(في مذكرات زهرة لخلات أحمد)

مليحة الشهاب
(السعودية)

خلات أحمد( هنا بعض وطن ، بعض أنثى ، ومذكرات زهرة تظل تتناهد إلى الشعر ) ..
لم أجد أبلغ من هذه الكلمات، كلمات الشاعرة خلات أحمد لوصف كتابها المعنون بـ(مذكرات زهرة الأوكاليبتوس).. حيث ذكرى الوطن بغيابه الجارح والأنوثة بأيروتيكيتها؛ العنصران المشكلان للكتاب.. فمذكرات زهرة يتكون من جزئيين؛ شعري وسردي، وقد جاء الأخير مزيجا من الحكاية والتوصيف وأبيات شعرية مع قصائد مترجمة لشعراء أكراد .
خلات تستهل كتابها بالشعر حيث هي شاعرة في أقاصي تجلياتها الوجدانية، فهي المرأة التي تنتظر الحب وتقف على مشارفه بجنون، وقانية حين تقع في الحب حتى الأقاصي

"قانية
كانت أزهاري هذا العام
أفلا تمر من هنا؟
لأبذل لك حياتي
حلمة، حلمة".

وعندما يخذلها الحب حدّ الانكسار تحتفظ بشموخها الأنثوي الذي يباغت المرأة ساعة انكسارها....

"بعد قليل
ستكون الأمور في مواضعها تماما
لن أحتاج إلى الانتظار أكثر
وسيكون للماء أن يستعيد سطحه
بعد دقيقة واحدة من الاصطدام "

وخلات لحظة الالتصاق بذاتها تجيد العزف على أوتار اللغة ، وتتجنب الإطالة كي لا تفسد الدلالات التي كثفتها في قصيدتها التي تتشكل ومضة كالصرخة الأولى ، لذا اختارت قصيدة النثر حيث يتعالى التوتر اللغوي الذي يشكل صدمة للقارئ تفتح له فضاءات من المعاني والإيحاءات المتشظية ،فهي تترجم كل ما تريده في ومضة شعرية ، وبهدوء مشوب ببساطة ؛ تسكب النار قطرات مصفاة ، تظل مشتعلة ؛ جذوة لا تنطفئ كحكمة استعصت على التأويل ..
وفي قصائدها المهجوسة بالشبق ، وحضور الجسد في حالته الأيروتيكية، لم تكتف الشاعرة بالتوحد مع الطبيعة واتخاذ عناصرها رمزا لأشيائها بل كانت تعيد الفرع إلى أصله .. فما الأنثى إلا امتدادا للطبيعة التي تمنح الحياة، بل أكثر من ذلك ما الطبيعة إلا أنثى تشبهت بالمرأة واتخذت أشياءها عناصر تُكَوِنَها وتتجمل بها.. وإحساسها بالطبيعة يتكثف حدّ التماهي وتقوم بشعرنتها في محاولة تصعيدية لقيمها .. تغرم بالشجرة وتداعبها ثم تقاسمها سيرة التراب (الشجرة التي سأغرم بها بعد قليل/ داعبتني بكل عصافيرها/ وقاسمتني سيرة التراب) لتغدو كل الأشجار هي (أنا شجرة الرمان النحيلة.. شجرة الزان.. شجرة الكستناء .. أنني تينة..أنا توتة .. أنا جنية الثمر..) ..
في الجزء المعنون بـ (قامتي الرمح المزين بألف جديلة)؛ رسائل عشقية متبادلة بين عاشق ومعشوقته ، وفيها النثر يتناهد إلى الشعر حدّ الوصول إليه والتعالق معه ( أناديك في خفقة جناحيك خارج دائرتي . أسند قلبك كل مساء، وأظل كالشرانق أستسقي اللون في شهوة الحرير لتنضج لك كل نساء الأرض فيّ حين أنت لي. وأنسى / أن أسير مستقيمة منذ علمتني الدوائر )

ما أشقى الإنسان الذي لا يرى أمامه كلما تقدم إلا القديم كما يقول أدونيس ، وربما هذا ما تجسده خلات في مذكرات زهرتها ، ففي الجزء الثاني من الكتاب والذي كان له النصيب الأوفى منه ؛ حكاية مدينة كردية تسردها ذاكرة مثقلة بالحزن والوجع والحنين وصور تجرح الروح .. وهنا يعلو السرد على الشعر ، والوصف على التجلي ، والحكي على الاختزال والتجاوز وعتمة الإضاءات .. خلات ذاكرة مشروخة بحزن الغياب والتشرد ، وهي تسرد عبر ذاكرة تتداعى بصور متوالية ؛ راوية لأحداث تاريخية دامية تنفي وجودا إنسانيا ، ويبقى الحنين هو الإصبع الضاغط على زر الذاكرة لتبقى متوالية الصور تتابع ويتتابع معها الحالة السردية الغارقة في التأمل .. ففي سردها تروي حكاية مكان تعرض لزلزال تاريخي بشكل تراجيدي ، اختلطت الدماء بماء النهر فجففته وغرق وطن في كوة النسيان وتأتي هذه الذاكرة الحية بجراحها النازفة بحرارة الفقد المتدفق منذ سنوات راصدة عمق الألم والفجيعة بلغة سلسة ، وسرد يخالطه الشعر مرآة تعكس روح الفجيعة ببعدها الإنساني .. تصف الجمال الطبيعي للأمكنة ، وتباغتك بقسوة الدمار الذي ترصد له ..
(ديرك، زور آفا، أوكيش، ديرسم، هولير عامودا، مشه..الخ) هذه بعض أسماء وقرى ومعالم في كردستان وكأنها لفرط غيابها عن الحضور تبدو للقارئ العربي وكأنها أماكن ولدت ما قبل التاريخ واندثرت في طياته ..
ولأن الأمر أكثر من حالة نستولوجية فارطة بل حالة رصد واعية متحفزة لذا شَكَلَّ السرد مساحة كبيرة من صفحات الديوان حتى بدا وكأن الشعر حلّ ضيفا عليه ، وقد تستغرق خلات أحمد في الهم الوطني فتنغمس في الإسهاب الوصفي المباشر وكأن تواصلها في الفجيعة أعجزها عن أن تستخدم روحها الشاعرة في تصعيد الأسلوب السردي لكنها تستدرك من الاسترسال وتبعد عن القارئ شبح الملل فتمنحه شيئا من لذة المفاجأة بمنحى شعري حيث تذيل سردها بأبيات شعرية بل تتجاوز إلى إيراد قصائد مطولة قامت بترجمتها لشعراء أكراد ..ربما هي تحاول أن تمد جسرا بين السرد والشعر كحالة تكاملية أكثر منها تجاورية..
ثمة حضور قوي لتفاصيل اللحظات الأخيرة لذلك الدمار التاريخي الذي وسم وعي الشاعرة ، وبقي كتابا مقدسا تقرؤه كل حين وتظل مشدودة إلى عزفه الأخير في الوقت الذي تغرق في لحظتها الراهنة بفيوضات أيروسية.. فهي بين ماض وحاضر حيث يغيب الغد في سرابية حيث لا وطن نساءل المستقبل عنه .. وهي في سردها المتماوج مع الشعر تجلي السواد عن الأمكنة بزخمها الإنساني ، تستعاد ليتأكد الغياب ويكبر الحنين فيما جفت ضفاف النهر الذي تروي مسيرته الدروب التي عبرها بكرم باذخ وتبقى الذاكرة رهينة تلك الأماكن التي لا تغيب ؛ تدلل على عبثية ما حدث وكأنه مثلوجيا فقدت حقيقتها ..

وأمام هذه النثرية المتماوجة مع الشعر وبه نتساءل ؛ هل خلات أحمد استطاعت أن تؤسس مفردة شعرية ذات خصوصية كردية مرتبطة بالتراث الكردي وتحمل سماته الثقافية والأيدلوجية وحتى مكانزمانيته ، بمعنى هل نجحت الشاعرة بنثرها الذي اتخذ السرد مطيته وهو يحاول السير في فضاء الشعر ؛ في تحويل تراث الكرد وميراثه الكبير من الألم والتشرد إلى (مقولات جمالية تبوح بلحظتها الراهنة بالقدر الذي تكون مشدودة إلى تراثها نفسه) بحسب معايير الناقد محمد الحرز كشرط لتمايز الصوت الشعري لحظة اتحاده بالموروث وتصعيده له ..؟

ونحن عند المشارف الأخيرة يتقاسمنا الشعر والنثر /الأنثى والوطن، فيتجاور فينا لذة النشوة و ألم الفقد.