ربما كما يرى ميلان كونديرا إن الرواية صيغة تاريخية موازية للزمن الحديث؛ نهضت رواية فسوق لعبده خال، فمن خلالها حاول خال تسريد لحظة ممتدة وواقع استحكم وجوده حتى بدا كحقيقة أزلية غير قابلة للتبدل فضلا عن المساءلة، وجاء هو ليسرد ويهتك ويسائل بل ويحاكم، وهو بذلك يذهب بعيدا عن مهمة التسريد الروائي حتى في حده الأدنى، فهو لم يكتف بالكشف عن آثار تشكلات سلطة مهيمنة تقوم على فكر شمولي بل مخضعا إياها لرؤاه النقدية، مصطدما مع وعي اللحظة لتكوين معاصر يمارس هيمنته على الوجود الاجتماعي، ليخرج عن نية الروي إلى هاجس وضع المجتمع تحت طائلة النقد.
على الرغم من الحضور الكثيف لثيمة لحب (الذي تجسده أعذب الكائنات وأكثرها اضطهادا) إلا أن الرواية لم تكن نزوعا رومانسيا ولا تأملا شعريا لتلك الثيمة ، بل كانت الرواية محاولة جادة لفلسفة التشكلات الإنسانية بأطيافها الاجتماعية والنفسية على حافة التحولات أو ما يسمى بالكتابة من داخل اللحظة لحبك الواقع على منوال أدبي ، فخال أخذ الواقعة وأعاد تشيدها بحبكة قائمة على التلغيز، وقد كادت رواية فسوق أن تكون نموذجا لواقع معاد تخليقه في شكل روائي إبداعي لولا أن الراوي وقع في ما يشبه المحاكمة، بما نجد العذر للمبدع حين تتحول روايته إلى ساحة للتناحر بين تيارين لعدم وجود مساحات أخرى يستطيع المثقف أن يعلن عن رأيه دون أن يطاله ضرر ما.
هكذا تتبدى فسوق كعمل روائي متعدد على مستوى الفني والبنائي والأسلوبي، ففسوق كتبت بلغتين؛ لغة لولبية أخاذة حَوَل بها الراوي الأمر البسيط إلى غريب ومدهش، ولغة أخرى تميل إلى التقريرية ،أما الحبكة السردية فاستخدم لها أكثر من أسلوب محاولا إثراء الرواية وتعدد أبعادها: الأسلوب البانورامي ، وأسلوب الشهادات؛ حيث أعطى الراوي للشهود حق البوح بمكنونات ذواتهم ورؤاهم حول جليلة وقضية هروبها من قبرها، والأسلوب الثالث تمثل في الحوارات السجالية والتي من خلالها حاول قراءة مجتمعه ومعرفة الأسباب التي أدت إلى ما يظهر أنه على وشك التداعي، مجتمع يقوم على ثقافة " كل عضو يتعرى فهو في النار ".
وإن كانت رواية ما بعد الحداثة تنعدم فيها الفواصل بين ما هو اجتماعي وثقافي وفكري وتنظيري كعدسة تجميعية لنتاج مخيالي أكثر منه واقعي برؤية أيدلوجية ثاقبة؛ تعمل على التفكيك وإعادة التركيب وفق مزاج إبداعي متحرر من سطوة الأدلجة الفكرية والفنية، وقد نجح خال في سرد حكاية الجليلتين (جليلة الحبيبة وجليلة الإبنة) وفي سبر أغوار المجتمع وفي التفسير والتعليل والتنظير، لكنه لم ينجح تماما في تحويل روايته إلى بوتقة أدبية صاهرة لكل الأنماط السردية، التي استخدمها في بناء روايته، التي أتى إليها بنية الحفر في الذات الجماعية لمعرفة طبقاتها وعوامل تشكلها ومدى عمق حضورها المتشكل هوية منغلقة غير قابلة للانفتاح حتى على أفرادها.
" نقف معا في مكان رث لنستنشق هواء فاسدا " .. هذه الجملة أكثر من إهداء هي تقرير أشبه بالتأطير والتأكيد على الأجواء التي يثيرها العنوان في المخيلة.. ففسوق؛ بانوراما لجثث متفسخة تنبثق روائحها وسط مجتمع محافظ، وتنبئ عن حدوث شروخ خطيرة ومستشرية في بنيته " ها أنا أقف على جيفة جديدة في هذا البلد الذي يتحلل 8 " ..
فقد اختار عبده خال أن يسرد روايته من مركز الشرطة حيث فيه يجد المرء البلاد عارية ليختفي المجتمع المثالي ويتبدى مجتمعا مُرَوِعا بشروخاته العميقة، وبنزعة شبه تدميرية يذهب خال في محاولته لتعرية الواقع، فتموضع سرده خطابا مناهضا للسلطة المهيمنة لحراس فضيلة الأرض، حيث كان الهم الاجتماعي ضاغطا على وعي الراوي ومتحكما في مسيرة الرواية فكانت الشخوص تتحرك وفق رؤى الراوي وتنطق بأفكاره .
لم تكن فسوق التفاتة إلى الوراء كما يذهب ميلان كونديرا في تحديده للفعل الروائي، فخال يقدم كتابة متعمدة من عمق لحظة راهنة لإدانتها بمخيال خارجي، متمثلا في قصة هروب جليلة من قبرها. حيث تنهض رواية فسوق على محاولة فك لغز اختفاء فتاة من قبرها بعد يوم من دفنها وهذا الاختفاء سمي هروبا.. لكن هذه الحادثة الصغيرة، التي يتداعى بها وحولها السرد الروائي، بدت بوابة للولوج بالقارئ إلى عالم من الجثث التي كثر تفسخها في هذا المجتمع، ويقوم الراوي من خلال صديقيه فواز وأيمن بتحليل تلك الظاهرة، فقدم الكثير من الأفكار والتحليلات والنظريات (نظرية المحو والاجتثاث) والتي بدا أنه ابتعاد عن القضية الأصلية وهي فك لغز هرب جليلة من قبرها والتي يصفها على لسان صديقه أيمن، هذا الضابط الذي فصل من عمله لأنه أخلى سبيل رجل وامرأة قامت الهيئة بالقبض عليهما حيث وجد أن الضرر يفوق الإصلاح .. "هذه الفتاة ضحية التعسف وعشوائية الإصلاح.. فحين تم القبض عليها والتشهير بسمعتها لم يعد أمامها إلا طريقين إما الانغلاق التام أو البغاء.." ..فجاءت الرواية بما يشبه البيان عن "قضايا يمكن حلها بالنصيحة دون إدخال أصحابها إلى نفق الجريمة.. كم أسرة تم تقويضها من خلال حلولهم .. هكذا من خلال أمزجة أفراد وليس وفق أنظمة وقوانين دولة .. " ..
عبده خال لا يكتفي برصد حركة الحجر عند سقوطه على السطح بل يتابع تموجات الدوائر واتساعاتها الناجمة عن ذلك السقوط لتتجاوز الرواية أن تكون حكاية فرد بل تغدو سيرة مجتمع، والسيرة ليست قول شخص بل مجموعة من الأقاويل (الروايات) التي تختلف باختلاف الراوي وموقعه وحجمه ومسافة البعد والاقتراب من الحدث لكن باجتماعها تعطى الصورة بأبعادها المختلفة.. لذا جاءت شهادات أهل الحي عن جليلة وعن أسباب هروبها،تلك الشهادات كانت تتنافر حد التناقض وتتراوح بين حدي الفضيلة المطلقة وتمام الرذيلة .
تكمن متعة فسوق في أن الرواية تقوم على لغز اختفاء فتاة من قبرها وأثناء محاولة فك هذا اللغز تنثال العديد من القصص والحكايا وما يستتبعها لما بدا أنه ظاهرة تستشري في مجتمع محافظة، لتكشف عن ما يختزنه في العمق من سلوكيات ملتبسة، والتي تجتهد في التعبير عن ذاتها في الخفاء تجنبا للاصطدام بالمجتمع، لكن ذلك المجتمع الذي يرى أن الحب تهتك وابتذال، يحترف تعقبها ويتعمد التشهير بسلوكياتها مؤمنا بفكرة وجوب طهورية المجتمع وبقائه ساكنا عند الحدود التي صاغها أسلافه.
قال عبده خال في ما يبدو أنه تمجيدا للقرية بوصفها النقاء الذي يعلو فيه الحس الإنساني في مقابل المدينة المناقضة واصفا إياها في إحدى رواياته " المدينة تعلمنا القذارة".. لكنه جاء في فسوق بصورة مغايرة عن المدينة فلم يصفها بأم الشرور بل هو أكثر موضوعية، ليكتشف أن الخلل ليس في المدينة بل في التركيبة الذهنية والنفسية لمن يقطنها دون أن يحمل سماتها المتمثلة في الانفتاح والبرغماتية والحرية ،ذلك الأمر الذي اسماه خال بالاجتثاث وهي الكلمة الأكثر حضورا في الرواية، فتشكلت العامود الثالث الذي نهضت عليه الرواية بعد لغز هروب جليلة من قبرها والتداعيات الاجتماعية لدور من يحمل نية الإصلاح بوسيلة خاطئة. الاجتثاث نظرية حاول عبده خال على مدار عدد كبير من الصفحات ومن خلال حوارات سجالية أن يفسر به ما يرى أنه التصدعات العميقة في مجتمع محافظ .." حينما استدعت المدينة البدو والريفين ، حدث اجتثاث؛ تم نقل ثقافة ساكنة إلى ثقافة متحركة.. فقاموا بردة فعل عكسية واجتثوا عنصر التطور من تلك الحياة ليحولوا كل فعل إلى عادة.. وحين وجد القادمون إلى المدينة أنهم مطحونون بين ساكن ومتغير اختل توازنهم النفسي 100 " ..
إذا العميق الهاجع على يقينياته في مقابل السطح الذي لا يعرف سوى النسبي والمتعدد والمجزوء والجديد الملتبس ..
العميق الهاجع على الثبات واليقين والتقليد؛ كمقدمات تنتهي إلى الخوف من الحرية؛ التي تعني أولوية الحركة على الثبات والشك على اليقين والجديد على القديم، هذا الجديد الذي يحمل في كينونته التمرد على القديم الثابت فلا يمكن الأخذ بالجديد دون إحداث التغيير في البنية التي تستقبله وتستخدمه وهذا ما لم يحدث، فالحداثة "في مجتمعات العالم الثالث" تقتصر على ظواهر الأشياء تاركة البنية دون تبدل، مما أحدث تصدعات متعددة المستويات في المجتمع الذي كما يصفه فيصل دراج بأنه مجتمع فاتته الحداثة التاريخية ولم تغيره الحداثة الهجينة .. لذا "تخشى المجتمعات الخائفة والمهزوزة من التغيرات والتقلبات وتبحث عمن يبقي تجمدها" فالعميق الساكن يواجه السطح بما يفيض عليه وبه من متغيرات معقدة وسريعة التبدل ويحاول أن يبقيه ساكنا مما يعني أن المجتمع " يموت لأنه اختار السكون " .. فالتغير والتطور هما سمتا الحياة وحينما نرفضهما فهو الموت.. وحينما تغلق الأبواب يغدو الموت الطريق الوحيد للحياة ؛بهذه الفلسفة استفتح خال روايته فسوق " فحين أغلقت كل الطرقات أمام حبها بحثت عن قبر لتهرب منه إلى الحياة .." كإشارة تنبيه بأن للحياة طرقها السرية.
وبعد أن صور الراوي العطب في النسق الاجتماعي ، وسجل الانشطار الناجم عن الإصرار على الثبات في ظل قوى الجذب المهولة التي يواجهها المجتمع في جميع تفاصيل حياته ، وإن كانت المشكلة نابعة من أن أفراد المجتمع كائنات مجتثة من بيئتها لتستوطن بيئة مغايرة، فإن الإصلاح يأتي من "اجتثاث الأفكار المغذية لبنية فكرية غدت بالية وغير قادرة على التواصل مع الأفكار المستحدثة دينيا واجتماعيا 162 " حيث لا يمكن إدارة أي شيء حديث بأداة وعدة قديمة .