مليحة الشهاب
(السعودية)

رهائن الغيب من منا ليس رهينة للغيب، ولذلك المجهول الحافل بالمفاجآت، ولتلك اليد التي تنسج المصائر دون إرادة منا.. ولذلك القدر الذي ينقض علينا قضاء محتوما؟. هذه بعض دوائر الأسئلة التي يفيض بها حجر العنوان حين تتلقاه البركة الغافية على مسلماتها فينا.

منذ العنوان، ومنذ الجملة الأولى؛ تُلقي الهيبة رداءها على القارئ كمن سيلج عالما تنسج تفاصيله يد ساحرة بخيوط الغرابة. أو كمن سيتلمس شيئا لا يدري على إثره سينفجر لغما أو تتفتح وردة.. ويمضي جازما بأنه الاثنان.

هل الرواية الجيدة هي التي تذهلك بجماليات سردها اللغوي والبناء الروائي الذي اعتمده الراوي..أم الأحداث التي تثري الرواية؟. أيا يكن فرواية رهائن الغيب لأمين صالح قامت على هذين المعيارين.
رهائن الغيب رواية كتبت بجمالية عالية وبشفافية كرهافة الروح حتى يختلط عليك الأمر وتشعر بأنك تقرأ شعرا خالصا. هذه الشعرية جعلت من هذه الرواية عملا يحمل استثنائية خاصة، وجعلت من السرد حالة من حالات التجلي عند تخوم تهمي بعناقيدها اليانعة كالمطر ساعة فيض .
وكأن أمين صالح بأسلوبه المفرط في الشعرية يعلن عن الطاقات الإنسانية الموجودة في واقع يبدو بسيطا لكنه معقد بفيوضاته أو عناصره الإنسانية المتباينة والمتداخلة، فإذا به ينتقل بنا من المحسوس إلى اللامحسوس والذي يشكل الأكثر عمقا والأشد تأثيرا والذي يسهم في تشكيل العلاقات الاجتماعية ويحدد مساراتها. وهو بالنهاية يقدم رواية تقوم برصد العالم الخارجي من خلال الغوص في العوالم الداخلية لشخصيات الرواية حتى يبدو أن الخارج ما هو إلا قشرة يفتضها ليبحر في الداخل وما يمور فيه لينعكس ويُسَير العالم الخارجي، وإن كان الحدث في هذه الرواية أحد الأعمدة التي تقوم عليها الرواية إلا أنه يبدو انعكاسا لذلك المخفي.

والراوي هنا يقدم شكلا روائيا وأسلوبا سرديا يقوم على البنية الشعرية أو الهذيان الشعري ليُكَوِّن له سمة خاصة تقوم -بالإضافة للشعرية- على التقنية السينمائية في مجاورة المشاهد والتنقل بينها. فالعنصر البنائي في هذه الرواية هو المشهدية السينمائية؛ عدسة كاميرا ترصد في لحظة زمنية عدة أماكن متباينة، بآلية فنية راصدة وراسمة للواقع؛ بشفيف روح شاعرة لينفتح أفق السرد على رؤية إبداعية تتجلى في لغة شعرية متكئة على عنصر المجاز.

بهدوء شديد ينسج الراوي أبرز محاور الرواية في مرحلة من مراحل الإنسان أو في طور من أطوار حياته التي يتدرج فيها وإليها وهي طور الانتقال من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الشباب.. وهي من أصعب المراحل لأنها تأتي كالفجأة وبقوة ولادة ثانية وتَشَكل مختلف، ودوران ينتهي بتغيير الزاوية البصرية التي ينظر من خلالها إلى الحياة و إلى معطياتها.

هذا الفاصل أو المرحلة الانتقالية هي البنية المركزية التي يقوم عليها السرد الروائي. ومحور الرواية يقوم أو يتشكل حول العمر الزمني الفاصل بين الطفولة والشباب؛ منطقة زمنية متنازع عليها بين نزق/ براءة الطفولة، وحماس/ رعونة/ طموح الشباب.. في هذه المرحلة العمرية التي تعبر عن نفسها بحالات تمردية قد تبدو مخيفة لكنها محاولة للتعبير عن الذات حينا وإثبات الوجود والكينونة المنفصلة حينا آخر.

وأمين صالح قام بإبراز أشد ما يحتاج إليه الشاب في مقتبل هذه المرحلة وهو الأب الذي يشكل هنا العنصر الثاني الذي قام عليه البناء الروائي.. والأب لا يأخذ شكلا واحدا بل طيفا من الوجود تتعدد ألوانه من الأب الصارم المعجون بالرأفة إلى ذاك الذي يتجرد من كل سمة أبوية إلى الحدّ الذي تراق فيه دماؤها.

هذه الطفولة التي تعبر جسر المراهقة إلى عمر الشباب، وفي الوقت الذي تعلن فيه احتجاجها وتمردها ونزقها وتخبطها، تصرخ بحاجتها إلى الوجه الآخر للأب، الوجه الذي يمعن الرجل العربي في إخفائه بقناع القسوة، هذا الوجه المتخفي حتى العدم تعلن تلك الطفولة حاجتها إليه بتمني أب بديلا : (يتطرق حميد إلى تلك الرغبة المهيمنة التي لا يستطيع مقاومتها، الرغبة في أن يكون له أب آخر، أب لا يهابه ولا يخشى أن يوبخه أو يزجره كلما سأله عن ألغاز الوجود). وإذا كان حميد يكتفي بتمني أب مختلفا فإن مفتاح يقدم على قتل أبيه والذي يمثل النموذج الأسوأ. ابن يقتل أباه؛ جريمة على الصعيد الإنساني ولكنها ليست حتمية بل هي استحقاق لأب تجرد من كل إحساس بالأبوة. ليس فقط من خلال الإيذاء المستمر للابن بل إهانة ذلك المقدس في عرف الطفولة وهي الأم. مما أحدث شرخا نفسيا أخذ يستطيل ويغذي وحش الانتقام. (فقد كان الوحشي فيه ينهش أحشاءه، رويدا رويدا قبل، قبل أن يخرج من الخفي إلى الهيولي، من العدم إلى الهباء. ولو أمعنوا النظر إلى رأس مفتاح، لشفّت جمجمته عن رأب كان يتسع شيئا فشيئا(.

وعند انقطاع الشعرة بين العقل والجنون كان ذلك الوحش ينفذ الاستحقاق في أب لم يكن أبا.. وبجنون مفتاح؛ كأن أمين صالح أراد أن يقول إنه لا يمكن لدم الرحم أن يراق إلا إذا كان في حالة جنون أو أن ارتكابه سيؤدي إلى الجنون (قيل لنا: جنّ مفتاح واقترف الإثم الأكبر. قيل لنا: إن مفتاحا كان يمشي زائغ العينين، جامد الحواس، مأخوذا بفتنة الشر. كان مبتلا حتى قمة رأسه بحليب الجنون، طافحا بالضلالة، يواكبه عمر من المذلة والضغينة، وفي كل مرة يرمي شلوا من ضميره، جاهرا بالباطل. وبقبضة مدهونة يشدّ على عنان حاضر يجمح كلما بان له قدر متملص كان يراوغه تلك الساعة).

ولقد استطاع أمين صالح، بلغة منفتحة على مكامن الطاقة الإبداعية للغة، أن يزاوج بين الواقع والغرائبي، فهذه خلود (طفلة في جسد يشف عن خمسة عشر ربيعا. استطال الجسد عاما بعد عام ليكسو روح طفلة تأبى أن تكبر. جسد ليس كالدرع حمي بل كالشراع تستدرجه الريح إلى مهب الظنون. طفلة مشبوهة أم أنوثة مقمطة؟. وحده القمر كان يبهر عينيها بوداعته وألقه. كانت ترنو إليه طويلا مفتونة بعريه، وكان هو يطل عليها بلا احتشام ولا ضغينة). الخبلة تحمل وتصر على أن الذي يرفس في بطنها ليس له أب سوى القمر الذي تتعرى أمامه ويراودها حين يكتمل بهاؤه.. لتخمد نار طالت بشررها جميع رجال القرية.. وهي (راحت تهيئ نفسها لأمومة غامضة)

وإذا كانت هذه الرواية تقوم على ثنائية سلاسة السرد وشعرنة الحدث، وثنائية الأبوة والبنوة، فهي أيضا تتضمن ثنائية الواقع والحلم. فالراوي يسرد الواقع ويتناوله كأرض خصبة للخيال ليرتقي به إلى شفافية الحلم بلغة حالمة شفافة وبنية سردية متوثبة .. فجاء سرد أمين صالح على منوالين؛ الواقع والحلم؛ سرد الواقع لحياة من هم على الخط الفاصل بين الطفولة والشباب، وسرد الحلم للواقع والمستقبل وللرغبات والأماني.
وتم ذلك بشكل متلازم مما قوى البنية السردية للرواية. وبين هذا وذاك نجح في نقل معالم الزمن الذي تتمسرح عليه أحداث الرواية عند مفصل تاريخي دون أن يدخل في دهاليز السياسة وإنما جاءت إشارة كمن يذكر تاريخ سنة ميلاد دون أن يتطرق إلى أحداثها السياسية.

على الرغم من عدم وجود إشارات واضحة تدل على المكان إلا أن روح المكان تعلن عن سماتها وخصوصياتها المنفتحة على كل الأماكن لاستبقائها على العناصر الإنسانية وكأن الروائي هنا قام بأنسنة المكان فالمكان يكتسب تفاصيله أو خصوصيته من خلال الذاكرة (ذاكرة المتلقي) ليظن كل قارئ أنها تروي حكاية أماكنه القديمة وينفض الغبار عن ذلك الحضور الأولي للأمكنة والأشياء.. فهو يذهب بعيدا في التعبير عن الأشياء حتى الخلق وكأنه يستنطق عذريتها فتبدو على غير المألوف وكأنها خلق آخر يضج بألوان الحياة.

(رهائن لا يعلمون أنهم رهائن).. بهذه الجملة يختم أمين صالح روايته ليقول لنا بعد أن ضرب مثلا من زنابق البشرية: إننا جميعا رهائن للغيب.

الوطن- السعودية
6 - 1- 2006


إقرأ أيضاً: