القصيدة بعدا جماليا وعمقا دلاليا ..؟.. ربما هما الاثنان فالطفولة وجه آخر للطهارة و حيث البدايات عذراء والزمن مفتوح على جمال لا متناهي (دعينا نطوح بالأمنيات على مفرق السهل / حين ولدنا.. كنا نغني / وكنا نُمني غصون طفولتنا / ونخبئ في ظلها السوسنا ..) .. والطبيعة تعطي ذلك البعد الجمالي بمتعة بصرية وهي تتجلى في تجريد شغوف بتعدد الألوان والأصداء (لم نجار الرياح التي طوحتنا بعيدا / بل مضينا نرجح من كفة الشمس حين تميل / على قمح أحلامنا في الهجير / طيبان كما النخل /..) .. (تتفتحين كزهر نيسان المسافر / في حقول الذكريات / ورود كفيك انسكاب للحرير الآدمي..) .
والديوان يفتح أمام القارئ مقترحا شعريا ناجزا يصب في صالح القصيدة ، حيث القصيدة لم تعد في الأساس والمقام الأول انجازا لغويا بوصف اللغة اللاعب الأساسي في تكوين النص الشعري بل أن اللغة معه تبدو حيادية في عدم تطرفها في الامتدادات الغريبة والصادمة ، وليست أيضا أداة لصورة الشاعر .. هي بين حركة الطقوس الشخصية لذات الشاعر وانسيابية البوح وغناء وغنى الصورة بالإضافة إلى استفادة الحازمي من الطاقات الكامنة في السرد بوصفه الأقرب لتداعيات عذرية البوح دون أن يشعرك بوجود ذلك الانشطار التام الذي تجابه به ، بعض القصائد ، قارئها . ففي قصيدة (وأنت القريبة .. من ربك) .. يأخذ من السرد روح الحكاية ليكتب بها قصيدة ترصد حالة امرأة شفها الوفاء للحظات نقاء ظنتها البقاء السرمدي (ووحدك أنثى تدبر ليل المواعيد/ تشقي مساءاتها باعتناق الهديل الأخير ...) .. فحينما يغيب الحبيب وحينما لا تصدق المرأة هذا الغياب وإن أتى في صورة هجر فإنها تظل على نكرانها بالإقامة في ظل الحبيب الآفل ، وتحول هذا الظل بطريقة تبعث على الأسى لمن يرقبها من على بعد مسافة ترى حقيقة هذا الغياب المتشكل يبابا لا أمل منه وفيه .. ويأتي الحازمي بألوان الطبيعة ليحكي لها ولنا بداية المأساة ويستشرف نهايتها.. (تخطئين مرارا وأنت تخالين / فجر ابتهالك سوف يفيق الفراشات / من سر خفتها الأبدي ..قطعت إلى الحلم شوطا بعيدا / ولاح الخريف البليد/ على عشب خطوك ..) ... لكنه همس لها، ذات تجلي، بما تخضر به روحها في سنين الجفاف وتدوم مواسم الربيع في عينيها.. (ستزهر / باسمي واسمك من برعم / غائر في النشيد / سنولد ثانية .. لا تخافي! / سنولدُ .. / لو بعد ألف سنة).
ومن أهم سمات القصيدة عند الحازمي هي الوحدة بين جميع أجزائها ، فهي تبدو فكرة تتشكل بهدوء وتنمو وتتنوع دونما اختلال أو اضطراب أو يكتنفها شيئا من الشتات الذي يبعثر القصيدة ويربك غنائيتها التي تعززها الطبيعة التي استخدم مفرداتها وأدواتها ورموزها في قوله الشعري ببراعة، تلك الغنائية التي لها جاذبية خاصة طغت بجمالها الطبيعي على غنائية الوزن والقافية .
وإذا كانت الطبيعة مادة تكوين الديوان فإن المرأة هي روحه وغاياته.. والعلاقة بها تجلت في ثوب صوفي كتعويض عن عجز المقاربة المادية / الحسية .. وذلك لفقدان الحرية التي هي مطلب وجودي موازي للحياة .. ولقد اتخذ الغزالة رمزا للحرية حيث تفيض من جنباتها وتتشكل في كل أطياف الحياة .. (مثلما الكائنات الجميلة بالأرض / الغزالة تمضي إلى شأنها حرّة /عند الظهيرة .. بمحض هواها تظل ترقب فوضى الجمال الموزع .. الغزالة طفل الصباح الملل في شجر الكلمات / الغزالة ناي يؤثث صمت الجهات) ...