كائن مؤجل؛ رواية لفهد العتيق.. عنوانها شقي ومفتوح، فيه قلق وشاعرية تدفعنا للكتابة.. الكائن المؤجل ؛ دلالة على كائن غير فاعل على الأقل في الوقت الراهن، وهذا ما كان، فبطل الرواية يعيش اغترابا مزدوجا، اغترابا داخليا لعجزه عن الفعل واغترابا خارجيا لأنه لا يلبي قناعاته الداخلية. فغدا شخصية مأزومة ينزوي في ذات تبحث عن مبرر لما وصلت إليه دون القيام بفعل يرضي الذات، بل يكتفي بالانكفاء على ذاته يرقب الأشياء ويجسها عن بعد دون مقاربة عملية، وبعين يقظة ترصد ما يدور في الخارج والعين الأخرى تقارب الماضي في عملية استرجاعية حدّ الانغماس في صوره.. وهي ذات تروي على خجل، وتنبئ على استحياء، ولا ترفع غطاء القدر المكتومة بقدر ما تتلصص عليها وتخبر على استحياء عما فيها.أحيانا يبدو سردها وكأنه بيان لما يسمى بالطفرة وما أحدثته في سطح المجتمع، وفيها ما يبدو أنه انتصار للماضي بالإصرار على إبقاء ذاكرة نشطة تجوب دهاليز الماضي دون أن يكون للمستقبل أي حضور أو ملمح إلا بقدر الإشارة إلى القدر المكتومة.
فجاء السرد كعملية إشعال لذاكرته وذاكرة المتلقي، باستخدام لغة بسيطة سلسة، صَوَرَ من خلالها ما حدث خلال الخمسين سنة الماضية وانعكاساتها على الشخصيات البسيطة وربما المهمشة.. فمعمارية السرد تتشكل عبر شريط يتداعى من خلال فلاشات سريعة متعاقبة، قطع مشهدية متفرقة يتم تجميعها لتكتمل الصورة.. يتحدث عن ضيق المكان، وضيق الإنسان داخل نفسه..والأيام تتشابه، فتبدو الأمور هادئة لكنها تمور في خفائها.. والراوي يفصح عن ثنائية الظاهر والباطن، المعلن والمخفي، الصمت والصوت وسيأتي يوم يتبادلان فيه الأدوار على مسرح الحياة والفعل والتأثير لكن كيف سيتم ذلك؟ "أنا في هذه اللحظة أرى حياة تغرق في الفوضى واليأس والحزن، أوقات مليئة بكل شيء إلا أسئلة المواجهة الصريحة، كل يخبئ أسئلته، يكتمها، ثم تعبر عن نفسها بانفعالات مرضية. لكنني قرأت عن رائحة لمسها الناس قبل أن تخرج من القدر المكتومة..".
وإن بدت الرواية غارقة في الماضوية حتى قيل بأنها إشارة إلى إفلاس الكاتب وعجزه عن تجاوز بؤرة القريب والمتناول، لكن قد تكون قراءة الماضي أداة لقراءة الحاضر واستشراف المستقبل والانتقال من الاجترار والاسترجاع والتسجيل والمقاربة إلى التجاوز، ومن قراءة الأشياء إلى استكشاف الكنهة، وهنا الراوي حاول _ وإن لم ينجح تماما _ أن يمزق قشرة الماضي وغشاوة المجهول ليتلمس المستقبل.. فهنا قدر تغلي، قدر مكتومة، هنا غليان وكتمان، وكأنه يبعث رسالة إنذار لما سيحدث إذا لم يرفع الغطاء. وما الكائن المؤجل إلا رمز لذاك الصوت المختفي رهبة خلف جدار الصمت لكنه يتحرك بحتمية طبيعية قامت عليها الأشياء، يندفع ليأخذ وضعه الطبيعي..
هنا قدر تغلي
هنا قدر مكتومة
هنا قدر فيها يمور الردة والتقدم..
أصوات الرجعية وحناجر التنويرية..
غليان وكتمان....
ومما يلاحظ على هذه الرواية أنها كتبت بنفس القصة القصيرة الذي لا يتوافق مع طبيعة الحبكة الروائية مما أثر على البناء الفني للرواية، وافتقرت أيضا إلى ديناميكية الحدث وحيويته التي تدفع بالرواية إلى الحراك في آفاق متعددة وتصاعدية، ومع بداية الصفحة 48 أخذ الكاتب يدور في دائرة مغلقة تضيق أكثر مما تتسع، على الرغم من أنه اتكأ على تقنية الاسترجاع لكنها فقدت جاذبيتها لأنها غدت ترجع إلى القارئ نفس الأشياء التي عرفها من الصفحات السابقة وإن اختلفت الصياغة وتراكيب الجمل، فبدت هوامش لا داعي لوجودها في المتن. وأحيانا يبدو الراوي مستعجلا في سرد بعض المواقف والمشاهد التي كان لها أن تثري الرواية وتضيف إليها جماليات عالية على المستوى الفني.
والرواية في بنيتها السردية ترصد تناقضا متعدد المستويات يشمل الفرد في عالميه الداخلي والخارجي فإنسان الحاضر إنسان مغترب أنجبته أزمنة تعجنها بديهية الأشياء بسذاجتها وبساطتها وثباتها لتواجه عالما معقدا سريع التغير بمعطيات مختلفة عما قامت عليه الذائقة الفكرية السائدة والمتسيدة.
وفي كائن مؤجل كأن الفعل توقف عن الفعل (الممارس( لوجود كم هائل من ردود الأفعال المتراكمة المكبوتة فغدا الفعل الحقيقي هو انتظار لحظة انفجار ما هو مكبوت لتستكمل الحلقة دورتها وننتقل إلى حلقة أخرى ومرحلة جديدة بأفعال وردود أفعال أخرى، وربما كان ذلك سببا في غياب الأسئلة في تلافيف الرواية، فالأبناء على ما يجابهونه من تغيرات وتبدلات وانشطار بين الداخل والخارج لا يسألون أو لا يتجرأون على السؤال لأنه نتاج مجتمع يعيش قرونا ملحمية فالأب عليم والابن عليه الاكتفاء بعلم آبائه، فالقيم أخذت شكل البداهة والثبات.
وإن غاب البطل الملحمي في هذه الرواية فإن شخوصها تحمل صفات المجتمع الملحمي مما أدى إلى تلاشي حضور البطل الروائي الذي يخلق ملحمة حديثة تقوم على التحرر والتشكك والتساؤل والبحث عن الجواب مع وجود كل الإمكانيات لذلك وكأن هذه الرواية تعبر عن حالة انتقالية بين العالمين، ولأن هذا الانتقال يتم بشكل غير واع ولعدم وجود فسحة تتسع لهذا الانتقال لسيطرة المجتمع الملحمي فهي تطلق إشارة تحذير بأن الانتقال سيحدث بشكل غير سلمي.. "وكأن القدر المكتومة كانت بحاجة إلى غزو ما، لكي تعبر عن ذاتها..".
الوطن- السعودية
14 مارس 2006م